رمضان والنصرة (بين نصرة الأمس وخذلان اليوم)

منذ 2014-06-07

إذا استضيم مسلم أو أهين وجب على جماعة المسلمين بذل النصرة له بما يستطيعون {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} [الأنفال:72]، وفي إسلام المسلم لعدوه، والتخاذل عن نصرته قول النبي صلى الله عليه وسلم: «المُسْلِمُ أَخُو المُسْلِمِ لاَ يَظْلِمُهُ وَلاَ يُسْلِمُهُ» (رواه الشيخان عن ابن عمر رضي الله عنهما)، وهذه النصرة حق للمسلم على أخيه المسلم إذا دهمه عدو فاستباح دمه أو عرضه أو ماله.

الحمد لله القوي العزيز، ينصر أولياءه، ويكبت أعداءه {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ المُؤْمِنِينَ} [الرُّوم:47] نحمده فهو أهل الحمد، ونشكره فنعمه تزيد بالشكر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، جعل رمضان شهر المواساة والرحمة، والنصر والنصرة، وأوجب على المسلم نصرة أخيه المسلم، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، جمع الله تعالى به القلوب بعد افتراقها، وهدى به من ضلالها، فأزال شركها، ورفع جهلها، وعلمها ما ينفعها {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [الجمعة:2] صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.

أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، واغتنموا الأوقات الفاضلة فيما يرضيه، وحققوا من الصوم معانيه.. فصونوا أنفسكم عن المحرمات، وتسابقوا إلى الطاعات، وأكثروا من القربات، فليس العمل الصالح في رمضان كمثله في غيره، وجزاء العمل الصالح خلود في جنات النعيم {وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:82].

أيها الناس: جعل الله تعالى رابطة الإيمان أقوى رابطة، فتُقطع كل الروابط بسببها، ولا تُقطع هي بسبب أي رابطة أخرى، وبرهان ذلك قول الله تعالى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آَبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [المجادلة:22]، وقوله تعالى: {وَالمُؤْمِنُونَ وَالمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة:71]، وقوله تعالى: {إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10].

وإذا استضيم مسلم أو أهين وجب على جماعة المسلمين بذل النصرة له بما يستطيعون {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} [الأنفال:72]، وفي إسلام المسلم لعدوه، والتخاذل عن نصرته قول النبي صلى الله عليه وسلم: «المُسْلِمُ أَخُو المُسْلِمِ لاَ يَظْلِمُهُ وَلاَ يُسْلِمُهُ» (رواه الشيخان عن ابن عمر رضي الله عنهما)، ولمسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه: «الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يَخْذُلُهُ».

وهذه النصرة حق للمسلم على أخيه المسلم إذا دهمه عدو فاستباح دمه أو عرضه أو ماله، وللمسلمين عدوان: عدو ظاهر وهم الكفار، وعدو باطن وهم المنافقون، وهم الأخطر والأشد على الإسلام، لأنهم يحاولون هدمه من داخله، ويكونون مع المؤمنين في الرخاء، وينقلبون عليهم في الشدائد، ولذا قال الله تعالى فيهم: {هُمُ العَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ} [المنافقون:4]، وأشد المنافقين خطرًا على الإسلام والمسلمين: الفرق الباطنية التي أسسها اليهود وغذوها حتى قويت وتشظت إلى فرق وملل شتى يجمعها تبديل الدين، والكيد للمؤمنين..

ورمضان الكريم كان موضعًا لحادثة عظيمة تجلت فيها النصرة في أجمل صورها، وأعظم تضحياتها، وذلك في أوليات القرن الثالث الهجري حين خرج الخليفة العباسي المعتصم بنفسه يقود جيشًا عرمرمًا لنصرة قوم من المسلمين استضعفوا فأذلوا وأهينوا، حتى كتب شاعر منهم قصيدة يستنهض بها الهمم، ويحرك الأشجان، ويشكو الظلم والضيم، وينتخي المسلمين بإنقاذ كرامة دنست، وأعراض انتهكت، وأطفال ذبحت..

وبلغ تحريك القلوب غايته، ووصلت إثارة الغيرة إلى ذروتها بصريخ امرأة مسلمة مستباحة تستنجد بالخليفة نفسه، وتستصرخه على الذل الذي أصابها، والعلج الذي دنسها، فتحركت المروءة، ودبت الغيرة، واشتعلت الحمية الدينية في بيت الخلافة العباسية، فأمسك الخليفة المعتصم عن شئونه، وصار ما بلغه من ظلم ضعفة المسلمين يؤرقه، وتتردد أبيات المستغيثين به في أذنه، فتزيدها ألمًا وتحريضًا صرخات العفيفة وهي تستنجده، فكتب وصيته، ورتب قادته، وجمع جنده، وودع أهله، ويمم شطره تجاه صرخات المستغيثين من المسلمين يروم إنقاذهم، في عمورية من بلاد الروم، وكانت تسمى القسطنطينة الصغرى من عظمتها عند أهلها، وشدة تحصينها، وكثرة بنيانها، وهي آنذاك أعظم من القسطنطينية.

وكان في طريقه إليها جمع من الباطنية قد استولوا على بعض الديار في أذربيجان وما حولها، وخفروا ذمة الإسلام، وأظهروا النفاق، واستباحوا الدماء والأعراض، ومالئوا البيزنطيين النصارى على المسلمين..

كان من أولئك الباطنيين بابك الخرمي زعيم الباطنية المحمرة الذي استباح وطائفته المسلمين ثنتين وعشرين سنة، فقتل منهم ما يقارب مئتين وستين ألف مسلم، وأسر الألوف منهم، واستحل وفرقته الخبيثة أكثر من سبعة آلاف امرأة عفيفة من حريم المسلمين، وفعلوا بهن الأفاعيل، حتى إن الإمام أحمد رحمه الله تعالى تألم لذلك وأفتى بقنوت النوازل لما أصاب المسلمين منه، ودعا المسلمين للدعاء عليه في الصلوات المفروضة.

فبدأ المعتصم ببابك الخرمي الباطني وأتباعه، لأن أذاهم على المسلمين كان أشد من أذى النصارى، ولأنه كان يعلم أن الباطنيين كانوا حلفاء النصارى البيزنطيين على المسلمين، وأنه إن جاوزهم بجيشه طعنوه من خلفه، وأعانوا النصارى عليه.. فبدأ بهم قبل النصارى، ووجه قادته لقتالهم والقضاء عليهم، نصرة للمستضعفين من المؤمنين، ففل المسلمون جيوشهم، وفرقوا جموعهم، وكان ذلك في رمضان المبارك عام اثنين وعشرين ومئتين للهجرة، ولكن كبيرهم بابك الخرمي هرب واختفى، حتى أمكن الله تعالى منه بعد سبعة أشهر، فقبض عليه المعتصم، وقطع أطرافه، ثم قتله وصلبه، وشفى صدور المؤمنين والمؤمنات منه.

وقضى أيضًا على حركة الباطني بطبرستان مازيار الذي أحيا المجوسية، ودعا إلى شعائرها من خلال مذهبه الباطني، فقتله وصلبه بجانب بابك الخرمي..

ولحق من بقي من المحمرة الباطنية بجيوش النصارى، وصاروا من جندهم في قتال المسلمين، وحرضوهم على المسير إلى عاصمة الخلافة بغداد باعتبار أن الخليفة وجيوشه قد خرجوا منها لقتال الباطنيين ثم النصارى، وناوش النصارى ما حولهم من بلاد المسلمين فقتلوا فيها وسبوا بتحريض الباطنيين..

وهذا هو دأب الباطنيين على مر التاريخ يعينون الأعداء على المسلمين، ويكونون جندًا لهم.. فإن ظفروا وظهر أمرهم فإنهم لا يرقبون في مؤمن إلًا ولا ذمةً، ولا يفون لهم بعهد، ولا يرعون لهم حرمة، ولا يرحمون من انتسب للإيمان طفلًا كان أم امرأة أم شيخًا كبيرًا..

وبعد أن قضى المعتصم على الباطنيين، واستولى على حصونهم، وهرب من بقي منهم إلى النصارى توجه إلى عمورية إجابة لصرخة العفيفة، وتلبية لندائها، وتأثرًا بقصيدة المضطهدين من المسلمين فيها، فضرب الحصار عليها، ودكها بالنيران حتى هدم حصنها، ودخلها المسلمون في السادس من رمضان عام ثلاثة وعشرين ومئتين، ففتح الله تعالى عليهم فتحًا مبينًا، وكان هذا الفتح من أعظم فتوح المسلمين، فدخلها المعتصم وهو يقول: لبيك لبيك، إجابة للمرأة التي استنجدت به واستنصرته، وطلب صاحب الأسيرة الشريفة، فضرب عنقه، وفك قيود المرأة بنفسه.

لقد كانت هذه النصرة للمستضعفين في عمورية، وإجابة المرأة المستصرخة، ونجدتها وتخليصها من الأسر، وتسيير جيش جرار يقوده الخليفة بنفسه أعظم منقبة انفرد بها المعتصم من بين سائر خلفاء بني العباس، ولا يزال أهل التاريخ يذكرونه بها، ويثنون عليه بسببها منذ القرن الثالث إلى يومنا هذا..

وقعت هذه النصرة في رمضان، وكسر النصارى والباطنيون في رمضان، شهر النصر والنصرة.. وكم في رمضان الحاضر من مسلم مستصرخ ومسلمة مستصرخة لا يجدون من يسعفهم وينجدهم، فلله الأمر من قبل ومن بعد، نسأل الله تعالى أن يكشف الغمة، وأن ينصر الأمة، وأن يعز الملة، وأن يرفع الذلة، إنه سميع مجيب..

وأقول قولي هذا واستغفر الله العظيم لي ولكم..



الخطبة الثانية:

الحمد لله حمدًا طيبًا كثيرًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.

أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، وأكثروا في هذا الشهر الكريم من الدعاء لإخوانكم المستضعفين، فإن الدعاء لهم من النصرة، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو للمستضعفين من المؤمنين.

أيها المسلمون: قبل أن يسير المعتصم إلى عمورية لفتحها ونجدة المؤمنين فيها اجتهد في القضاء على الباطنيين، وهكذا فعل صلاح الدين في فتح بيت المقدس وتخليصه من الصليبيين، فإنه قضى على دولة العبيديين الباطنية في مصر، وهي التي كانت سببًا في سقوط القدس في أيدي الصليبيين.. وما فعل قادة المسلمين ذلك إلا لعلمهم بغدر الباطنيين، وممالأتهم لأعداء المسلمين، وحينما كانت جيوش العثمانيين تدك أسوار فيينا لتتوغل في قلب أوروبا طعنهم من خلفهم إسماعيل الصفوي الباطني فاضطروا للتقهقر والتراجع، فأنقذ الباطنيون أوربا من السقوط في أيدي المسلمين..

وتعود أحداث التاريخ مرة أخرى، فالطائفة النصيرية -التي خانت المسلمين فسلمت الجولان لليهود في بلاد الشام المباركة- قد أتمت أربعة عقود وهي تذل المسلمين وتهينهم، وتستبيح دماءهم وأعراضهم، وفي شوارع مدن الشام وأزقتها مناظر مفجعة من تساقط الجثث، وتمزيق الأطفال، وهتك حرمات بيوت الحرائر العفيفات، ويستصرخن ولا صريخ لهن ولا منقذ، رغم أن مليار مسلم وزيادة يشاهدونهن عبر الشاشات، ويسمعون صريخهن، فما أعظم الذل! وما أشد الهوان! وما أقل الحيلة لأمة صارت غثاء كغثاء السيل إلا ما رحم الله تعالى.

وفي ليبيا بلد المختار، ورجاله الأبطال الذي مرغوا أنوف الطليان في التراب، جيء بطاغوتها العبيدي الباطني وهو شاب صغير ليقطف ثمرة الجهاد، وليتسلط على الرقاب والأعراض، فيحكمها بالحديد والنار أربعة عقود أيضا، ويعلن سعيه لإقامة الدولة العبيدية الباط?ية التي ينتمي إليها، ويعمل بعمل حكامها..

وقد صدق الفقيه المحدث أبو بكر ابن النابلسي حين أوقفه المعز العبيدي الباطني فقال له: بَلَغَنِي أَنَّكَ قُلْتَ: لَوْ أَنَّ مَعِي عَشَرَةُ أَسْهُمٍ لَرَمَيْتُ الرُّومَ بِسَهْمٍ، وَرَمَيْتُ الْمُعِزِّيِّينَ بِتِسْعَةٍ.
فَقَالَ: مَا قُلْتُ هَذَا.
فَظَنَّ أَنَّهُ قَدْ رَجَعَ، قَالَ: كَيْفَ قُلْتَ؟
قَالَ: قُلْتُ: يَنْبَغِي أَنْ يَرْمِيَكُمْ بِتِسْعَةٍ، ثُمَّ يَرْمِيَكُمْ بِالْعَاشِرِ.
قَالَ: وَلِمَ؟
قَالَ: لِأَنَّكُمْ غَيَّرْتُمْ دِينَ الْأُمَّةِ، وَقَتَلْتُمُ الصَّالِحِينَ، وَادَّعَيْتُمْ نُورَ الْإِلَهِيَّةِ.
فأمر المعز يهوديًا بسلخه، فسلخه وهو حي، وكان صابرًا محتسبًا إلى أن لقي الله سبحانه، رحمه الله تعالى رحمة واسعة..

ومن رأى أفعال الباطنيين بالمسلمين في سوريا وليبيا والعراق وإيران ولبنان علم ما تكنه قلوبهم من الضغينة والحقد على المسلمين، وأنهم لا يتورعون عن قتل أطفال المسلمين، وتمزيق أشلائهم، والتلذذ بعذابهم، واستباحة أعراضهم، كفى الله تعالى المسلمين شرهم، وكسر شوكتهم، وأذهب ريحهم، وخلص المستضعفين من براثنهم، إنه سميع مجيب..

وصلوا وسلموا على نبيكم..

المصدر: مجلة البيان