رمضان وصناعة الأخلاق

منذ 2014-07-08

العبادات التي شرعت في الإسلام، واعتبرت أركانًا في الإيمان به، هي في حقيقتها تمارين متكررة لتعويد المسلم أن يحيا بأخلاق صحيحة، وأن يظل متمسكًا بهذه الأخلاق مهما تغيرت أمامه الظروف.

من أجل حكم الصيام غرس القيم والفضائل والخلق الحسن في نفوس الصائمين، وحسن الخلق من أجمل ما يتجمل به المسلم، ويعيش به حميدًا بين الناس، محمودًا عند الله.
عن أنس بن مالك رضي الله عنه: عن رسول الله صلى الله عليه سلم قال: «عليك بحسن الخلق وطول الصمت، فوالذي نفسي بيده ما تجمل الخلائق بمثلهما» (حديث حسن، رواه أبو يعلى في مسنده وحسنه الشيخ الألباني).

والإنسان مأمور بتزكية نفسه وتطهيرها، فتزكيتها طريق الفلاح، قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا.  وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا} [الشمس:9-10]، وكان من دعائه صلى الله عليه وسلم: «اللهم آتِ نفسي تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها» (رواه مسلم).

وحسن الخلق وتهذيب النفس هو غاية الرسالة، فلقد حدد رسول الله صلى الله عليه وسلم الغاية الأولى من بعثته والمنهاج المبين في دعوته بقوله: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» (أخرجه الإمام مالك).

والعبادات التي شرعت في الإسلام، واعتبرت أركانًا في الإيمان به، هي في حقيقتها تمارين متكررة لتعويد المسلم أن يحيا بأخلاق صحيحة، وأن يظل متمسكًا بهذه الأخلاق مهما تغيرت أمامه الظروف.

والقرآن والسنة يكشفان بوضوح عن هذه الحقائق، فقد بين الله الحكمة من الصلاة التي هي عماد الدين فقال: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ ۖ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ‌} [العنكبوت: 45]

والزكاة ليست ضريبة تؤخذ من الجيوب، بل هي غرس لمشاعر الحنان والرأفة، وتوطيد للعلاقات والألفة بين شتى الطبقات، قال -تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُ‌هُمْ وَتُزَكِّيهِم} [التوبة: 103].

والصوم ليس حرمانًا مؤقتًا من الطعام والشراب، بل هو خطوة لحرمان النفس من الشهوات المحظورة والنزوات المنكرة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه» (رواه البخاري).

والقرآن يذكر ثمرة الصوم في قوله: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:138].

والحج أيضًا من حكمه غرس الفضائل والأخلاق، قال تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ‌ مَّعْلُومَاتٌ ۚ فَمَن فَرَ‌ضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَ‌فَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ۗ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ‌ يَعْلَمْهُ اللَّـهُ ۗ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ‌ الزَّادِ التَّقْوَىٰ ۚ وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} [البقرة:197].

فهذه الأركان والفرائض وإن اختلفت في جوهرها ومظهرها، لكنها تلتقي عند غاية واحدة هي: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق».

ولقد رتب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم على حسن الخلق أجمل الثمرات وأحسن الفضائل:

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أثقل ما يوضع في الميزان يوم القيامة تقوى الله وحسن الخلق» (حديث صحيح أخرجه أبو داود).

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن المسلم المسدد ليدرك درجة الصائم القائم بحسن خلقه وكرم مرتبته» (حديث صحيح رواه أحمد).

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا الموطئون أكنافًا، الذين يألفون ويؤلفون، ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف» [حسن رواه الطبراني].

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلسًا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقًا، وإن أبغضكم إلي وأبعدكم مني يوم القيامة الثرثارون والمتشدقون والمتفيهقون». قالوا: "يا رسول الله، وما المتفيهقون"؟ قال: «المتكبرون». (حديث حسن رواه الترمذي وحسنه الألباني).


وقد ورد في حسن الخلق عن الصالحين والتابعين أقوالًا جميلة وفضائل عظيمة، منها:

قال الإمام الجنيد رحمه الله: "أربع ترفع العبد إلى أعلى الدرجات وإن قل عمله وعلمه: الحلم، والتواضع، والسخاء، وحسن الخلق، وهو كمال الإيمان".

وقال الفضيل بن عياض رحمه الله: "لأن يصحبني فاجر حسن الخلق أحب إلي من أن يصحبني عابد سيء الخلق".

وقال يحيى بن معاذ الرازي رحمه الله: "في سعة الأخلاق كنوز الأرزاق".

وقال الحسن رحمه الله: "من ساء خلقه عذب نفسه".


والسؤال الآن: هل يمكن اكتساب الأخلاق؟ أم أنها طبائع طبع الله الناس عليها؟

قال الإمام ابن القيم رحمه الله: "فإن قلت: هل يمكن أن يقع الخلق كسبيًا؟ أو هو أمر خارج عن الكسب؟ قلت: يمكن أن يقع كسبيًا بالتخلق والتكلف حتى يصير له سجية وملكة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لأشج بن عبد قيس: «إن فيك خلقين يحبهما الله، الحلم والأناة»، قال: أخلقين تخلقت بهما؟ أم جبلني الله عليهما؟ فقال: «بل جبلك الله عليهما»، فقال: الحمد لله الذي جبلني على خلقين يحبهما الله ورسوله. (متفق عليه).

ولذلك كان من دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم:«اللهم اهدني لأحسن الأخلاق لا يهدى لأحسنها إلا أنت، واصرف عنى سيئها لا يصرف عنى سيئها إلا أنت» (رواه مسلم).

وبعد، فقد وجب على كل مؤمن أن ينتهز فرصة رمضان ليدرب نفسه على مكارم الأخلاق، حتى يصير حسن الخلق من سجاياه، وتصير الفضائل طبعًا فيه.
 

محمد عبد الفتاح عليوة