الجوع جند من جنود الله

منذ 2014-06-08

إن جنود الله لا عد لها ولا حصر {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر: 31]، {وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [الفتح: 4]، ومن تلك الجنود (الجوع) يسلطه الله تعالى على من يشاء من عباده.

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين نبينا محمد، وعلى آله، وصحبه أجمعين أما بعد:

فإن جنود الله لا عد لها ولا حصر {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر: 31]، {وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [الفتح: 4]، ومن تلك الجنود (الجوع) يسلطه الله تعالى على من يشاء من عباده إما:

1/ عذابًا:
كما في قوله تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل: 112].

2/ وإما ابتلاءً وامتحانًا:
 قال تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} [الأعراف:130].

 وقال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ . الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ . أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة: 155-157].

 وقال تعالى: {يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ . قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ . ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ . ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ} [يوسف: 46-49].

 وللجوع مع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه سير وعبر، فعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، أي الناس أشد بلاء؟ قال: «الأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَلُ، فَيُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَإِنْ كَانَ دِينُهُ صُلْبًا اشْتَدَّ بَلاَؤُهُ، وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَمَا يَبْرَحُ البَلاَءُ بِالعَبْدِ حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الأَرْضِ مَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ» (رواه أحمد (1481) والترمذي (2398) وابن ماجه (4023) قال الترمذي (حديث حسن صحيح) وصححه ابن حبان(2900)).

 عن الن?مان بن بشير قال: سمعت عمر بن الخطاب يخطب فذكر ما فتح على الناس فقال: "لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَلْتَوِي يَوْمَهُ مِنَ الْجُوعِ مَا يَجِدُ مِنَ الدَّقَلِ مَا يَمْلَأُ بِهِ بَطْنَهُ" (رواه مسلم (2978) والطيالسي (57) واللفظ له).

 ومن الجوع الذي حل بالنبي صلى الله عليه وسلم ما كان في شعب أبي طالب، حيث بقوا فيه ثلاث سنين في ظل مقاطعة تامة من المشركين، كما رواه أبو نعيم في دلائل النبوة (205) واللفظ له ونحوه عند البيهقي في دلائل النبوة (2/311) عن عروة بن الزبير قال:
"لما أقبل عمرو بن العاص من الحبشة من عند النجاشي إلى مكة اشتد المشركون على المسلمين كأشد ما كانوا حتى بلغ المسلمين الجهدُ واشتد عليهم البلاء، وعمد المشركون من قريش فأجمعوا مكرهم وأمرهم على أن يقتلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم علانية، فلما رأى ذلك أبو طالب جمع بني عبد المطلب فأجمع لهم أمرهم على أن يدخلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم شعبهم ويمنعوه ممن أراد قتله، فاجتمعوا على ذلك كافرهم ومسلمهم، منهم من فعله حمية، ومنهم من فعله إيمانًا ويقينًا، فلما عرفت قريش أن القوم قد اجتمعوا ومنعوا الرسول صلى الله عليه وسلم، واجتمعوا على ذلك كافرهم ومسلمهم، اجتمع المشركون من قريش فأجمعوا أمرهم على أن لا يجالسوهم، ولا يخالطوهم، ولا يبايعوهم، ولا يدخلوا بيوتهم حتى يسلموا رسول الله صلى الله عليه وسلم للقتل، وكتبوا بمكرهم صحيفة وعهودًا ومواثيق أن لا يقبلوا من بني هاشم أبدًا صلحًا، ولا تأخذهم بهم رأفة ولا رحمة ولا هوادة حتى يسلموا رسول الله صلى الله عليه وسلم للقتل. فلبث بنو هاشم في شعبهم ثلاث سنين، واشتد عليهم فيهن البلاء والجهد، وقطعوا عليهم الأسواق فلا يتركون طعامًا يدنو من مكة، ولا بيعًا إلا بادروا إليه، ليقتلهم الجوع يريدون أن يتناولوا بذلك سفك دم رسول الله صلى الله عليه وسلم".

 ومن ذلك ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم -أو ليلة- فإذا هو بأبي بكر وعمر، فقال: «مَا أَخْرَجَكُمَا مِنْ بُيُوتِكُمَا هَذِهِ السَّاعَةَ؟» قالا: أخرجنا الجوع من بيوتنا والذي بعثك بالحق. قال: «وَأَنَا، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَأَخْرَجَنِي الَّذِي أَخْرَجَكُمَا، قُومُوا»، فقاموا معه، فأتى رجلًا من الأنصار فإذا هو ليس في بيته، فلما رأته المرأة، قالت: مرحبًا وأهلًا، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أَينَ فُلان؟» قالت: ذهب يستعذب لنا من الماء، إذ جاء الأنصاري، فنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبيه، ثم قال: الحمد لله ما أحد اليوم أكرم أضيافًا مني، قال: فانطلق، فجاءهم بعذق فيه بسر وتمر ورطب، فقال: كلوا من هذه، وأخذ المدية، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِيَّاكَ، وَالْحَلُوبَ»، فذبح لهم، فأكلوا من الشاة ومن ذلك العذق وشربوا، فلما أن شبعوا ورووا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر، وعمر: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَتُسْأَلُنَّ عَنْ هَذَا النَّعِيمِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمُ الْجُوعُ، ثُمَّ لَمْ تَرْجِعُوا حَتَّى أَصَابَكُمْ هَذَا النَّعِيمُ» (رواه مسلم (2038)).

 وقد أصيب المسلمون بالجوع في أزمنة عديدة، ولعل من أشهرها عام الرمادة سنة ثمان عشرة في عهد أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه. قال زيد بن أسلم عن أبيه قال:
"لما كان عام الرمادة تجلبت العرب من كل ناحية، فقدموا المدينة، فكان عمر بن الخطاب قد أمر رجالًا يقومون عليهم، ويقسمون عليهم أطعمتهم وإدامهم، فكان يزيد ابن أخت النمر، وكان المسور بن مخرمة، وكان عبد الرحمن بن عبد القاري، وكان عبد الله بن عتبة بن مسعود، فكانوا إذا أمسوا اجتمعوا عند عمر فيخبرونه بكل ما كانوا فيه، وكان كل رجل منهم على ناحية من المدينة، وكان الأعراب حلولًا فيما بين رأس الثنية إلى راتج إلى بني حارثة إلى بني عبد الأشهل إلى البقيع إلى بني قريظة، ومنهم طائفة بناحية بني سلمة هم محدقون بالمدينة، فسمعت عمر يقول ليلة وقد تعشى الناس عنده: "احصوا من يتعشى عندنا". فأحصوهم من القابلة فوجدهم سبعة آلاف رجل، وقال: "أحصوا العيالات الذين لا يأتون والمرضى والصبيان"، فأحصوا فوجدوهم أربعين ألفًا، ثم مكثنا ليالي، فزاد الناس فأمر بهم فأحصوا، فوجدوا من يتعشى عنده عشرة آلاف، والآخرين خمسين ألفًا، فما برحوا حتى أرسل الله السماء، فلما مطرت رأيت عمر قد وكل كل قوم من هؤلاء النفر بناحيتهم يخرجونهم إلى البادية ويعطونهم قوة وحملانًا إلى باديتهم، ولقد رأيت عمر يخرجهم هو بنفسه.
قال أسلم: وقد كان وقع فيهم الموت فأراه مات ثلثاهم وبقي ثلث، وكانت قدور عمر يقوم إليها العمال في السحر يعملون الكركور حتى يصبحوا ثم يطعمون المرضى منهم، ويعملون العصائد، وكان عمر يأمر بالزيت فيفار في القدور الكبار على النار حتى يذهب حمته وحره، ثم يثرد الخبز، ثم يؤدم بذلك الزيت. فكانت العرب يحمون من الزيت، وما أكل عمر في بيت أحد من ولده ولا بيت أحد من نسائه ذواقًا زمان الرمادة إلا ما يتعشى مع الناس حتى أحيا الله الناس أول ما أحيا" (رواه ابن سعد 3/316، وابن عساكر 44/348).

 ولقد وقعت مجاعات عظمية في العالم الإسلامي أهلكت الحرث والنسل. ذكر ابن الجوزي رحمه الله تعالى في أحداث سنة 449هـ قائلًا : وقع وباء بالأهواز وأعمالها وبواسط، وبالنيل، ومطير آباذ، والكوفة، وطبق الأرض حتى كان يخد للعشرين والثلاثين زبية فيلقون فيها، وكان أكثر سبب ذلك الجوع، وكان الفقراء يشوون الكلاب، وينبشون القبور فيشوون الموتى ويأكلونهم، وكان لرجل جريبان أرضًا دفع إليه في ثمنها عشرة دنانير فلم يبعها، فباعها حينئذ بخمسة أرطال خبز، وأكلها ومات من وقته. وطويت التجارات، وأمور الدنيا، وليس للناس شغل في الليل والنهار إلا غسل الأموات والتجهيز والدفن، وكان الإنسان قاعدًا فينشق قلبه عن دم المهجة فيخرج إلى الفم منه قطرة فيموت الإنسان. ا.هـ (المنتظم 16/17).

 وقال رحمه الله في أحداث سنة 462هـ : وفي ذي القعدة: ورد من مصر والشام عدد كثير من رجال ونساء هاربين من الجرف والغلاء، وأخبروا أن مصر لم يبق بها كبير أحد من الجوع والموت، وأن الناس أكل بعضهم بعضًا، وظهر علي رجل قد ذبح عدة من الصبيان والنساء وطبخ لحومهم وباعها، وحفر حفيرة دفن فيها رءوسهم وأطرافهم، فقتل، وأكلت البهائم فلم يبق إلا ثلاثة أفراس لصاحب مصر بعد ألوف من الكراع، وماتت الفيلة، وبيع الكلب بخمسة دنانير، وأوقية زيت بقيراط، واللوز والسكر بوزن الدراهم، والبيضة بعشرة قراريط، وراوية الماء بدينار لغسل الثياب. وخرج وزير صاحب مصر إلى السلطان، فنزل عن بغلته وما معه إلا غلام واحد لعدم ما يطعم الغلمان، فدخل وشغل الركابي عن البغلة لضعف قوته، فأخذها ثلاثة أنفس ومضوا بها، فذبحوها وأكلوها فأنهى ذلك إلى صاحب مصر، فتقدم بقتلهم وصلبهم فصلبوا، فلما كان من الغد وجدت عظامهم مرمية تحت خشبهم وقد أكلهم الناس . ا.هـ (المنتظم 16/117).

 أما في زمننا هذا 1432هـ ، فحدث ولا حرج عن كثرة المجاعات وكثير منها في البلاد الإسلامية، وما هو حاصل الآن في الصومال ودول القرن الأفريقي إلا صورة من هذه المجاعات. "وقد أعلن تقرير برنامج الغذاء العالمي (WFP) أن 30 ٪ من الأطفال يعانون من سوء التغذية الحاد، و20 ٪ من السكان من دون طعام ... وبشكل عام يعاني 38% من منطقة القرن الأفريقي -التي تضم جيبوتي والصومال وإريتريا ويجاورها كينيا وإثيوبيا- في مجملها من سوء التغذية الحاد، وهو ما أكدت الدراسة أنه تجاوز المعدل الكارثي، فضلًا عن توقعات مؤكدة بانتشار الحالة في جميع أنحاء الجنوب" (الوفد 29/8/1432هـ).
"وقد حذرت منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسيف) من أن إنقاذ حياة 1.25 مليون طفل من الجفاف في جنوب الصومال يجب أن ينظر إليه بوصفه "أولوية قصوى" (الاقتصادية العدد 6501).
وقد سمعت الدكتور عبد الرحمن السميط حفظه الله يتحدث عن المجاعة -وهو الخبير بذلك- ومما ذكره أن هذه المجاعة هي الأسوأ خلال الثلاثين سنة الماضية، وأصبح الجوعى يزاحمون النمل على طعامه، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

وقد جاء في موقع (الويكيبيديا) أنه يموت بسبب الجوع في العالم: فرد كل ثانية، وأربعة آلاف كل ساعة، ومائة ألف كل يوم، وستة وثلاثون مليونًا كل عام (إحصاء 2001- 2004). كل هذا يحدث في القرن الحادي والعشرين، والذي تبذل فيه الأموال الطائلة في الحروب وبيع الأسلحة حتى في معقل المجاعة، بل "ذكرت إحصائيات ألمانية أن الألمان ينفقون على الكلاب ما يقدر بنحو خمسة مليارات يورو سنويًا، وأكدت مصادر رابطة الكلاب الألمانية إن هذه الأموال تذهب في شراء أغذية الكلاب، ومصاريف الأطباء البيطريين، وشراء متعلقات الكلاب مثل السلاسل والأسرة http://news.arbtoday.com/News-3811.html ".
أما بذل الغذاء والدواء للفقراء فلا يتم إلا بشق الأنفس، وتبخل الدول العظمى بالعطاء في هذا المجال إلا مقابل مصالح تحققها فلا شيء يبذل لله لكونهم أبعد الناس عنه، ولا تبذل لأجل الإنسانية لكونهم وحوشها.

أما ديننا الحنيف فيأمرنا قرآنًا وسنة بالبذل والإنفاق في هذا الجانب:

 قال تعالى: {فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ . وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ . فَكُّ رَقَبَةٍ . أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ . يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ . أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ . ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ . أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ} [البلد: 11- 18].
قال ابن كثير رحمه الله تعالى: "وَقَوْلُهُ: {أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ} قال ابن عباس: ذي مجاعة. وكذا قال عكرمة، ومجاهد، والضحاك، وقتادة، وغير واحد. والسغب: هو الجوع ... قال ابن عباس: {ذَا مَتْرَبَةٍ} هو المطروح في الطريق الذي لا بيت له، ولا شيء يقيه من التراب " ا.هـ (تفسير ابن كثير 8/408).

 وقال تعالى: {إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ} [الحديد: 18].

 وقال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ . الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 261- 262].

 وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أَطْعِمُوا الجَائِعَ، وَعُودُوا المَرِيضَ، وَفُكُّوا العَانِيَ» (رواه البخاري (5373)).
قال شيخنا العلامة ابن عثيمين رحمه الله تعالى: "فإذا وجدنا إنسانًا جائعًا وجب علينا جميعًا أن نطعمه، وإطعامه فرض كفاية، إذا قام به من يكفي سقط عن الباقين، فإن لم يقم به أحد تعين على من علم بحاله أن يطعمه، وكذلك أيضًا كسوة العاري، وهو فرض كفاية" ا.هـ (شرح رياض الصالحين 4/469).

 وعن عبد الله بن سلام رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، أَفْشُوا السَّلَامَ، وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ، وَصَلُّوا وَالنَّاسُ نِيَامٌ تَدْخُلُونَ الجَنَّةَ بِسَلَامٍ» (رواه أحمد (23784) والترمذي (2485) وابن ماجه (1334) وقال الترمذي: هذا حديث صحيح).

 بل في ديننا من الرحمة حتى في الحيوان فعن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «بيْنَا رَجُلٌ يَمْشِي، فَاشْتَدَّ عَلَيْهِ العَطَشُ، فَنَزَلَ بِئْرًا، فَشَرِبَ مِنْهَا، ثُمَّ خَرَجَ فَإِذَا هُوَ بِكَلْبٍ يَلْهَثُ يَأْكُلُ الثَّرَى مِنَ العَطَشِ، فَقَالَ: لَقَدْ بَلَغَ هَذَا مِثْلُ الَّذِي بَلَغَ بِي، فَمَلَأَ خُفَّهُ، ثُمَّ أَمْسَكَهُ بِفِيهِ، ثُمَّ رَقِيَ، فَسَقَى الكَلْبَ، فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ، فَغَفَرَ لَهُ»، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَإِنَّ لَنَا فِي البَهَائِمِ أَجْرًا؟ قَالَ: «فِي كُلِّ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ» (رواه البخاري (2363) ومسلم (2244)).
وفي رواية أخرى للبخاري (3321): «غُفِرَ لِامْرَأَةٍ مُومِسَةٍ، مَرَّتْ بِكَلْبٍ عَلَى رَأْسِ رَكِيٍّ يَلْهَثُ، قَالَ: كَادَ يَقْتُلُهُ العَطَشُ، فَنَزَعَتْ خُفَّهَا، فَأَوْثَقَتْهُ بِخِمَارِهَا، فَنَزَعَتْ لَهُ مِنَ المَاءِ، فَغُفِرَ لَهَا بِذَلِكَ».
قال بدر الدين العيني رحمه الله تعالى: "وفيه: الحث عل? الإحسان إلى الناس، لأنه إذا حصلت المغفرة بسبب سقي الكلب، فسقي بني آدم أعظم أجرًا. وفيه: أن سقي الماء من أعظم القربات. قال بعض التابعين: من كثرت ذنوبه فعليه بسقي الماء، فإذا غفرت ذنوب الذي سقى كلبًا فما ظنكم بمن سقى مؤمنًا موحدًا وأحياه بذلك؟" ا.هـ (عمدة القاري 12/208).

 وقد كان هدي النبي صلى الله عليه وسلم عند رؤيته قومًا جياعًا تزويدهم بما يسد رمقهم، وترغيب أصحابه بالبذل والنفقة، ومن صور ذلك:

 ما روته أم المؤمنين عَائِشَة رضي الله عنها قالت: "دَفَّ أَهْلُ أَبْيَاتٍ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ حَضْرَةَ الْأَضْحَى زَمَنَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ادَّخِرُوا ثَلَاثًا، ثُمَّ تَصَدَّقُوا بِمَا بَقِيَ»، فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ النَّاسَ يَتَّخِذُونَ الْأَسْقِيَةَ مِنْ ضَحَايَاهُمْ، وَيَجْمُلُونَ مِنْهَا الْوَدَكَ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَا ذَاكَ؟» قَالُوا: نَهَيْتَ أَنْ تُؤْكَلَ لُحُومُ الضَّحَايَا بَعْدَ ثَلَاثٍ، فَقَالَ: «إِنَّمَا نَهَيْتُكُمْ مِنْ أَجْلِ الدَّافَّةِ الَّتِي دَفَّتْ، فَكُلُوا وَادَّخِرُوا وَتَصَدَّقُوا» (رواه مسلم 1971).

 وعن جرير رضي الله عنه قَالَ: كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَدْرِ النَّهَارِ، قَالَ: فَجَاءَهُ قَوْمٌ حُفَاةٌ عُرَاةٌ مُجْتَابِي النِّمَارِ -أَوِ الْعَبَاءِ-، مُتَقَلِّدِي السُّيُوفِ، عَامَّتُهُمْ مِنْ مُضَرَ، بَلْ كُلُّهُمْ مِنْ مُضَرَ، فَتَمَعَّرَ وَجْهُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَا رَأَى بِهِمْ مِنَ الْفَاقَةِ، فَدَخَلَ ثُمَّ خَرَجَ، فَأَمَرَ بِلَالًا فَأَذَّنَ وَأَقَامَ، فَصَلَّى ثُمَّ خَطَبَ فَقَالَ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} إِلَى آخِرِ الْآيَةِ {إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1]، وَالْآيَةَ الَّتِي فِي الْحَشْرِ: {اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ} [الحشر: 18]، «تَصَدَّقَ رَجُلٌ مِنْ دِينَارِهِ، مِنْ دِرْهَمِهِ، مِنْ ثَوْبِهِ، مِنْ صَاعِ بُرِّهِ، مِنْ صَاعِ تَمْرِهِ -حَتَّى قَالَ- وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ».
قَالَ: فَجَاءَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ بِصُرَّةٍ كَادَتْ كَفُّهُ تَعْجِزُ عَنْهَا، بَلْ قَدْ عَجَزَتْ، قَالَ: ثُمَّ تَتَابَعَ النَّاسُ، حَتَّى رَأَيْتُ كَوْمَيْنِ مِنْ طَعَامٍ وَثِيَابٍ، حَتَّى رَأَيْتُ وَجْهَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَهَلَّلُ، كَأَنَّهُ مُذْهَبَةٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً، فَلَهُ أَجْرُهَا، وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا بَعْدَهُ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ، وَمَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً سَيِّئَةً، كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ» (رواه مسلم 1017).

 أما أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه فقد همَّ بأمر لو لم تفرج المجاعة عام الرمادة، فعن عَبْد اللَّهِ بْنَ عُمَرَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ عَامَ الرَّمَادَةِ -وَكَانَتْ سَنَةً شَدِيدَةً مُلِمَّةً-، بَعْدَمَا اجْتَهَدَ عُمَرُ فِي إِمْدَادِ الْأَعْرَابِ بِالْإِبِلِ وَالْقَمْحِ وَالزَّيْتِ مِنَ الْأَرْيَافِ كُلِّهَا، حَتَّى بَلَحَتِ الْأَرْيَافُ كُلُّهَا مِمَّا جَهَدَهَا ذَلِكَ، فَقَامَ عُمَرُ يَدْعُو فَقَالَ: "اللَّهُمَّ اجْعَلْ رِزْقَهُمْ عَلَى رُءُوسِ الْجِبَالِ"، فَاسْتَجَابَ اللَّهُ لَهُ وَلِلْمُسْلِمِينَ، فَقَالَ حِينَ نَزَلَ بِهِ الْغَيْثُ: "الْحَمْدُ لِلَّهِ، فَوَاللَّهِ لَوْ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يُفْرِجْهَا مَا تَرَكْتُ بِأَهْلِ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لَهُمْ سَعَةٌ إِلَّا أَدْخَلْتُ مَعَهُمْ أَعْدَادَهُمْ مِنَ الْفُقَرَاءِ، فَلَمْ يَكُنِ اثْنَانِ يَهْلِكَانِ مِنَ الطَّعَامِ عَلَى مَا يُقِيمُ وَاحِدًا". (رواه البخاري في الأدب 562).

 وقد كاد عمر رضي الله عنه يموت غمًا بما أصاب المسلمين عام الرمادة قال أسلم: "كنا نقول: لو لم يرفع الله المحل عام الرمادة لظننا أن عمر يموت همًا بأمر المسلمين" (رواه ابن سعد 3/315 وابن عساكر 44/349).

 قال أنس: تقرقر بطن عمر وكان يأكل الزيت عام الرمادة وكان قد حرم عليها السمن، قال: فنقر بطنه بإصبعه وقال: "تقرقر إنه ليس لك عندنا غيره حتى يحيى الناس" (رواه أحمد في الزهد 608).
وكان عمر أبيض فل?ا كان عام الرمادة -وهي سنة المجاعة- ترك أكل اللحم والسمن، وأدمن أكل الزيت حتى تغير لونه، وكان قد أحمر فشحب لونه. (المعرفة والتاريخ 3/308).
وروى ابن سعد (3/315) أن عمر بن الخطاب نظر عام الرمادة إلى بطيخة في يد بعض ولده فقال: "بخ بخ يا ابن أمير المؤمنين، تأكل الفاكهة وأمة محمد هزلى؟"، فخرج الصبي هاربًا وبكى، فأسكت عمر بعدما سأل عن ذلك، فقالوا: اشتراها بكف من نوى. ا.هـ

 هذا حال عمر رضي الله عنه، أما حال كثير من أبناء المسلمين فأبعد ما يكون عن ذلك فالإعلام هذه الأيام مشغول جدًا باختطاف حرمة شهر رمضان بالإعلان عن مسلسلاته المحرمة وبرامجه المفسدة للدين والدنيا, وشبابنا مشغولون بأخبار الدوري الأسباني والأوربي, أما أخبار المجاعة في القرن الأفريقي فتأتي عرضًا لمدة دقيقة أو دقيقتين ضمن نشرة الأخبار، أما أن تخصص برامج يومية أو تنشأ قناة تبث الواقع مباشرة لبيان خطر الوضع فهذا دونه خرط القتاد والله المستعان.

 وكل من بذل وشارك فليبشر بدعوة صادقة بالخلف من أحد ملائكة الرحمن، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَا مِنْ يَوْمٍ يُصْبِحُ العِبَادُ فِيهِ، إِلَّا مَلَكَانِ يَنْزِلاَنِ، فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا، وَيَقُولُ الآخَرُ: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا»، رواه البخاري (1442) ومسلم (1010).

 ونحن في بلادنا قد ذاق أجدادنا مرارة الجوع، وبؤس العيش، وتفشي الأمراض، والناس من حولهم يعيشون في رغد من العيش، ثم بدل الله تعالى الحال، فأصبحنا نعيش في أمن وأمان، وسلامة وإسلام، ورغد وإنعام {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا} [آل عمران: 140]، وقال تعالى ممتنًا على قريش بنعمتي الأمن والغذاء: {لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ . إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ . فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ . الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} [قريش:1-4].
فلله الحمد والشكر والمنة أولًا وآخرًا، وظاهرًا وباطنًا، ومن شكر النعمة أن نهتم بأمر المسلمين الذين حلت بهم الدوائر من كل حدب وصوب جوع ومرض وخوف وهلع, وعلى الجميع دولًا وأفرادًا البذل والتصدق وأن لا يتقالَّ أحد ما يدفعه إن لم يكن من ذوي اليسار، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «سَبَقَ دِرْهَمٌ مِائَةَ أَلْفِ دِرْهَمٍ» قَالُوا: وَكَيْفَ؟ قَالَ: «كَانَ لِرَجُلٍ دِرْهَمَانِ تَصَدَّقَ بِأَحَدِهِمَا، وَانْطَلَقَ رَجُلٌ إِلَى عُرْضِ مَالِهِ، فَأَخَذَ مِنْهُ مِائَةَ أَلْفِ دِرْهَمٍ فَتَصَدَّقَ بِهَا» (رواه النسائي (2527) وصححه ابن خزيمة (2443) وابن حبان (3347) وحسنه الألباني).

 وعلى من أنقذه الله تعالى من الجوع أن لا ينسى فقراء المسلمين شكرًا لله تعالى، فقد كان من هدي النبي صلى الله عليه وسلم دعوة الفقراء حتى على الشيء اليسير. أخرج البخاري (6452) بإسناده عن مجاهد، أن أبا هريرة رضي الله عنه كان يقول:
"والله الذي لا إله إلا هو، إن كنت لأعتمد بكبدي على الأرض من الجوع، وإن كنت لأشد الحجر على بطني من الجوع، ولقد قعدت يومًا على طريقهم الذي يخرجون منه، فمر أبو بكر، فسألته عن آية من كتاب الله، ما سألته إلا ليشبعني، فمر ولم يفعل، ثم مر بي عمر، فسألته عن آية من كتاب الله، ما سألته إلا ليشبعني، فمر فلم يفعل، ثم مر بي أبو القاسم صلى الله عليه وسلم، فتبسم حين رآني، وعرف ما في نفسي وما في وجهي، ثم قال: «يا أبا هر» قلت: لبيك يا رسول الله، قال: «الحق» ومضى فتبعته، فدخل، فاستأذن، فأذن لي، فدخل، فوجد لبنًا في قدح، فقال: «مِنْ أَيْنَ هَذَا اللَّبَنُ؟» قالوا: أهداه لك فلان أو فلانة، قال: «أبا هر» قلت: لبيك يا رسول الله، قال: «الحَقْ إِلَى أَهْلِ الصُّفَّةِ فَادْعُهُمْ لِي» قال: وأهل الصفة أضياف الإسلام، لا يأوون إلى أهل ولا مال ولا على أحد، إذا أتته صدقة بعث بها إليهم ولم يتناول منها شيئًا، وإذا أتته هدية أرسل إليهم وأصاب منها وأشركهم فيها، فساءني ذلك، فقلت: وما هذا اللبن في أهل الصفة، كنت أحق أنا أن أصيب من هذا اللبن شربة أتقوى بها، فإذا جاء أمرني، فكنت أنا أعطيهم، وما عسى أن يبلغني من هذا اللبن، ولم يكن من طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم بد، فأتيتهم فدعوتهم فأقبلوا، فاستأذنوا فأذن لهم، وأخذوا مجالسهم من البيت، قال: «يا أبا هر» قلت: لبيك يا رسول الله، قال: «خُذْ فَأَعْطِهِمْ» قال: فأخذت القدح، فجعلت أعطيه الرجل فيشرب حتى يروى، ثم يرد علي القدح، فأعطيه الرجل فيشرب حتى يروى، ثم يرد علي القدح فيشرب حتى يروى، ثم يرد علي القدح، حتى انتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد روي القوم كلهم، فأخذ القدح فوضعه على يده، فنظر إلي فتبسم، فقال: «أبا هر» قلت: لبيك يا رسول الله، قال: «بَقِيتُ أَنَا وَأَنْتَ» قلت: صدقت يا رسول الله، قال: «اقْعُدْ فَاشْرَبْ» فقعدت فشربت، فقال: «اشرب» فشربت، فما زال يقول: «اشرب» حتى قلت: لا والذي بعثك بالحق، ما أجد له مسلكًا، قال: «فأرني» فأعطيته القدح، فحمد الله وسمى وشرب الفضلة".

 وأشير هنا أنه ليس من السنة التعبد لله تعالى بالجوع المفرط ولا بالشبع المهلك، لذا أمرنا بالصيام أيامًا معدودات ونهينها عن الوصال. قال الذهبي رحمه الله تعالى في ترجمة أبي محمد الأبهري: "قيل: إنه عمل له خلوة، فبقي خمسين يومًا لا يأكل شيئًا, وقد قلنا: إن هذا الجوع المفرط لا يسوغ، فإذا كان سرد الصيام والوصال قد نهي عنهما، فما الظن؟ وقد قال نبينا صلى الله عليه وسلم: «اللهم إني أعوذ بك من الجوع فإنه بئس الضجيع» ا.هـ (سير أعلام النبلاء 17/576).
وقال ابن تيمية رحمه الله تعالى عن أقوام أنهم: "لازموا من الْجُوع والسهر وَالْخلْوَة والصمت وَغير ذَلِك مِمَّا فِيهِ ترك الحظوظ وَاحْتِمَال المشاق مَا أوقعهم فِي ترك وَاجِبَات ومستحبات وَفعل مكروهات ومحرمات" ا.هـ (الاستقامة 2/134).

 أما حديث عطية بن عامر الجهني قال: سمعت سلمان وأُكره على طعام يأكله، فقال: حسبي، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ شِبَعًا فِي الدُّنْيَا، أَطْوَلُهُمْ جُوعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ» فهو حديث ضعيف فقد رواه ابن ماجه (3351) والبزار (2498) وأبو نعيم في الحلية 1/198 وقد جاء من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: تجشأ رجل عند النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: «كُفَّ عَنَّا جُشَاءَكَ فَإِنَّ أَكْثَرَهُمْ شِبَعًا فِي الدُّنْيَا أَطْوَلُهُمْ جُوعًا يَوْمَ القِيَامَةِ» رواه الترمذي (2478) وقال: "حسن غريب"، وابن ماجه (3350) كما جاء من حديث أبي جيحفة رضي الله عنه وقد ذكر طرق الحديث الثلاث ابنُ رجب رحمه الله تعالى وقال: "في أسانيدها كلها مقال" ا.هـ (فتح الباري 2/479).
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: "وحديث سلمان الذي أشار إليه أخرجه ابن ماجة بسند لين، وأخرج عن ابن عمر نحوه وفي سنده مقال أيضًا، وأخرج البزار نحوه من حديث أبي جحيفة بسند ضعيف" ا.هـ (فتح الباري 9/528). وقال رحمه الله تعالى (11/288): "وحديث أبي جحيفة أخرجه الحاكم وضعفه أحمد" ا.هـ .
قال القرطبي في المفهم: لما ذكر قصة أبي الهيثم إذ ذبح للنبي صلى الله عليه وسلم ولصاحبيه الشاة فأكلوا حتى شبعوا وفيه دليل على جواز الشبع، وما جاء من النهي عنه محمول على الشبع الذي يثقل المعدة ويثبط صاحبه عن القيام للعبادة ويفضي إلى البطر والأشر والنوم والكسل، وقد تنتهي كراهته إلى التحريم بحسب ما يترتب عليه من المفسدة. ا.هـ (فتح الباري 9/528).
ومما يدل على ذلك أيضًا أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم شبعوا بحضرته وبأمره عليه الصلاة والسلام كما في حديث أبي هريرة السابق ذكره قريبًا.

 أما حديث مقدام بن معدي كرب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «مَا مَلأَ آدَمِيٌّ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنٍ. بِحَسْبِ ابْنِ آدَمَ أُكُلاَتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ، فَإِنْ كَانَ لاَ مَحَالَةَ فَثُلُثٌ لِطَعَامِهِ، وَثُلُثٌ لِشَرَابِهِ، وَثُلُثٌ لِنَفَسِهِ» (رواه أحمد (17186) والترمذي (2380) والنسائي في الكبرى (6737) وابن ماجه (3349) وقال الترمذي : "هذا حديث حسن صحيح"، وصححه ابن حبان (674) وحسنه الحافظ ابن حجر في الفتح (9/528))، فهذا الحديث محمول على الكمال لا على الوجوب وقيل: "يمكن الجمع بأن يحمل الزجر على من يتخذ الشبع عادة لما يترتب على ذلك من الكسل عن العبادة وغيرها، ويحمل الجواز على من وقع له ذلك نادرًا ولا سيما بعد شدة جوع واستبعاد حصول شيء بعده عن قرب" ا.هـ (فتح الباري 11/289).

والمتتبع لسيرته صلى الله عليه وسلم يرى غالب أحواله أنه لا يشبع إلا قليلًا، عن عائشة رضي الله عنها، أنها قالت لعروة: "ابن أختي، إن كنا لننظر إلى الهلال، ثم الهلال، ثلاثة أهلة في شهرين، وما أوقدت في أبيات رسول الله صلى الله عليه وسلم نار"، فقلت: يا خالة، ما كان يعيشكم؟ قالت: "الأسودان: التمر والماء، إلا أنه قد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم جيران من الأنصار، كانت لهم منائح، وكانوا يمنحون رسول الله صلى الله عليه وسلم من ألبانهم، فيسقينا". رواه البخاري (2567) ومسلم (2972).

 وفي الختام ندعو بما دعا به النبي صلى الله عليه وسلم فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول صلى عليه وسلم يقول: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْجُوعِ، فَإِنَّهُ بِئْسَ الضَّجِيعُ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الْخِيَانَةِ، فَإِنَّهَا بِئْسَتِ الْبِطَانَةُ» (رواه أبو داود (1547) والنسائي (5468) وابن ماجه (3354) وصححه ابن حبان (1029) وحسنه الألباني في صحيح الجامع (1283)).
كما نسأل الله الغني الحميد الذي بيده مفاتيح كل شيء أن يُفرِّج همَّ إخواننا في الصومال والقرن الأفريقي، اللهم اسقهم غيثًا هنيئًا مريئًا مريعًا غدقًا مجللًا عامًا طبقًا سحًا دائمًا، اللهم اسقهم الغيث ولا تجعلهم من القانطين، اللهم إن بالعباد والبلاد والبهائم والخلق من اللأواء والجهد والفتك ما لا يشكى إلا إليك، اللهم أنبت لهم الزرع، وأدر لهم الضرع، واسقهم من بركات السماء، وأنبت لهم من بركات الأرض، اللهم ارفع عنهم الجهد والجوع والعري، واكشف عنهم من البلاء ما لا يكشفه غيرك، اللهم إنا نستغفرك، إنك كنت غفارًا فأرسل السماء علينا وعليهم مدرارًا، اللهم وعمَّ بذلك سائر بلاد المسلمين.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
 

نايف بن أحمد الحمد