الإجازة والمواهب والقدرات

منذ 2014-06-11

فإن لكل حادث حديثاً، ولكل مناسبة شجونها وحديثنا وشجوننا في هذه الأسطر يحوم حول ما نستقبل هذه الأيام من الإجازة الصيفية التي تكون مستراحاً للمعلمين والمعلمات، والطلاب والطالبات، كما هي فترة تأمل للأسرة بعد عام دراسي مع الأبناء والبنات..

بسم الله الرحمن الرحيم..
الحمد لله خلق الإنسان في أحسن تقويم، أحمده سبحانه وأشكره وهبنا من العقول والقدرات والمواهب فهو الخلاق العليم، وأصلي وأسلم على النبي الكريم، وعلى آله وأصحابه أهل العلم والفكر القويم، ومن سار على نهجهم واقتفى أثرهم إلى يوم الدين، أما بعد:

فإن لكل حادث حديثاً، ولكل مناسبة شجونها وحديثنا وشجوننا في هذه الأسطر يحوم حول ما نستقبل هذه الأيام من الإجازة الصيفية التي تكون مستراحاً للمعلمين والمعلمات، والطلاب والطالبات، كما هي فترة تأمل للأسرة بعد عام دراسي مع الأبناء والبنات..

وهي فرصة للاستفادة منها بما يعود بالنفع والفائدة للجميع، ولا أطيل في المقدمات، لكن نقف مع هذه المناسبة، ومع هذه الشجون الكثيرة وقفات أرجوا أن تكون مفيدة إن شاء الله.

الوقفة الأولى: لقد خلق الله الإنسان في أحسن تقويم، وميزه على سائر المخلوقات بالعقل الذي جعله مناط التكليف، والمحاسبة، ووهبه مواهب متعددة، ومنحه فهوماً وحواساً، وأعطاه قدرات ما لو سخرها لعمر بها الكون الذي هو غاية من غايات خلق الإنسان.

هذا العقل، وتلك المواهب والقدرات، والفهوم والحواس متفاوتة بين البشر، ولذلك يكمل البشر بعضهم بعضاً ليعمر الكون، ويتكامل الجهد، وتسعد البشرية جمعاء، ومن هنا وجه الإسلام إلى تفعيل هذه القدرات والمواهب والاستفادة منها، كل بما منحه الله سبحانه وتعالى، ليصل إلى الغاية المرادة من خلق الفرد ذاته، أو من خلق الإنسان بجنسه، ونظرة فاحصة لجيل من الأجيال كجيل الصحابة رضي الله عنهم تجد هذين الأمرين بغاية الوضوح:
أ‌- التفاوت بين القدرات والمواهب.
ب‌- التكامل فيما بينهم.

فالنتيجة: ظهر ذلك الجيل الذي كان مثالاً لإسعاد نفسه وإسعاد البشرية في حينه، وعمارة الكون، بعد أن كان جيلاً -قبل البعثة النبوية- همجياً، فوضوياً، يستغل قدراته بإشباع شهواته البهيمية، لا يتمتع إلا بشيء يسير من المثل والقيم، وضع عقله في الحضيض حيث وصل إلى عبادة شجر، أو حجر، أو تمرة، ونحوها.. قويّه يأكل ضعيفه، وغنيه يأكل فقيره.

الوقفة الثانية: هذه القدرات والمواهب ذات بعدين لا يلتقيان..
البعد الأول: البعد الإيجابي وهو تسخير هذه القدرات في النافع والمفيد، مثل تسخير قدرة القراءة فيقرأ القارىء ما يفيده ابتداءً بكتاب الله تعالى ثم في السنة والسيرة النبوية، في كتب التخصص العلمي، وشيء من الأدب الراقي، والعلوم والمعارف العامة..

فمثل هذا سيجد نفسه بعد وقت من الزمن حمل علماً كثيراً كان سبباً لرقيه في الدنيا، وسعادته في الآخرة، وقل مثل ذلك من يسخر قدرته الكلامية في خطابة رنانة تصور المفيد والقيم، والأخلاق للسامعين، ومثله من يمتلك قلماً يسطر فيه مشارع فياضة، ومثلاً عليا، وقصصاً رائعًا، أو حُكْماً شرعياً، أو حِكَماً ومعارف.

ومثل ذلك يقال للشاعر، والمهندس، والطبيب، والماهر بصنعه.. إلخ.
البعد الثاني: البعد السلبي، وهو تسخير القدرات والمواهب في غير المفيد، أو في الضار أحياناً، وهذا كمن يسخر المقدرة القصصية لديه والقدرة عن الإنشاء والتعبير في غيبة فلان أو علان، أو الكذب على الناس، أو تصوير الحق باطلاً، والباطل حقاً،

ومثل ذلك يقال للكاتب الذي يلبس الحقائق، ويقلب المفاهيم ويصور الأشياء على غير حقيقتها، أو يدس في كلامه السم الذي لا يدركه إلا من كان حصيفاً، وقل مثل ذلك في سائر القدرات والإمكانات والمواهب التي وهبها الله تعالى لهذا الإنسان.

من هنا جاءت النصوص التي لاتعد ولا تحصى للتنبيه إلى هذين البعدين، ليحدد الإنسان موقفه.. وأمثل بمثال واحد، ففي أمر اللسان: قال تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18]، وقال تعالى: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الإسراء:36]، وقال تعالى: {وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنشُوراً . اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً} [الإسراء13-14].

ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل رضي الله عنه: «يا معاذ كف عنك هذا» -وأشار إلى لسانه- قال -يعني معاذ-: "أو مؤاخذون يا رسول الله بما نتكلم به؟ قال عليه الصلاة والسلام: «ثكلتك أمك يا معاذ وهل يكب الناس في النار على وجوههم؛ أو على مناخرهم، إلا حصائد ألسنتهم»" (صحيح الترمذي:2616).

هذه النصوص وغيرها كثير تشير بوضوح إلى أهمية الاستفادة من قدرة اللسان فيما يكون إيجابياً، وفي عدم استغلاله بما يكون سلبياً.

وقل مثل ذلك في سائر القدرات والمواهب.

 

أ.د. فالح بن محمد الضغير