في آفاق التغيير (الأمن الثقافي)

منذ 2014-06-17

هل نحن بحاجة لأنْ نُوصِد الأبواب، ونُعلي الأسوار أمام موجات الفكر الغربي، الذي أفرز في العقود الأخيرة مذاهب العدمية والعبثية واللاعقل واللاوعي؟

هل نحن بحاجة لأنْ نُوصِد الأبواب، ونُعلي الأسوار أمام موجات الفكر الغربي، الذي أفرز في العقود الأخيرة مذاهب العدمية والعبثية واللاعقل واللاوعي، نتكلم عن هذه المذاهب التي تمثل حالة اليأس والاغتراب، ولكن من الإنصاف القول: إن الفكر الغربي أنتج أفكارًا إيجابية في بعض الميادين التي نفعت البشرية، وشيء آخر، وهو أن هذا الفكر يمثل انشغالًا مع الواقع الغربي، ويتحدث عن مشاكل تضرب المجتمعات الغربية، ولكن المشكلة عندنا في ايمان بعض مثقفي العرب بأن كل ماهو عند الغرب يمثل إشراقًا وحضارة، بينما نجد أن الغرب يعترف بأنه يواجه تحديات كبيرة، إنه الفكر الذي يمثل حالة الغروب لحضارتهم المعاصرة.
 

لماذا تذهب الأعمار عند بعض المتعلمين وأصحاب الشهادات عندنا في قراءة (البنيوية) و(التفكيكية) وقراءة (الوجودية) وما بعد الحداثة، وتترجم أعمال (نيتشة) و(كيرلجارد) و(هايدجر)، وكأن هذه الأعمال ستُساهم في مشروع النهضة عندنا، والملفت للنظر أنه عندما ينتهي هؤلاء من قراءة هذه النظريات يكون الغرب قد أنتج مذاهب وفلسفات أخرى، فهل يستمر هؤلاء في الجري، وهل يلحقون به؟
 

لماذا نكرر أخطاءنا، فقد نشأ عندنا في التراث الإسلامي ما سُمِّي بـ(علم الكلام)، وهو جدل عقيم في مسائل نظرية ليس لها صلة بالواقع، خاصةً بعد أن ترجمت كتب اليونان والمتعلقة بالإلهيات، مسائل لم تُقِمْ دينًا ولادنيا، وكان الأَوْلَى الاهتمام بالجانب العلمي العملي التجريبي، وذهبت الأعمار، بل وذهب الذكاء في ردود وخصومات.
 

هل نفعل هذا أم نفتح الأبواب مُشْرَعة لكل دخيل من الأفكار، ولا ننتهي من قراءة نظرية حتى يأتي غيرها، إن فلسفة ما بعد الحداثة تقوم على اعتقاد أن كل الأمور نسبية، ولا يوجد شيء مطلق، فما هو الخير وما هو الشر؟ وما هو العدل وما هو الظلم؟ وما هو الجميل وما هو القبيح؟ كل ذلك أمور نسبية، وليس هناك حقيقة مطلقة، لأنك إذا اعتقدت أن الحق كله معك، فهذا يعني: أن مخالفك على باطل، وهذا احتكار للحقيقة، ولذلك يقول أهل هذه الحداثة: يجب أن يُمْنَع الفكر الذي يدَّعي أنه يمتلك الحقيقة وحده.
 

هل نسمح لهذه النسبية أن تزعزع الثوابت من القِيَم والأخلاق، وحتى لا نُتَّهم بالجمود والتقوقع على الذات، أم نُوصِد الأبواب أمام هذه الهرطقات؟ وكذلك أمام موجات الانحلال الأخلاقي وقيم الاستهلاك والرأسمالية المتوحشة، ولماذا لا نسأل عن هذا التركيز الذي تمارسه وسائل الاعلام على تفكيك الأسرة وهدمها؛ ليبقى الفرد وحيدًا شريدًا، لا يستطيع الصمود وحده أمام هذا الضخ الإعلامي، الذي يُغرِق الناس بالتَّوَافِهِ من الأمور، أو يطلب من هذا الفرد أن يفعل ما يحلو له؛ لأنه غير مرتبط بقِيَم الأسرة وقيم المجتمع، ولماذا هذا التركيز على (الأنثى) و(gender)؛ رجوعًا إلى فرويد وأمثاله.
 

إنها (تسونامي) من ثقافة معينة، تريد اقتلاع الجذور؛ ليغترب المسلم عن حضارته وثقافته.

إن ما يسمونه حرية الإبداع التي لا يَحُدّها أيُّ منظومة أخلاقية أو فكرية؛ قد تحولت إلى صنم تَؤُزّه علمانية شاملة شرسة [1]، فأصبح كل خروج عن الدين أو العقل أو الأعراف يُقال عنه: (حرية الإبداع)، وتحول الإعلام الذي يُروِّج لهذا النوع من الفن إلى ديكتاتورية، وكأنه هو الذي يُحَدِّد ما هو الحق وما هو الباطل.
 

ربما يقال هنا: إنك لا تستطيع أن تمنع شيئًا لأن التقنية الحديثة دخلت كل منزل، فالعالم أصبح قرية واحدة من ناحية الاتصال والمواصلات، هذا صحيح، ولكن العالم لم يصبح قرية واحدة من ناحية الثقافة والحضارة، فكل أمة لها ثقافتها، ولا تود أن تضيع في غمار حضارة أخرى، والمسلمون هم أكثر الناس تميُّزًا بحضارتهم وهويتهم.
 

هذا ليس انغلاقًا أو جمودًا، فالمسلم بطبيعته منفتح على كل ما فيه خير وحق، وهو يثق بما يملك، ولا يخشى من التواصل مع الآخرين، ولكن الأمن الثقافي لا بد منه، وقد حقَّق المسلمون هذا الأمن عندما أَوْجدوا علم الجرح والتعديل، وذلك حمايةً لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكذب والتزوير، وهكذا وصلت إلينا السنة نقية صافية، وكذلك صنعوا حين أقاموا القواعد التي تضبط تفسير القرآن الكريم، حتى لا يتسلق على هذا الكتاب كلُّ دجَّال عليم اللسان، وصانوا القرآن الكريم من التأويل الباطل، وبقي هذا المنهج على مدار القرون يجتهد العلماء في كل عصر بما ينفع المسلمين حسب ظروفهم وعصرهم ضمن هذه الضوابط المرعية.
 

هل نتخلى عن الهوية وعن الذاكرة التاريخية في سبيل إرضاء (الآخر)، وهل يعني عدم الإكراه في الدين أن من حق كل إنسان أن ينشر ويدعو إلى عقائده المضادة للمجتمع الذي يعيش فيه، بينما نجد أن الغرب نفسه يُقيِّد الحرية إذا تعلقت بأمن المجتمع، فالفرد في الغرب ليس له الحق أن يفعل ما يشاء، بل هو محكوم بما يُقرِّره المجتمع الذي يعيش فيه، فإذا قرر المجتمع من خلال برلمانه أن القضية الفلانية تمثل تحريضًا على الكراهية مثلًا، فالفرد مقيَّد بهذا القانون، فالحرية لم تَعُد مطلقة كما يقولون.
 

ولذلك أليس من حقنا أن يكون لنا قضايا مطلقة لا يمكن تجاوزها، هناك فرق بين المعتقدات والمعتقدين[2]، فالإسلام لا يقر المعتقدات المحرَّفة أو الباطلة، ولكنه يتعايش مع المعتقدين ضمن وطن واحد وأنظمة تشمل الجميع.
 

إن من حقنا كمسلمين أن نقدم رؤيتنا الخاصة للإنسان وغاياته ووظيفته في هذه الحياة.

إن من حقنا أن نقدم رؤيتنا الإعلامية التي تظهر الحقائق، ولا تدغدغ العواطف والغرائز، ورؤيتنا التربوية في تعليم الأجيال العلم النافع، الذي يسعى لسعادة الإنسان، وليس العلم الذي يدمر الإنسان ويكون سلاحًا بيد الدول والسياسيين، يستخدمونه لأهوائهم.
 

ومن حقنا المحافظة على الأسرة والمرأة من التفكُّك وما تدبره وسائل الإعلام لإفساد هذه الخلية الأساسية في بناء المجتمع.
 

إن فرنسا تمنع بعض الأفلام الأمريكية حفظًا لثقافتها الخاصة، فما بالنا نحن نفتح الأبواب لكل دخيل وهزيل من ثقافات الأمم الأخرى؟!

–-------------------------------------------------------------------------

[1] كما يعبر عبد الوهاب المسيري، انظر: "حوارات في الثقافة والمنهج".

[2] انظر: جعفر شيخ إدريس: "صراع الحضارات".

المصدر: رابطة علماء المسلمين.

محمد العبدة

رئيس تحرير مجلة البيان الإسلامية سابقًا وله العديد من الدراسات الشرعية والتاريخية.