وقفات مع التجديد والمجدِّدين

منذ 2014-06-28

اتخذ البعض هذا المصطلح وسيلة للطعن في الدين، عن طريق الإفراط في الأمر، وتوسيع دائرة هذا التجديد إلى نطاقات المناكفة للنص الشرعي، والتعدي عليه، زاعمين: أن هذا من التجديد، وأن المعاصرة لا تتعارض مع الدين، بل الدين ملزم بمسايرة العصر! وإن عاثوا في أدوية الضلال والفساد، وإن عارضوا النصوص وما أجمعت عليه الأمة، من أمور العبادة والمعتقد والمعاملة.

من المصطلحات التي شابها الكثير من الغموض، سيما في العصور المتأخرة؛ مصطلح "التجديد"، حيث شاع مصطلح "تجديد الدين"، وصار الحديث عنه مفردة أساسية من مفردات الخطابات العصرانية -من علمانية وليبرالية إلى غير ذلك من التوجهات المناهضة للفكرة الإسلامية في الأساس- وهو الأمر الذي أصاب المصطلح -رغم شرعيته- بالكثير من اللغط والغموض، وجعل كثير من الناس -سيما طلبة العلم والعلماء- يرتابون في المغالين في استخدامه والمناداة به.

حيث اتخذ البعض هذا المصطلح وسيلة للطعن في الدين، عن طريق الإفراط في الأمر، وتوسيع دائرة هذا التجديد إلى نطاقات المناكفة للنص الشرعي، والتعدي عليه، زاعمين: أن هذا من التجديد، وأن المعاصرة لا تتعارض مع الدين، بل الدين ملزم بمسايرة العصر! وإن عاثوا في أدوية الضلال والفساد، وإن عارضوا النصوص وما أجمعت عليه الأمة، من أمور العبادة والمعتقد والمعاملة.

وخلال هذا المقال سيكون لنا عدة وقفات مع مصطلح التجديد وفكر المجدِّدين ودعاته في القديم والحديث.

الوقفة الأولى: المجدِّدون هم علماء أهل السنة.

من أهم الشروط الواجب توافرها في المجدِّد أن يكون من علماء أهل السنة والجماعة، لا من علماء الفرق؛ وإن علا قدره، وعظم شأنه، وزاد علمه، فضلال بدعته لا يبقي على علم أو فضل، ثم كيف يجدِّد، أو يصح أن يطلق عليه لفظ مجدِّد؛ وهو غارق في البدع، داعي إليها، بل مشرع لها؟ "فمن أخص مهمات التجديد إعادة الإسلام صافيًا نقيًا من كل العناصر الدخيلة عليه، وهذا لا يحصل إلا إذا كان المجدِّد من أهل السنة والجماعة، السائرين على منهج الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام، ومن الطائفة الناجية المنصورة التي جاء وصفها بأنها فرقة من ثلاث وسبعين فرقة، وأنها تلزم ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه في عقيدتها ومنهجها وتصوراتها" (التجديد في الفكر الإسلامي، عدنان أمامه، ص: [45]).

وقد تعجب "العظيم آبادي" من فعل "ابن الأثير" من عده لأبي جعفر الإمامي الشيعي والمرتضى أخا الرضا الإمامي الشيعي من المجدِّدين، فقال العظيم آبادي في شرحه لسنن أبي داود: "ولا شبهة في أن عدهما من المجددين خطأ فاحش، وغلط بين؛ لأن علماء الشيعة وإن وصلوا إلى مرتبة الاجتهاد، وبلغوا أقصى مراتب من أنواع العلوم، واشتهروا غاية الاشتهار؛ لكنهم لا يستأهلون المجددية، كيف وهم يخربون الدين؟! فكيف يجدِّدون، ويميتون السنن؟! فكيف يحيونها، ويروجون البدع؟! فكيف يمحونها، وليسوا إلا من الغالين المبطلين الجاهلين، وجل صناعتهم التحريف والانتحال والتأويل، لا تجديد الدين، ولا إحياء ما اندرس من العمل بالكتاب والسنة؟! هداهم الله تعالى إلى سواء السبيل" (عون المعبود: [11/264]).

الوقفة الثانية: الدين بين التجديد والتغريب:

من المثير للدهشة أن أكثر المنادين بتجديد الدين تغريبيون عصرانيون، بل فيهم من هو مغرق في العلمانية، وفي التهجم على أصول الدين وثوابته! فكيف لمثل هؤلاء أن يعلنوا بعد ذلك الدعوة لتجديد الدين؟!

حقيقة الأمر أن كثيرًا من المغرضين اتخذوا مسألة التجديد، وحض الدين عليها، ودعوة المصلحين لها، ذريعة للعبث بأحكام الشريعة ونصوصها، بحيث نستطيع وصف طريقتهم بالتغريب لا التجديد، وبالعبثية لا الإصلاح.

يقول صاحب كتاب (العصرانيون): "لقد زعم أصحاب هذه المدرسة -يقصد العصرانيين الجدُد- أنهم يريدون التجديد لتنتهض الأمة من كبوتها، ويريدون إعادة كتابة التاريخ العربي والإسلامي، من خلال طرح العديد من الدراسات والأبحاث المتعلقة بالتراث، إلا أنهم عمدوا إلى إحياء وتمجيد الاتجاهات الفكرية المنحرفة، وعرضها في إطار عقلاني تحت مظلة الانتماء إلى التراث الإسلامي" (العصرانيون، محمد حامد الناصر، ص: [177]).

ثم يضيف الكاتب: "والتجديد الذي دعا إليه العصرانيون الجدُد، كعبته أوروبا وسدنته رجال التنصير والاستشراق، وهو نوع من تطوير الدين أو عصرنته، على شاكلة دعاة التغريب، ومن هنا شنُّوا حملة ضد ثوابت الإسلام وعلومه المعيارية: كأصول الفقه وعلوم الحديث، وأصول التفسير" (العصرانيون، محمد حامد الناصر، ص: [178]).

الوقفة الثالثة: التجديد ومحاكمة النص:

كثيرًا ما يتذرع المنادون بالتجديد بالعقل كحجة لهم على تفنيد النصوص وتصفيتها واختيار ما صح منها، وهي خدعة درجوا على استخدامها لتقليل حدة الهجوم عليهم، وإلا فهم ليسوا بحاجة إلى أية حجة؛ لأن الأمر عندهم يتخطى مرحلة العقل إلى مرحلة الذائقة والإحساس والميول، فما مالت له أنفسهم، واتفقت معه مصالحهم تبنوه وصار دينًا واجب الاتباع، وما غابت فيه المصلحة -والمصلحة هنا بمفهومهم لا بالمفهوم الشرعي- تركوه وشنَّعوا عليه.

فدائمًا ما نراهم يضعون النص مقابل العقل، وكأن هناك صراعًا محتدمًا بينهما، والحقيقة خلاف ذلك، فإن كان من صراع، فهو صراع مفتعل، صنعته عقولهم الجامحة، المتحرِّرة من قيود الفطرة والدين، ولو أنهم أدركوا أن لعقولهم طاقة وحد -يجب أن تقف عنده ولا تتجاوزه- لما وقعوا فيما وقعوا فيه من معارضة للنصوص، وافتئات على الشرع، وتمرد على الثوابت والمحكمات، التي استقر عليها الناس، واجتمع عليها العلماء، منذ بعثة النبي صلى الله عليه وسلم إلى الآن.

وحقيقة الأمر أنه لا تعارض البتة بين نص صريح وعقل صحيح، وإنما التعارض -إن وُجد- فيكون لعوامل خارجة عن حدود النص، داخلة في طرائق التفكير وسبل التعامل مع النصوص الشرعية.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في بيان العلاقة بين الأدلة العقلية والنصوص الشرعية: "الأدلة العقلية الصحيحة البينة -التي لا ريب فيها، بل العلوم الفطرية الضرورية- توافق ما أخبرت به الرسل لا تخالفه، وأن الأدلة العقلية الصحيحة جميعها موافقة للسمع، لا تخالف شيئًا من السمع، وهذا ولله الحمد قد اعتبرته فيما ذكره عامة الطوائف، فوجدت كل طائفة من طوائف النظار أهل العقليات لا يذكر أحد منهم في مسألة ما دليلًا صحيحًا يخالف ما أخبرت به الرسل، بل يوافقه؛ حتى الفلاسفة القائلين بقدم العالم؛ كأرسطو وأتباعه، ما يذكرونه من دليل صحيح عقلي فإنه لا يخالف ما أخبرت به الرسل، بل يوافقه وكذلك سائر طوائف النظار من أهل النفي والإثبات؛ لا يذكرون دليلًا عقليًا في مسألة إلا والصحيح منه موافق لا مخالف، وهذا يعلم به أن المعقول الصريح ليس مخالفًا لأخبار الأنبياء على وجه التفصيل" (درء تعارض العقل والنقل: [1/133]).

الوقفة الرابعة: التجديد وعبادة المصلحة:

إضافة إلى محاكمة العقل للنص غالى أصحاب تيار التجديد العقلي في الركون إلى المصلحة، عملًا بالقاعدة المظلومة: "حيثما تكون المصلحة فثم شرع الله"، فتتبعوا أحكام الشرع رفضًا وقبولًا، تذرعًا بقاعدة المصلحة، والتيسير ورفع المشقة والحرج، إلى غير ذلك من الحجج. وبذلك تحولت المصلحة إلى شرط لقبول أي نص شرعي.

ويتسع النطاق التجديدي عند هؤلاء إلى درجة لا يعلم مداها إلا الله، فالمصالح متعدِّدة، وليس من الضرورة اتفاق المصلحة، فما عند إنسان مصلحة، ربما يكون عند آخر لا مصلحة فيه، بل ربما يكون من قبيل المفسدة، فمع أية مصلحة سنكون؟ وعلى أية مفسدة سنأتي؟

و"هكذا يدخل (العقل) وتأتي (المصلحة) لتسحب جزءًا من الشريعة عن الإيمان والتسليم، وإن كان هذا الجزء لدي كثير منهم هو قليل بالنسبة لما يؤمنون به من الشريعة، إلا أن هذا الجزء لا يدري ما حده وما ضابطة؟ فكل جزء من الشريعة هو قابل لأن يُقِرّ أو يرفض، وما تؤمن به الطائفة الفلانية فمن الممكن أن تنكره الطائفة الأخرى بسبب العقل والمصلحة، وكل ما يؤمنون به مما يعتقدون أنه موافق للعقل والمصلحة يمكن أن ينكر عند آخرين لمخالفته للعقل والمصلحة" (معركة النص، فهد العجلان، ص: [29]).

ونحن لا ننكر علاقة المصلحة بأحكام الشريعة، "فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد؛ في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل؛ فالشريعة عدل الله بين عباده، ورحمته بين خلقه، وظله في أرضه، وحكمته الدالة عليه وعلى صدق رسوله صلى الله عليه وسلم" (أعلام الموقعين، لابن القيم: [3/3]).

ولهذا الأمر وضع العلماء ضوابط لهذه المصلحة؛ لكي لا يساء استخدمها -وهو ما حدث مع طائفة العصرانيين- وعماد هذه الضوابط ألا تصادم المصلحة نصًا أو إجماعًا، وأن تعود على مقاصد الشريعة بالحفظ والصيانة، إلى غير ذلك من القواعد التي ضبطها علماء الأصول واستقر عليها عمل العلماء.

 

المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام

رمضان الغنام

كاتب إسلامي مصري التحصيل العلمي: "باحث بالدكتوراه"، تخصص الدراسات الإسلامية، جامعة طنطا.