رمضانيات : أم هانيء - (8) ابحث عن الأصل (وحَدَثَ في السفر)

منذ 2018-06-02

الحمد لله وكفى، وصل اللهم وسلم على عبدك المصطفى وبعد:

* من الأهمية بمكان لكل مسلم فضلًا عن طالب للعلم أن يعلم حكم الأصل في الأشياء؛ ليرد كل حادثة أو مسألة إلى أصلها؛ فيعلم حكمها الصحيح في الشرع.

* وعند التحقق من أصل ما، لا يجوز لنا العدول عنه إلى حكم آخر إلا بدليلٍ ينقلنا عن حكم الأصل.

- هذه من أهم القواعد الفقهية النافع معرفتها، وهذا -يعلم الله- عن تجربة، ولنضرب أمثلة تقرب المراد:

* الأصل في الأبضاع الحرمة إلا ما جاء الدليل بحله (ناقل عن الأصل) كالزواج.

* كما وإن الأصل في البيوع الحل إلا ما أتى فيه نص محرم (ناقل عن الأصل) كبيع الغرر.

* كذا الأصل بقاء ما كان على ما كان إلا إذا جاء الدليل بزواله عن أصله كبقاء الطهور المتيقن وورود الشك عليه:

وترجع الأحكام لليقين *** فلا يزيل الشك لليقين

* الأصل في الميتة الحرمة إلا ما جاء الدليل بحله (ناقل عن الأصل) كميتة البحر والجراد... وهكذا.

هذه كانت توطئة بين يدي قصتنا: (وحَدَثَ في السفر)..

في رمضان ما، كنا في سفرةٍ ما إلى مكانٍ ما، جمْعٌ من المعارف رجالًا ونساءًا، وكان سفرنا عن طريق البحر
وصلت سفينتا بعد منتصف الليل إلى الميناء، وبعد تمام الإجراءات أُذِن لنا -نحن الركاب- بالنزول من قمراتنا إلى الميناء، وكانت عقارب الساعات في أيدينا تعدَّت الثالثة بعد منتصف الليل على توقيت بلدنا، ومن نافلة القول أن هناك فارق لا بأس به بين توقيت بلدنا وتوقيت تلك البلد، ولكننا كنا نجهل قيمته، كما كنا نجهل كم التوقيت ساعتئذ، وكان الجو شديد الرطوبة مما يعطي انطباعًا خانقًا، وإحساسًا متزايدًا بارتفاع درجة الحرارة، تنامى هذا الإحساس مع شدة الزحام، وتباطؤ سيارات نقل الركاب في تقديم الخدمات في مثل تلك الأوقات، واشتد بنا العطش، واشتاقت أنفسنا لقطرات تطفئ لهيب أجوافنا، وامتدت الأيدي؛ تبحث بين الأمتعة عن زجاجات المياه الماتعة.

ولكن.. مهلًا لحظة..
هل طلع الفجرأم لا؟

وأخذ الجمع يسأل بعضه بعضًا، بل ويبحثون عمَّن يسألونه من مواطني هذه البلدة، فلم يُوفّق لأي منا ذلك فانقسم القوم ما بين:

- ممسك عن الشراب لنفسه، ومانعًا منه غيره؛ متورعًا يحتاط -بزعمه- لصومه.

- وشارب لشدة عطشه عازِمًا الفطر يومه، أخذًا برخصة الفطر في السفر.

- وناظرٍ إلى السماء محاولًا تَبَيُّن الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر.

- وقوم يقلبون أبصارهم إلى هؤلاء تارةً وإلى هؤلاء تارة، متلهفة قلوبهم، مشرئبة أعناقهم لا حول ولا قوة لهم.

- وإذا بصوتٍ يرتفع: يا قوم يا قوم: الأصل الأصل عليكم بالأصل.

فالتفت الجمع إليه، مقبلين بكليتهم عليه، عن أي أصل تتحدَّث؟!

فشرب ثم شرب ثم شرب، وهم ناظرين إليه مشوقين لما سيخرج من شفتيه، وأخيرًا قال لهم:

هل تبيَّن أحدكم طلوع الفجر؟ أجابوا: أن لا، قال: إذن الأصل بقاء الليل، قالوا: كيف؟

قال: قال الشيخ العثيمين رحمه الله: "الأصل بقاء الليل حتى يأتي دليل على طلوع الفجر".

واستدل بقوله تعالى: {وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ُثمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ} [البقرة من الآية:187].

فقال إن الأكل والشرب أبيح في الآية الكريمة حتى تَبَيُّن الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الليل.

* كما استدل بحديث عائشة رضى الله عنها حيث قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن بلالًا يؤذن بليل، فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم» (صحيح البخاري، رقم: [622]).

* وكذا استدل بحديث عدي بن حاتم الطائي: لما نزلت: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ}. قال له عدي بن حاتم: يا رسول الله! إني أجعل تحت وسادتي عقالين: عقالًا أبيض وعقالًا أسود، أعرف الليل من النهار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن وسادتك لعريض. إنما هو سواد الليل وبياض النهار» (صحيح مسلم، رقم: [1090]).

فلما لم نتبين طلوع الفجر، لزمنا العمل بالأصل وهو بقاء الليل؛ وجاز لنا التمتع بالطعام والشراب إلى أن نتبين، وبخاصةٍ أننا بذلنا الجهد واستفرغنا الوسع في التبين يا قوم.
 
- فنظرنا إليه دهشين ومن قوله متعجبين، فانبرى قائلٌ منا كأنه مُعبِّرٌ عنا: ماذا إذا شربنا، ثم تبين لنا بعدُ أننا فعلنا بعد طلوع الفجر؟!
- أجابه فقيهنا: نقلًا عن العثيمين شيخنا:

من أكل أو شرب يظن الليل لم ينته، وأن الفجر لم يطلع، بيد إنه أخذ بالتحري، فلا شيء عليه لقوله تعالى: {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة من الآية:286]. وقوله تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَٰكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} [الأحزاب من الآية:5].. ولأن عدي ابن حاتم كان يأكل ويشرب حتى يتبين العقال الأبيض من الأسود ثم يمسك، فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم أن المراد بالخيطين سواد الليل وبياض النهار ولم يأمره صلى الله عليه وسلم بالقضاء، لأنه كان جاهلًا بالحكم..

وثبت في الصحيح عن أسماء رضي الله عنها  عن أبيها: "أنهم أفطرنا يومًا في رمضان في غيم في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم طلعت الشمس" ولم يأمرهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالقضاء" (صحيح البخاري؛ كتاب: الصيام، رقم: [1823]).

فدل هذا على أن من أكل في وقتٍ يظن فيه أنه مباحٌ له الأكل فإنه لا حرج عليه، إذا تبين له أنه في النهار، سواءً كان ذلك من أول النهار أو من آخره؛ لأن العلة واحدة..

ولكن الفرق بين أول النهار وآخره:

- أن أول النهار يجوز له الأكل مع الشك في طلوع الفجر؛ لأن الأصل بقاء الليل.

- وأما في آخر النهار فلا يجوز له الأكل مع الشك في غروب الشمس؛ لأن الأصل بقاء النهار.." انتهى.

وهنا سارع الجميع يعبون من الماء العذب عبًّا، حتى إذا ذهب الظمأ وابتلت العروق، وتحقق -بفضل الله- الريّ، وسكن الروع، واطمأنت القلوب..

وإذا بصوت النداء يصدح في سماء الميناء مُؤْذِنًا بطلوع فجر جديد: الله أكبر الله أكبر .. الله أكبر الله أكبر

ولسان حال جمعنا يقول:

تالله لولا الله ما اهتدينا *** ولا تصدقنا ولا صلينا.

فالحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
 

2014-07-02 00:00

المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام
المقال السابق
(7) سحوري أم صلاتي
المقال التالي
(9) حول صدقة الفطر نُطَوّفِ