رمضان المؤمن يبدأ ولا ينتهي
للحديث عن الحبيب دائمًا شجون وشجون، فلطالما تغنى المحبون بوصف عجزهم عن التعبير عن حبهم ولهفتهم وأشواقهم، وتوقهم للقاء ذلك المحبوب الذي طال بعده وتفطر القلب حنينًا إليه، وهذا لسان حالي معك يا رمضان.
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، وأصلي وأسلم على سيد الأولين والآخرين المبعوث رحمة للعالمين وعلى أصحابه الغر الميامين ومن اتبع هداه واستنن بسنته إلى يوم الدين: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ . الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ . وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ . أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [آل عمران:133-136]، أما بعد:
فرمضان وما أدراك ما رمضان؟!
لطالما تملكني اعتقاد بأني أستطيع بحول الله أن أطلق قلمي ليكتب في أي شيء إلا عن هذا الحبيب رمضان، شهر الحبيب القرآن، ربما لهيبة الحديث عنه وشعوري بالعجز عن الإلمام بفضائله وقدرتي المتواضعة في أن أفيد القارئ الكريم بعدما أشبعه العلماء والدعاة الأفاضل حديثًا مستشهدين بعظيم آي القرآن الكريم وبصحيح السنة.. فماذا عساي أن أقول من بعد؟!
فلا أملك إلا القليل بوصف مشاعر الترقب والوجل تارة، والبوح بمشاعر الفرح والاستبشار تارة أخرى، ثم أتوقف حين تلجم قلمي مشاعر الخوف والرجاء، وما عساي أن أقول مجددًا؟!
للحديث عن الحبيب دائمًا شجون وشجون، فلطالما تغنى المحبون بوصف عجزهم عن التعبير عن حبهم ولهفتهم وأشواقهم، وتوقهم للقاء ذلك المحبوب الذي طال بعده وتفطر القلب حنينًا إليه، وهذا لسان حالي معك يا رمضان.
في طفولتي كنت أستبشر بحديث صحيح البخاري الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا دخل رمضان فُتحت أبواب الجنة وغُلقت أبواب جهنم وسُلسلت الشياطين»، وفي رواية: «صُفدت».
فأعتقد أننا دخلنا إلى وقت وردي لا شياطين فيه، وبالتالي لا معاصي فيه ولا شرور، إلى أن كبرت وعلمت أننا في زمن كادت فيه الشياطين أن تنعم بإجازات، وترتاح من عناء الوسوسة والتحريض! فشياطين الإنس والنفوس الأمارة بالسوء تقوم بأشنع مما تقوم به الشياطين {..إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} [النساء:76]. وهاهو يزداد ضعفًا في زمن تفوق فيه شر الإنس عن شر الجن والشياطين!
إذًا فرمضان الماضي وسلسلة شهور رمضان المتتابعة ما بلغنا منها! وما نأمل ببلوغ القادم منها بإذن الله، ما هي إلا مراحل في مدرسة ربانية تأهلنا للتخرج بنصر مؤزر وفتح كبير وانتصار مجلجل في معركتنا ضد الهوى، وفي جهادنا ضد النفس الأمارة بالسوء، لتحقيق التغير الجذري في بناء الشخصية والارتقاء بتطلعها، وتحويل بذلها من النيل من مطامع الدنيا إلى التطلع إلى الفوز بفتوحات السماء، وتحقيق النتيجة العظمى برضى الرحمن، ومن ثَم حسن الخاتمة، وما كان ليكون ذلك لأحد إلا بالنهل من معين القرآن ومعين السُّنة والسلف الصالح، تعلمًا واقتداءً وعملًا.
فالخريج الناجح في المدارس الربانية -ولله المثل الأعلى- تلك المدارس التي تكثف دروسها في مواسم الطاعات، نال الشهادة السامية بأن حسُنت خاتمته حين استطاع النجاح بسلسلة نجاحات باهرة متتالية ومتزامنة بمواسم التحلية والتنقية، مرورًا بمراحل التوبة والكف عن المعاصي كبيرها وصغيرها، ثم سما فسلك مدراج المحسنين بمجاهدة النفس والهوى، وتدرج في الإحسان في العبادات فزاد في النوافل، وزاد علمًا وتقربًا بالعمل فنال كريم المدد والسداد الإلهي والدعم الرباني، وما ألطفه وما أرقه وما أحسنه وما أجمله! وما من وصف إلا ويقف عند بلاغة وبيان لطيف الآية الكريمة: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69].
فما للمؤمن أن يتصور أن يفوته موسم توزيع الغنائم بسبب فضول نوم أو طعام أو غفلة أو تقاعس، فما تجد المؤمن قبل رمضان إلا في حالة تأهب واستنفار، بشحن الهمة وتمرين النفس وتدريب الجوارح ؛ فيزداد لزومه لمصحفه، ويزداد إحسانًا في صلاته وكل طاعاته.
رمضان المؤمن لا يبدأ بتوقيت أم القرى؛ لأنه لم ينتهِ في رمضان السابق بتوقيت أم القرى أيضًا؛ فحياة المؤمن كلها رمضان، فهو إما في فترة استعداد، أو في فترة مسابقة ومسارعة للخيرات، أو في مثابرة واستمرار على ما كان عليه في رمضان، وتحقيق الأفضل في كل المجالات علمًا وعملًا وتفكرًا وتدبرًا وبذلًا، وما لا يتسع المجال لذكره مما لا يخفى عن أهل الخير فضله.
فما يلبث أن يبدأ رمضان في حياة المؤمن حتى ينتهي في الفردوس الأعلى التي تنتظر أهلها {هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللهِ} [آل عمران من الآية:163]، فسارع إلى ما تتوق إليه نفسك من درجات تدركها برحمة الرحمن الرحيم العفو الغفور الشكور الودود.
فاجعللنا اللهم ممن أمضى حياته في طاعتك، واكتبنا من أهلك وأوليائك، ووفقنا لأن نكون ممن يبدأ رمضانه ولا ينتهي إلا برضاك وقبولك والفوز بحسن الختام وأعلى درجات الجنان والعتق من النيران، وذلك والله لهو الفوز العظيم.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
- التصنيف:
- المصدر: