اللآلئ المضيئة

منذ 2014-07-04

إن سيرة السلف الصالح تؤكد على نظافة المسجد وتطييبه، فقد ورد أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يطيب مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم كل جمعة قبل الصلاة، وكانت السيدة عائشة رضي الله عنها تقول: "لأن أطيب الكعبة أحب إلي من أن أهدي ذهبًا وفضة".

المكان الذي تطمئن فيه القلوب وتهدأ فيه الأعصاب وترتاح فيه النفوس، المكان الذي تجتمع فيه الأرواح قبل الأبدان، ويتآلف في ظله الخصماء والفرقاء، فتصفو النفوس بعد كدر، وتتلاقى بعد افتراق، قال تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} [النور: 36]. قال قتادة: "هي المساجد أمر الله ببنائها ورفعها وأمر بعمارتها وتطهيرها" (تفسير ابن كثير:6/ 62).

إنه المسجد الذي ترتفع فيه كلمات الحق كل يوم خمس مرات، تصدح بالنداء الخالد الذي تهتز له النفوس والقلوب، فتصطف فيه الأبدان والأرواح لمناجاة الله تعالى والتخفيف من الأعباء التي تتكدس كل ساعة على هذا القلب من أثر الحياة المادية التي يعيشها، ولتطهير النفوس والأرواح مما قد يعلق بها كل يوم من غبار المعاصي وأوساخ الذنوب، المسجد هو المكان الذي تهفو إليه نفوس المؤمنين الصادقين وتتعلق به، فتنال بذلك نعمة ظل الله تعالى يوم لا ظل إلا ظله، تصديقا للحديث الصحيح عن الرسول صلى الله عليه وسلم: «سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله:... ورجل قلبه معلق في المساجد» (رواه البخاري).

صحيح أن غاية وجود وبناء المساجد ليست الحجارة والجدران، وإنما تخريج العظماء والأبطال، ولكن ذلك لا ينفي أهمية الحجارة والجدران من حيث نظافة المسجد وأناقته وترتيبه، بشكل يجعل الداخل إليه يزداد راحة على راحة وسكينة على سكينة. ومن عادة الإنسان وطبعة أن يحافظ على نظافة بيته ومكتبه ومتجره، يزيل عنه الغبار والأوساخ، ويرفع عنه ما وقع به من أذى، فهل يفعل مثل ذلك في المساجد التي تعتبر بيوت الله تعالى في الأرض؟! لقد تشرفت بالدخول إلى كثير من المساجد في بعض البلدان الإسلامية الكبرى، ولاحظت التقصير والإهمال في نظافة المسجد وترتيبه وأناقته بشكل عام، وفي أكثر من مرة قمت بما أستطيع من التنظيف والترتيب رجاء أن أرى بيوت الله تعالى في أحسن حال، نظافة ورائحة وترتيبًا، ولكن العمل الفردي العابر في مثل هذا المجال لا يكفي، ولا بد من حل عملي سريع وفعال، يجعل من بيوت الله تعالى لآلئ في الأرض مضيئة.

لقد أمرنا الإسلام بالطهارة والنظافة، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: 222]، وقال تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31]، وقال تعالى: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} [التوبة: 108].

وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «الطهور شطر الإيمان» (صحيح مسلم: 223)، وإذا لم تكن العبارة المشهورة المتداولة عالميا: "النظافة من الإيمان" حديثا نبويا، فإن المعنى الذي تتضمنه العبارة صحيح بلا شك، وهو مقتبس من نصوص صحيحة، وحث الرسول صلى الله عليه وسلم على العناية بنظافة المسجد وتطييبه وترتيبه فعن عائشة رضي الله عنها قالت: «أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ببناء المساجد في الدور -أي الأحياء- وأن تنظف وتطيب» (رواه أحمد والترمذي وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة 6 / 496).

وعن أنس رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عرضت علي أجور أمتي حتى القذاة يخرجها الرجل من المسجد» (رواه ابن خزيمة وأبو داود والترمذي)، قال الشوكاني: "القذاة: الواحدة من التبن والتراب، فيه ترغيب في تنظيف المساجد مما يحصل فيها من القمامات القليلة أنها تكتب في أجورهم وتعرض على نبيهم، وإذا كتب هذا القليل وعرض فيكتب الكبير ويعرض من باب أولى" (نيل الأوطار 2 / 159).

 

وعن أبي هريرة رضي الله عنه: «أن امرأة سوداء كانت تقُم -أي تنظف- المسجد ففقدها الرسول صلى الله عليه وسلم فسأل عنها فقالوا: ماتت فقال: أفلا كنتم آذنتموني -كأنهم صغروا أمرها فلم يخبروه- فقال: دلوني على قبرها، فدلوه فصلى عليها ثم قال: إن هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها وإن الله ينورها لهم بصلاتي عليهم» (رواه البخاري ومسلم). قال الحافظ ابن حجر: "في الحديث فضل تنظيف المسجد والسؤال عن الخادم والصديق إذا غاب" (فتح الباري 2 / 197).

ومن المؤسف أن نرى اليوم عكس هذا التوجيه الإلهي والهدي النبوي في مساجدنا، فترى بعض الأوساخ على سجاد المساجد، أما الرائحة الكريهة فحدث ولا حرج، وخاصة في حمامات المساجد التي تترفع نفوس كثير من الناس عن استخدامها لكثرة وساختها ورائحتها الكريهة، وربما يؤدي استخدامها إلى انتشار الأمراض وخاصة تلك التي حذر الأطباء من انتقالها من الحمامات الوسخة كالتهاب الكبد والسل، إضافة إلى الأمراض الأخرى الكثيرة بفعل انتشار الجراثيم والميكروبات الناقلة للأمراض المعدية.

إن تنظيف المسجد والعناية به مسؤولية جميع المسلمين، وليست مسؤولية الخادم والإمام والمؤذن فحسب، وإن كانت مسؤولية هؤلاء أكبر وأعظم، فلا بد أن تتكاتف جهود الجميع للارتقاء بنظافة المسجد إلى المستوى المطلوب، فلا بأس أن يخصص يوم الخميس مثلا من كل أسبوع، لاجتماع عدد من أبناء الحي ومعهم خادم المسجد بالطبع، للقيام بتنظيف وترتيب وتطييب المسجد وتهيئته لاستقبال المصلين لصلاة الجمعة وهو في أحسن حلة وأطيب رائحة، ولا بأس أن يغسل سجاد المسجد كل سنة مرة على الأقل كما يفعل المرء في سجاد بيته، وأن تغسل جدرانه وتنظف أو تطلى بالدهان كل سنة أو سنتين..

فقد ورد في الحديث الصحيح عن عائشة رضي الله عنها: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى في جدار القبلة مخاطًا أو بزاقًا أو نخامة فحكه» (رواه البخاري ومسلم). ولا شك أن الحمامات في المساجد من أكثر الأماكن عرضة للأوساخ والقاذورات، فلا بد أن تبذل عناية خاصة بها، وهذا كله يتطلب مساعدة الجميع، ويحتاج إلى دعم من أهالي الحي لخادم المسجد والإمام والمؤذن ماديًا ومعنويًا لإتمام هذه المهمة.

إن سيرة السلف الصالح تؤكد على نظافة المسجد وتطييبه، فقد ورد أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يطيب مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم كل جمعة قبل الصلاة، وكانت السيدة عائشة رضي الله عنها تقول: "لأن أطيب الكعبة أحب إلي من أن أهدي ذهبًا وفضة"، فهل سنقتدي بالقرآن والسنة وسيرة السلف الصالح، ونغير الواقع الأليم الذي تشهده بيوت الله تعالى في الأرض؟ 

 

عامر الهوشان