جياع رمضان..!
ما إن يطل رمضان وتشرق بسماتُه، إلا ويطل معه الفقراء بالآلاف، وتنهمر احتياجاتهم، وتبرز رحمات الموسرين بالجود والعطاءات، يجوع الفقراء، فيحس بهم الأغنياء، فيتراحم الخلق، وتتراجع صفات الشرَه والأثرة والأنانية إلى حد لا بأس به! عجوز ذو عيال، وشباب عاطل، وعمال برواتب متدنية، وأرملة لها صغار ولا عائل، وأيتام هنا وهناك..
بسم الله الرحمن الرحيم
ما إن يطل رمضان وتشرق بسماتُه، إلا ويطل معه الفقراء بالآلاف، وتنهمر احتياجاتهم، وتبرز رحمات الموسرين بالجود والعطاءات، يجوع الفقراء، فيحس بهم الأغنياء، فيتراحم الخلق، وتتراجع صفات الشرَه والأثرة والأنانية إلى حد لا بأس به! عجوز ذو عيال، وشباب عاطل، وعمال برواتب متدنية، وأرملة لها صغار ولا عائل، وأيتام هنا وهناك..
لقيتها ليتني ما كنت ألقاها *** تمشي وقد أثقل الإملاق ممشاها!
إن موسم رمضان اختبار حقيقي للعدالة الاجتماعية، ونسبة التواصل بين المجتمع الواحد!
رحمات مُسبَلة، وقلوب حانية، ونفوس منكسرة، ومشاهد تبعث على الحزن والشفقة، لأن رمضان شهر الجوع والصبر والاحتمال، جعله الله ابتلاء لتحمل الشهوات! فمن ذا الذي لا يندمج مع تلك الأجواء الرحيمة، والأفنان المتعاطفة؟!
يُذهب الصوم كبرياء النفس وطغيانها، ويلينها القرآن، ويرققها الذكر، وتقربها الصدقة، ويشرحها الإحسان! والمقصد أن الجياع يظهرون ويتكاثرون في رمضان، والواجب الاهتمام بهم ودعمهم، وتجفيف دموعهم، والحنو عليهم، فمن لا يرحم لا يُرحم كما صح بذلك الحديث، وفي الحديث المسلسل بالأولية: «الرَّاحمونَ يرحمُهُمُ الرَّحمنُ، ارحَموا من في الأرضِ يرحَمْكم من في السَّماءِ» (صحيح الترمذي:1924)
ولذلك يتعين علينا أمور تجاه هبة الجياع في رمضان:
1- رحمتهم والحفاوة بهم من خلال موائد الصائمين، والتقرب إلى الله بمواساتهم، جاء في الحديث في صحيح البخاري: «أطعموا الجائع».
2- إيصال الزكوات الواجبة اليهم، فإنهم غالبًا من أرباب الزكاة، وممن تنطبق عليهم صفات الفقر او المسكنة، قال تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ..} [التوبة:60].
وإذا كانت الحاجة ماسة في أقطار العالم الإسلامي -وهو كذلك- جاز نقل الزكاة، بل تعينت أحيانًا، لعظم البأساء واللأواء الواقعة بهم، كما تلاحظون في سوريا والعراق وأماكن منكوبة اخرى! تأملوا سفرهم وسفرتنا، وجوعهم وترفنا! فالواجب الغوث والنجدة: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة:71].
3- تيسير أسباب السعادة لهم برمضان، من خلال مناشط البر، وميادين الإحسان، والتواضع لهم وتقريبهم من المساجد، وتهيئة كساوي العيد لهم ولأبنائهم.
4- استثمار وجودهم في المساجد بتكثير الوعظ والدرس الماتع المفيد، الذي يلامس المشاعر، ويحي النفوس.
5- إسباغهم بعطايا الريح المرسلة، التي تغمرهم بالسماحة والنداوة، واستشعار عظم البذل في رمضان، قال ابن عباس: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان".
6- ليونة التجار معهم، والإرفاق بهم في البيع والشراء، لا سيما والأسعار سُعار، والغلاء وباء، والرحمة بهم مندوبة في شهر الرحمة والتعاطف، وليدرك المجتمع أجمع بأن الجياع في العالم يتزايدون، لا سيما في المنطقة العربية والإسلامية، رغم ضخامة الثروات، وتركهم بلا مورد قتل للإنسان، وإهدار لحقوقه، وإشعال لداخله، بحيث يتربى على السخط المجتمعي، وكراهية الأغنياء والوجهاء، ويصبح مستعدًا لكل عمل كارثي، يستعيد به حقوقه وكرامته!
ويُروى للعقيلي وابن أبي شيبة مرفوعًا: "كاد الفقر أن يكون كفرًا"، ولا يصح والعامة تردد الجوع كافر، وصحت استعاذة النبي صلى الله عليه وسلم من الجوع: «اللهم إني أعوذ لك من الجوع فإنه بئس الضجيع» (أخرجه أبو داود بسند صحيح)، مما يدل على أن استشراءه لن يعود بخير المجتمعات..
فلماذا نحن لا نأخذ بالمبادرة من الوهلة الأولى، ونجتهد في تغذية الفقراء، بحيث نصوم رمضان بلا جياع! فللجياع أنات وصولات، ليس من صالح العقلاء، طردهم أو إهمالهم، أو جعلهم على حافة الهاوية، بل قد تتعمد بعض النظم، تحميلهم مالا يحتملون، أو رفع الدعم عنهم، أو جعلهم فريسة للهوامير الجشعين!
قال تعالى: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ . لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [المعارج:24-25].
وحينما يتفاقم الظلم الاجتماعي، تتقلص الطبقة الوسطى، حتى تبيت في تابوت الجياع، فينالهم الرهق، وتغشاهم المسغبة، وتتكنفهم الأحزان، وللجياع هذه الأيام مظاهر مأساوية نشاهدها في الشام النازف، وتؤلمنا في العراق والصومال، ونغص بها في أفغانستان وفلسطين وغيرها من أراضي المعمورة!
وعمومًا الجوع مؤلم حتى للكافر، يهتز له كل وجدان حي، فكيف إذا كان مسلمًا، والأموال تتطاير من هنا وهناك! أو تُلقى في القمامات بلا خوف ولا هوادة، قال تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ . وكانوا يصرون على الحنث العظيم} [الواقعة:45-46].
ربَّ دار قضت قتيلةَ جوعٍ *** والدنانير أبحر والنقودُ
وفتاةٍ من عريها تتلوى *** وحريرٌ ثيابنا والبرودُ!
وللتكافل المجتمعي في الإسلام قال صلى الله عليه وسلم: «ما آمن بي من بات شبعانَ و جارُه جائعٌ إلى جنبِه و هو يعلم به» (صحيح الجامع:5505)، مما يعني السؤال وتلمس أحوال الجيران، وهذا إما أن تمارسه الجمعيات الخيرية، أو يقوم به إمام المسجد، ليشعر الجميع بالوحدة، وأهمية التكاتف والتعاضد، قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ..} [الحجرات:10].
اللهم ارحم امتنا واجبر ضعفها، وانصرها يا ذا الجلال والإكرام، والسلام.
حمزة بن فايع الفتحي
- التصنيف:
- المصدر: