الترسل الإعلامي وبلاغة الانقياد

منذ 2014-07-16

في العصر الحديث الذي تولى فيه الإعلام وظيفة كاتب السلطان، لم يكتف الخطاب الإعلامي بتمجيد النظم الحاكمة فحسب، بل تولى مهمة شرعنة الولاء لأنساق فكرية واجتماعية وقيمية تصادم الهوية والعقيدة.


شاع في العصور السابقة لون أدبي سلطاني حرص رواده على نشر وتثبيت أخلاق الطاعة والولاء للمتسلطين، وإكساب مراكزهم بُعدًا جبريًا من خلال توظيف النص الديني والموروث الفارسي، عُرف هذا اللون الأدبي بفن (الترسل)، وشكل برأي بعض الباحثين مدخلاً لتأسيس منظومة قيم ماكرة، يُسخر القوالب اللغوية المتنوعة لتؤدي مهمة التبرير الديني والبرهان العقلي للاستبداد والتسلط، ويبدو أن الترسل قد حقق مراد الحكام طوال العصور اللاحقة ليؤسس بالتالي ما يمكن أن نسميه (بلاغة الانقياد).

وفي العصر الحديث الذي تولى فيه الإعلام وظيفة كاتب السلطان، لم يكتف الخطاب الإعلامي بتمجيد النظم الحاكمة فحسب، بل تولى مهمة شرعنة الولاء لأنساق فكرية واجتماعية وقيمية تصادم الهوية والعقيدة.

إن نافذة التغريب التي ظلت مُشرعة بعد أفول العهد الاستعماري مكنت من تغذية الشعور بالاستعلاء لدى فئة عريضة راهنت على التجرد من أي شيء، بل ومن كل شيء لقاء الحفاظ على وضع اعتباري أو امتيازات سابقة.

وكان من تبعات الاستعلاء أن راهنت هذه الفئة على إرساء خطاب إعلامي وسياسي وثقافي ينحاز لمرجعية (الغالب) وحضارته، ويدعم كل أشكال الاستلاب ووأد محاولات النهوض الذاتي.

وإذا كانت أهم سمات الإعلام اليوم، كما بسطها (هربرت شيللر) في كتابه: (المتلاعبون بالعقول) هي التضليل واستحداث معنى زائف، وإنتاج وعي لا يستطيع أن يستوعب بإرادته الشروط الفعلية للحياة القائمة، أو أن يرفضها سواء على المستوى الشخصي أو الاجتماعي (1)، فإنها لدى المولعين بثقافة (الغالب) تمتد لما هو أعمق من التضليل حين تنحو منحى الترسل في تبرير الاستلاب والتغريب، والدفاع عن طروحات وقيم شائهة.

إن الترسل الإعلامي لا يكتفي بتمجيد النظم العلمانية الحاكمة أو تثبيت الهيمنة الأجنبية على ذاكرة الأمة ومقدراتها فحسب، بل يدفع بسيطرته التوجيهية إلى أبعد من ذلك حين يصوغ الفساد والرخاوة والانحلال في قوالب حتمية تشجع على الانقياد لما هو سائد، والقبول بالوضع الشاذ والمنافي للثوابت والقيم!

وهذه السيطرة لا تكف عن تجديد أدواتها وتأثيث فضائها لا بالقوالب اللغوية وحدها أو الطرح الفكري المخاتل، بل كذلك من خلال الاستعانة بكل منتجات التكنولوجيا الإعلامية الحديثة.

ينهض الترسل الإعلامي كذلك على الخلط المتعمد بين التحديث والتغريب، والحرص الدائم على إيهام الأغلبية الصامتة بأن أي تفكير أو مبادرة تنافي منظور (الغالب) وتصوارته وأطره المرجعية هو بمثابة تراجع عن المكتسبات، وإعاقة فرص التقدم والنمو.

وهذا يفسر موقفه المناوئ للمشروع الإسلامي، الذي يستمد أطره وأدواته من رصيد الأمة التاريخي والحضاري.
أما أبرز تجليات هذا الخلط فتكمن بالأساس في إضفائه طابع العالمية والكونية على قضايا وتحديات تؤرق المجتمع المتقدم وحده، وتهدد وجوده وانفراده بالصف الأمامي.

في المقابل هل يمكن الجزم بانصياع الأغلبية الصامتة لبلاغة الانقياد؟ 
إن ما يحفل به المجتمع الإسلامي اليوم من آفات أخلاقية وسلوكية لا يدع مجالا للشك بأن: المرامي المتوخاة بلغت حدًا مرعبًا من التحقق، وأن حديث الهوية والخصوصية والانتماء يتطلب جهدًا كبيرًا لتتشربه العقول الناشئة.

هكذا إذا يزج الترسل الإعلامي بالأغلبية الصامتة في خضم الحيرة والضياع، وفقدان الحرية الداخلية، كما يدفع بالمجتمع صوب تبني قيم هشة والقبول الذاتي لكل صور المسخ الفكري والمظهري.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) هربرت شيللر: المتلاعبون بالعقول. ترجمة عبد السلام رضوان. منشورات المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب. الكويت 1999. ص 5

 

حميد بن خبيش 

 

المصدر: مجلة البيان