ليلة القدر؛ (رؤية فقهية)
ولله حكمة بالغة في إخفائها عنّا؛ فلو تيقنا أي ليلة هي لتراخت العزائم طوال رمضان، واكتفت بإحياء تلك الليلة، فكان إخفاؤها حافزًا للعمل في الشهر كله، ومضاعفته في العشر الأواخر منه، وفي هذا خير كثير للفرد وللجماعة.
بسم الله الرحمن الرحيم
لقد نَوَّه القرآن، ونَوَّهَت السُّنَّة بفضل هذه الليلة العظيمة، وأنزل الله فيها سورة كاملة: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ . وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ . لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ . تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ. سَلَامٌ هِيَ حَتَّىٰ مَطْلَعِ الْفَجْرِ} [القدر:1-5].
عَظَّمَ القرآنُ شأنَ هذه الليلة، فأضافها إلى "القدر" أي المقام والشرف، وأي مقام وشرف أكثر من أن تكون خيرًا وأفضل من ألف شهر. أي الطاعة والعبادة فيها خير من العبادة في ألف شهر ليس فيها ليلة القدر.
وألف شهر تساوي ثلاثًا وثمانين سنة وأربعة أشهر؛ أي أن هذه الليلة الواحدة أفضل من عمر طويل يعيشه إنسان عمره ما يقارب مائة سنة، إذا أضفنا إليه سنوات ما قبل البلوغ والتكليف.
وهي ليلة تتنزَّل فيها الملائكة برحمة الله وسلامه وبركاته، ويرفرف فيها السلام حتى مطلع الفجر. وفي السنة جاءت أحاديث جَمّةً في فضل ليلة القدر، والتماسها في العشر الأواخر ففي صحيح البخاري من حديث أبي هريرة: « » (رواه البخاري في كتاب الصوم).
ويحذِّر النبي صلى الله عليه وسلم من الغفلة عن هذه الليلة وإهمال إحيائها، فيحرُم المسلم من خيرها وثوابها، فيقول لأصحابه، وقد أظلهم شهر رمضان: « » (رواه ابن ماجة من حديث أنس، وإسناده حسن كما في صحيح الجامع الصغير وزيادته [2247]).
وكيف لا يكون محرومًا من ضيع فرصة هي خير من ثلاثين ألف فرصة؟!
إن من ضيّع صفقة كان سيربح فيها 100% يتحسّر على فواتها أيّما تحسُّر، فكيف بمن ضيع صفقة كان سيربح فيها 3000000% ثلاثة ملايين في المائة؟!
أي ليلة هي؟
ليلة القدر في شهر رمضان يقينًا، لأنها الليلة التي أُنْزِلَ فيها القرآن، وهو أُنْزِلَ في رمضان، لقوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ} [البقرة من الآية:185].
والواضح من جملة الأحاديث الواردة أنها في العشر الأواخر، لما صح عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجاور في العشر الأواخر من رمضان، ويقول: « » (متفق عليه، اللؤلؤ والمرجان [726]).
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم، خرج إليهم صبيحة عشرين فخطبهم، وقال: « -أو - » (متفق عليه، المصدر نفسه [724]). وفي رواية: « » (نفسه [725]).
ومعنى "يجاور": أي يعتكف في المسجد، والمراد بالوتر في الحديث: الليالي الوترية، أي الفردية، مثل ليالي: 21، 23، 25، 27، 29.
وإذا كان دخول رمضان يختلف كما نشاهد اليوم من بلد لآخر، فالليالي الوترية في بعض الأقطار، تكون زوجية في أقطار أُخرى، فالاحتياط التماس ليلة القدر في جميع ليالي العشر.
ويتأكد التماسها وطلبها في الليالي السبع الأخيرة من رمضان؛ فعن ابن عمر رضي الله عنهما: أن رجالاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أُروا ليلة القدر في المنام، في السبع الأواخر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « -أي توافقت- » (متفق عليه عن ابن عمر رضي الله عنهما، المصدر السابق [723]).
وعن ابن عمر رضي الله عنهما أيضًا: « » (رواه أحمد ومسلم والطيالسي عن ابن عمر رضي الله عنهما كما في صحيح الجامع الصغير [1242]).
والسبع الأواخر تبدأ من ليلة 23 إن كان الشهر 29، ومن ليلة 24 إن كان الشهر 30 يومًا.
ورأي أبي بن كعب وابن عباس من الصحابة رضي الله عنهم أنها ليلة السابع والعشرين من رمضان، وكان أُبَىّ يحلف على ذلك لعلامات رآها، واشتهر ذلك لدى جمهور المسلمين، حتى غدا يحتفل بهذه الليلة احتفالاً رسميًا.
والصحيح: أن لا يقين في ذلك، وقد تعدّدت الأقوال في تحديدها حتى بلغ بها الحافظ ابن حجر 46 قولاً. وبعضها يمكن رَدُّه إلى بعض.
وأرجحها كلها: "أنها في وتر من العشر الأخير، وأنها تنتقل، كما يفهم من أحاديث هذا الباب، وأرجاها أوتار العشر، وأرجى أوتار العشر عند الشافعية ليلة إحدى وعشرين، وعند الجمهور ليلة سبع وعشرين" (فتح الباري [171/5] ط: الحلبي).
حكمة إخفائها عن الناس:
ولله حكمة بالغة في إخفائها عنّا؛ فلو تيقنا أي ليلة هي لتراخت العزائم طوال رمضان، واكتفت بإحياء تلك الليلة، فكان إخفاؤها حافزًا للعمل في الشهر كله، ومضاعفته في العشر الأواخر منه، وفي هذا خير كثير للفرد وللجماعة.
وهذا كما أخفى الله تعالى عنّا ساعة الإجابة في يوم الجمعة، لندعوه في اليوم كله، وأخفى اسمه الأعظم الذي إذا دُعِيَ به أجاب؛ لندعوه بأسمائه الحسنى جميعًا.
روى البخاري عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: خرج النبي صلى الله عليه وسلم ليخبرنا بليلة القدر، فتلاحى رجلان من المسلمين -أي تنازعا وتخاصما- فقال: « -أي من قلبي فنسيتُ تعيينها- ».
وقد ورد لليلة القدر علامات، أكثرها لا يظهر إلا بعد أن تمضى، مثل: أن تظهر الشمس صبيحتها لا شعاع لها، أو حمراء ضعيفة...... إلخ.
ومثل: أنها ليلة مطر وريح، أو أنها ليلة طلقة بلجة، لا حارة ولا باردة، إلخ ما ذكره الحافظ في الفتح.
وكل هذه العلامات لا تعطي يقينًا بها، ولا يمكن أن تَطَّرد، لأن ليلة القدر في بلاد مختلفة في مناخها، وفي فصول مختلفة أيضًا، وقد يوجد في بلاد المسلمين بلد لا ينقطع عنه المطر، وآخر يصلي أهله صلاة الاستسقاء مما يعاني من المَحْل، وتختلف البلاد في الحرارة والبرودة، وظهور الشمس وغيابها، وقوة شعاعها، وضعفه، فهيهات أن تتفق العلامات في كل أقطار الدنيا.
ليلة عامة أو خاصة؟
ومما بحثه العلماء هنا؛ هل تُعتبَر ليلة القدر ليلة خاصة لبعض الناس، تظهر له وحده بعلامة يراها، أو رؤيا في منام، أو كرامة خارقة للعادة، تقع له دون غيره؟ أم هي ليلة عامة لجميع المسلمين بحيث يحصل الثواب المرتب عليها لمن اتفق له أنه أقامها، وإن لم يظهر له شيء؟
لقد ذهب جمع من العلماء إلى الاعتبار الأول، مستدلين بحديث أبي هريرة رضي الله عنه: « ....» (رواية لمسلم عن أبي هريرة).
وبحديث عائشة رضي الله عنها: أرأيت يا رسول الله إن وافقتُ ليلة القدر ما أقول؟
فقال: « » (رواه ابن ماجة والترمذي عن عائشة رضي الله عنها). وفسَّروا الموافقة بالعلم بها، وأن هذا شرط في حصول الثواب المخصوص بها.
ورجّح آخرون معنى يوافقها: أي في نفس الأمر، إن لم يعلم هو ذلك، لأنه لا يشترط لحصولها رؤية شيء، ولا سماعه، كما قال الإمام الطبري بحق.
وكلام بعض العلماء في اشتراط العلم بليلة القدر كان هو السبب فيما يعتقده كثير من عامة المسلمين أن ليلة القدر طاقة من النور تُفتح لبعض الناس من السعداء دون غيرهم. ولهذا يقول الناس: إن فلاناً انفتحت له ليلة القدر، وكل هذا مما لا يقوم عليه دليل صريح من الشرع. فليلة القدر ليلة عامة لجميع من يطلبها، ويبتغي خيرها وأجرها، وما عند الله فيها، وهي ليلة عبادة وطاعة، وصلاة، وتلاوة، وذكر ودعاء وصدقة وصلة وعمل للصالحات، وفعل للخيرات.
(مادة البحث مُحرّرة بتاريخ 22-8-2011م، من كتاب "فقه الصيام" للعلامة الدكتور يوسف القرضاوي، والكتاب صادر عن مكتبة وهبة، وتم نشره في عام 2004م).
د. يوسف القرضاوي
- التصنيف: