ما أحلى الأيام إذا كان فيها رمضان
ولنتخذ من رمضان معسكرًا إيمانيًّا؛ لتجنيد الطاقات، وتعبئة الإرادات، وتقوية العزائم، وشحذ الهمم، وإذكاء البواعث؛ للسعي الدؤوب لتحقيق الآمال الكبار، وتحويل الأحلام إلى حقائق، والمثاليات المرتجاة إلى واقع معايش.
من رحمة الله عز وجل بعباده، أن جعل لهم مواسم للخير والطاعات، يكثر أجرها ويعظم فضلها، حتى تتحفز الهمم للعبادة فيها، فتنال رضا الله وفضله، ونعيم قربه ومدده.. ورمضان من أعظم هذه المواسم السنوية التي تهل علينا كل عام حيث تستقبله النفوس بوجدان متوهج بالحب ولهفة الانتظار، لما له أجواء نورانية خاصة، شكلًا كانت أو مضمونًا، فهي خليط من هذا وذاك.
إن أهل الله تعالى وخاصته ينتظرون هذا الشهر بفارغ الصبر.. قد اشتاقَتْ إليهم المصاحف، وحنَّت إلى أصواتهم المساجد.. يَطربُون فيها بِسَماع كلام الله الَّذي يغْسِل بالرَّحْمة قلوبَهم، ويطهِّر بالإيمان سَريرتَهم، فيُقبِلون على الله تعالى؛ رجاءَ رحْمتِه، وخوفًا من عذابه، ويقْبِل عليهم ربُّهم بِفَيضه وفتوحه، فيُذِيقهم من لَوعات الحُبِّ والشوق، ويَفتح عليهم من أنوار المناجاة، ويَكْشف لهم من أسْرار السُّمُو إلى مِعراج رضوانه، فيَقِفون أمام مَلِيكهم وهو يُفِيض عليهم من عطاياه وبره وكرمه وجوده، ويَسِمُهم بالنور في وجوههم، في منظر مَهِيب، ومَحْفَل عجيب، لا يَناله إلا المُقرَّبون والسابقون، جعَلَنا الله منهم.
أهلًا بك يا رمضان:
أهلًا بك يا رمضان.. فأنت الحبيب الذي طال انتظاره، فأطل علينا بطلعته البهية وخيراته الجلية. وأنت النعمة المسداة لنا والرحمة المهداة من رب البرية.. روى ابن ماجه بسند صحيح عن طلحة بن عبيد الله أن رجلين قَدِما على رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان إسلامهما جميعًا، فكان أحدهما أشد اجتهادًا من الآخر، فغزا المجتهد منهما فاستشهد، ثم مكث الآخر بعده سنة ثم توفي، قال طلحة: فرأيت في المنام بينا أنا عند باب الجنة إذا أنا بهما، فخرج خارج من الجنة، فأذن للذي توفي الآخِر منهما، ثم خرج فأذن للذي استشهد، ثم رجع إلي فقال: ارجع فإنك لم يأْنِ لك بعد، فأصبح طلحة يحدث به الناس، فعجبوا لذلك، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وحدثوه الحديث، فقال: «من أي ذلك تعجبون؟» فقالوا: يا رسول الله، ?ذا كان أشد الرجلين اجتهادًا ثم استشهد، ودخل هذا الآخر الجنة قبله!، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أليس قد مكث هذا بعده سنة؟» قالوا: بلى، قال: «وأدرك رمضان، فصام، وصلى كذا وكذا من سجدة في السنة؟» قالوا: بلى، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فما بينهما أبعد مما بين السماء والأرض».
أهلًا بك يا رمضان.. فما أعظمك من جليل قدرٍ تزدهي به السماوات العلا، والجنان، والملائكة.. ويقيم رب العزة على شرفك مظاهر الاحتفال.. فإذا بالجنان أبوابها تفتح، وإذا بالجحيم أبوابها توصد، وإذا الربُّ يزين في كل يومٍ جنَّته، ويقول لها: «يوشك عبادي الصالحون أن يلقوا عنهم المئونة والأذى ثم يصيروا إليك» (قال عنه ابن عثيمين اسناده ضعيف).
أهلًا بك يا رمضان.. فرصة عظيمة، ومناسبة كريمة، تصفو فيها النفوس، وتهفو إليها الأرواح، وتكثر فيها دواعي الخير.. يجزل الله فيها العطايا والمواهب، ويفتح أبواب الخير لكل راغب، ويعظم أسباب التوفيق لكل طالب.. تتنزل فيك الرحمات، وترفع الدرجات، وتغفر الزلات، وتحط الأوزار والخطيئات. قال سفيان بن عيينة: "إذا كان يوم القيامة يحاسب الله عز وجل عبده، ويؤدي ما عليه من المظالم من سائر عمله، حتى لا يبقى إلا الصوم، فيتحمل الله ما بقي عليه من المظالم، ويدخل بالصوم الجنة" (الترغيب والترهيب 1/82).
أهلًا بك يا رمضان.. فقد اشتدَّ إليك شوقُنا، ننتظرك بعد عام من فراقك وقد اختلفتْ بعدَك أشياءُ كثيرة، كنَّا فيما مضى نتشوف لك؛ للاستزادة من الخير وتربية النَّفس المؤمنة المطمئنَّة، ونحن اليومَ نتلقَّاك لأجل البناء ولأجل الهدم أيضًا؛ لتبني فينا يا رمضان ما نرومه من خير وفضيلة، ولتهدم ما شاده المُبطِلون من مباني الفساد وصوره في مجتمعنا ونفوسنا، فاللهم باركْ لنا في شهرنا أفرادًا ومجتمعات وحكومات، واجعله جسرًا للعابرين بخير، وسدًّا في وجه دعاة الشَّر.
المغبون والمحروم:
إن رمضان فرصة لا يُفوتُها إلا متهاون مغبون، ولا يزهد فيها إلاّ جاهل محروم، فالمؤمن الرشيد يقدّم بين يدي رمضان توبة تحجزه عن الملاهي والمنكرات، التي تكتظ بها وسائل الإعلام والإجرام، ويتزوّد بالتقوى والإنابة، قبل تزوده بالطعام والشراب والثمار المستطابة.
قال تعالى في صفة عباد الرحمن: {وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} [الفرقان:72] أي: لا يحضرون الباطل في أيّ لون من ألوانه قولًا أو فعلا ً أو إقرارًا، وكل ما خالف الحق، وإذا مروا بأهل اللغو والمشتغلين به مروا معرضين عنهم كرامًا مكرّمين أنفسهم عن الخوض معهم في لغوهم، وهو كل كلام لا خير فيه. وهذا المعنى الذي دلّت عليه هذه الآية الكريمة، أوضحه جل وعلا بقوله: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} [القصص:55].
ومن أفحش الخطأ ما يعتقده كثير من الناس أن الصيام جملة من التروك فقط، متناسين أن الله تعالى شرع الصيام وشرع معه جملة من الأعمال التي تتضافر لتحقيق غايات الصوم وآثاره المرجوة منه، ولعل من أبرز تلك الأعمال التي دلت عليها النصوص: قراءة القرآن، قيام الليل (صلاة التراويح)، العمرة، الاعتكاف، الصدقة وإفطار الصائمين...
تنمية الذات:
الصيام يدرب النفس، وينمي قدرتها على التحكم في الذات، فمن الأهمية بمكان أن يستوعب المسلم حقيقة رسالته في الحياة، وأهمية مواسم الخيرات بالنسبة إليه؛ ليكون ذلك دافعًا له للجدية في حياته، والموازنة بين ما يمكن أن يقوم به من أفعال، ولكي يستفيد من هذه النفحات بشكل أفضل، بعيدًا عن الإغراق في المباحات والمستحبات على حساب الفرائض والواجبات، كما عليه أن يقوم بترويض نفسه في مثل هذه المواسم على القيام بالأعمال الصالحة، كالتبكير للصلاة، والجلوس بعد الفجر في المسجد إلى طلوع الفجر.. ونحوها، حتى تعتاد النفس على ممارستها والاستمرار عليها بعد رمضان.
هكذا المسلم دومًا؛ لا ينسى غايته وهدفه العظيم؛ وهو النجاة من النار، والفوز بفردوس الجنة. ويسير خلال رحلته الحياتية نحو هذا الهدف؛ على محورين رئيسين عمليين:
الأول: محور التغيير النفسي والتنمية الذاتية؛ فيرقى بنفسه، نحو الأفضل والأسمى والأقوم.
الثاني: محور التأثير في الآخرين حوله؛ فيدعوهم للخير والنمو والتطوير، نحو الأصلح لهم. ولا شك أن من أولويات الآخرين العشيرة الأقربين، خاصة من أقرب الأقربين؛ الأهل والأبناء.
أيها الأحباب:
إن الملك العليُّ الكبير ينثر على العباد بُدَرُ الهبات في أيام هذا الشهر الكريم، فينزل فيه الرحمة، ويحط الخطايا، ويستجيب فيه الدعاء، وينظر إلى تنافسكم فيه ويباهي به الملائكة، فأروا الله من أنفسكم خيرًا، فإن الشقي من حرم فيه الرحمة.
لنفرغ قلوبنا من الشهوات والشبهات، ولنبكي على خطايانا في شهر النفحات، ونغتنم أوقات الخيرات ونزول الرحمات، ونبدل الانحراف بالاستقامة قبل الممات.
ولنحرص على استقبال هذا الوافد الكريم، واستغلال أيامه ولياليه فيما يقربنا من مولانا، ونتعرض لنفحات رب السماوات، ولا يكن ممن همه في استقباله تنويع المأكولات والمشروبات، وإضاعة الأوقات والصلوات، فسرعان ما تنقضي الأيام والساعات، وما هي إلا لحظات حتى يقال انتهى رمضان، بعد أن فاز فيه أقوام وخسر آخرون.
ولنتخذ من رمضان معسكرًا إيمانيًّا؛ لتجنيد الطاقات، وتعبئة الإرادات، وتقوية العزائم، وشحذ الهمم، وإذكاء البواعث؛ للسعي الدؤوب لتحقيق الآمال الكبار، وتحويل الأحلام إلى حقائق، والمثاليات المرتجاة إلى واقع معايش.
________________________
المصادر:
(رمضان يجمعنا بخالقنا) حامد الإدريسي.
(رمضان يدك حصون التغريب) أحمد بن عبد المحسن العسَّاف.
(برنامج عملي للأسرة للحياة مع الشهر الفضيل) حمدي رحيم شعيب.
(معظم في السماء فلنعظمه في الأرض) أحمد إسماعيل.
(شهر انتصار الإنسان) د. يوسف القرضاوي.
خالد سعد النجار
كاتب وباحث مصري متميز
- التصنيف:
- المصدر: