مواقف من غزوة بدر
تأتي رياح بدر لتؤكد للمؤمنين أن طريق الجنة ليس مفروشاً بالرياحين فقط، وليس ارتداءً لأفضل الملابس والتعطر بأجمل العطور والانطلاق للمساجد لأداء التراويح فحسب، بل هناك إحياء لرمضان أفضل من ذلك وهو إحياؤه في ساحات الجهاد ضد أعداء الدين.
لا يكاد ينتصف شهر رمضان حتى تهب رياح بدر حاملة للمسلمين ذكريات جهاد النبي صلى الله عليه وسلم وتضحياته، ومذكرة بتضحيات خير القرون وأفضل جيل عاش لنصرة دين الله وقد روحه رخيصة ليربح الصفقة الغالية التي وعد الله عز وجل المؤمنين بها {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً} [التوبة:من الآية 111].
تأتي رياح بدر لتؤكد للمؤمنين أن طريق الجنة ليس مفروشاً بالرياحين فقط، وليس ارتداءً لأفضل الملابس والتعطر بأجمل العطور والانطلاق للمساجد لأداء التراويح فحسب، بل هناك إحياء لرمضان أفضل من ذلك وهو إحياؤه في ساحات الجهاد ضد أعداء الدين.
وكما جاءت الرسالة الشهيرة من ابن المبارك للفضيل بن عياض رحمهما الله -وفي إسنادها كلام- والتي كان مطلعها:
يا عابد الحرمين لو أبصرتنا *** لعلمت أنك بالعبادة تلعب
مَنْ كانَ يخضبُ خدَّه بدموعِه *** فنحورنُا بدمائِنا تَتَخْضَبُ
وهي الرسالة التي تؤكد معنى صحيحاً، ألا وهو أن الجهاد أفضل من التفرغ للعبادة حتى لو كانت في الحرمين الشريفين، وكما قال شيخ الإسلام رحمه الله: "قال العلماء: أن الرباط بالثغور أفضل من المجاورة بالحرمين الشريفين لأنَ المرابطة من جنس الجهاد والمجاورة من جنس الحج الجهاد أفضل باتفاق المسلمين من جنس الحج" (مجموع فتاوى ابن تيمية - الفقه - الزيارة - الزيارة- الجزء رقم21).
فتأتي رياح بدر لتلقي علينا دروساً إيمانية وتربوية واقعية، وما أجمل وأحكم أن تكون الدروس التربوية ذات تطبيق واقعي في حياة الناس لكي يعطي تطبيقها قوة لها في إمكانية التنفيذ، فما أيسر التنظير في حياة المربين، وما أصعب أن يقترن القول النافع بالعمل الصادق وحينها فما أنفعها من دروس وما أعظمها من نتائج.
فلم تكن غزوة بدر مجرد معركة أو مشاجرة قاتل فيها ثلاثمائة رجل فريقاً أمامهم يقدر عدده بألف رجل، بل كانت هذه الغزوة على صغر عدد المقاتلين فيها وقلة عدد القتلى والأسرى والجرحى، بل كانت نقطة فاصلة في التاريخ الإنساني كله، وتستحق أن تكون نهاية لعهد ماض أذن الله بالا يعود، وبداية لعهد جديد فيه الكثير من المعاني الإيمانية العظيمة.
فقبل بدر لم يكن للمؤمنين دولة في أي عصر، ولم يكن للإيمان قوة تتولى الدفاع عنه ضد أعدائه من المشركين والمنافقين، ولم يكن المؤمنون يتولون الدفاع عن أنفسهم بأنفسهم، ولم يكن الإذن بالقتال قد جاء بعد، ولم يكن هناك شهداء يختارهم الله في ساحات الجهاد ليرفعهم ويكرمهم وليكونوا في حواصل طير خضرٍ يمرحون في الجنة.
كانت السماء تتولى أمر نصرة المؤمنين، يهلك بعض الطغاة بالريح والصعق والخسف والطوفان، ينشق البحر ليبتلع الظالمين، وحينما حدثت في تاريخ البشرية أن سار جيش لنصرة دين الله مع يوشع بن نون، فيضطر أن يدعو الله سبحانه بأن يحبس الشمس عن الغروب لصلابة عناد المعاندين من جيشه لا من عناد الكافرين، وحينما يتحرك طالوت بجيشه بعد عناد واستكبار يتخلف منهم الآلاف ويتقاعسون عن الجهاد ويتنكبون الطريق ويوهنون المستمسكين، ولا يثبت معه من هذه الألوف المؤلفة إلا ثلاثمائة وبضعة عشر نفرًا كعدة أهل بدر كما يقول ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: "كَانَ عِدَّةُ أَهْلِ بَدْرٍ بِعَدَدِ أَصْحَابِ طَالُوتَ ثَلاثَمِائَةٍ وَثَلاثَ عَشَرَ رَجُلاً".
إنها لحياة طويلة:
وكان جيش الصحابة مختلفاً عن كل تلك الجيوش التي زادت أنبياءَها وقادتَها رهقا وعنتا ومشقة، كان هذا الجيش الذي رأى أن الموت في سبيل الله خير له من الحياة، وعلم أن مجرد لحظات في الحياة تعد بالدقائق تعتبر حياة طويلة مرهقة وبائسة وينبغي الاسراع في المضي قدماً نحو الشهادة لينطلق بعدها إلى الجنة وهي مبتغى كل مؤمن.
فيقول ابن حجر في الاصابة في ترجمة عمير بن الحمام رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابراً محتسباً مقبلاً غير مدبر إلا ادخله الله الجنة»، فقال عمير بن الحمام -أحد بني سلمة- وفي يده تمراتٍ يأكلهن: "بخٍ بخٍ فما بيني وبين أن أدخل الجنة إلا أن يقتلني هؤلاء فقذف التمر من يده وأخذ سيفه فقاتل حتى قُتل".
كيف ينال أحدهم هذا الوعد الكريم من النبي المعصوم بأن ما بينه وبين الجنة سوى أن يدخل في الصف ويقتله هؤلاء القوم، كيف يصبر على دقائق يعيشها أو تمرات يأكلها؟
وأين تلكم التمرات في عيشٍ رغدٍ لا يبيد، ونعيمٌ دائمٌ لا ينقطع، فيه مالا عين رأت ولا إذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
شباب يحرص على الشرف الحقيقي:
حينما تزداد همة المرء ترتفع غاياته وأمنياته وتصطبغ أعماله بالجدية، حينها لن تشغله سفاسف الأمور ولا صغائرها، فالأنفس الكبيرة لا تعرف إلا الأعمال الكبيرة العظيمة، تظل تحن لها وتبحث وتفتش عنها وتترصد بزوغ فرصتها وتعد العدة لها وتتمنى اليوم الذي يمكنها أن تنال شرف القيام بالمهمات الجسام والأعمال العظام.
أما الأنفس الصغيرة التي تحن للتفاهة والصغائر، ستنشغل وحتماً بكل شيءٍ لا قيمة له ولا وزن، سيتصارعون على نظرة محرمة من فتاة أو يتشاجرون على نتيجة مباراة في كرة القدم أو يختلفون ويتقاطعون بالأعوام لأجل أغنية أو مغنية.
ولكن نفوس البدريين كانت غير ذلك، وهكذا أيضاً كانت نفوس أصحاب رسول الله مَن لم يدركوا بدراً، فقد أراد يافع صغير وهو رافع بن خديج رضي الله عنه مشاركة الكبار في غزوة بدر ولكن رده رسول الله صلى الله عليه وسلم لصغر سنه، فكان بمقياس السن والأعوام طفلاً صغيراً لكنه بطل كبير وأسد مغوار بمقياس الأعمال والهمة العالية والنفس المتوثبة، لم يطق رافع صبراً عن تلبية داعي نفسه العالية التي تحينت الفرصة التي انتظرتها طويلاً، فشارك في غزوة أحد في العالم التالي فكان بطلاً من أبطالها وليثاً من شجعانها.
وفي بدر، برز بطلان شابان من شباب الصحابة، لم تفزعهما الأسماء الكبيرة في جيش المشركين، ولم ترتجف قلوبهما لطبول الحرب التي تدق فتخلع قلوب الكواسر، ولم يرعهما منظر الدماء وتناثر الأشلاء أو تطاير الرؤوس من فوق الأجساد، في حين تتطاير عقول وتنخلع قلوب بعض شباب مسلم حالي عند رؤية حشرة طائرة!، لم يختبئا في كنف أحد بل طلبا العلا في طاعة الرحمن وقصاصاً ممن آذى رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة، عاشا لحبه وأرادا القصاص له وطلبا العلا فارتقت هاماتهما، ودونا اسميهما عند الناس وعند الله قبلهم، بأنها تشرفا بقتل أكثر من آذى رسول الله في مكة، فقتلوا من سماه رسول الله بفرعون هذه الأمة.
ففي الصحيحين يقول عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه:
"بَيْنَمَا أَنَا وَاقِفٌ، فِي الصَّفِّ يَوْمَ بَدْرٍ نَظَرْتُ عَنْ يَمِينِي وَشِمَالِي، فإذا أَنَا بَيْنَ غُلامَيْنِ مِنَ الأَنْصَارِ حَدِيثَةٍ أَسْنَانُهُمَا، تَمَنَّيْتُ أن أَكُونَ بَيْنَ أَضْلَعَ مِنْهُمَا، فَغَمَزَنِي أَحَدُهُمَا، فَقَالَ: يَا عَمِّ، هَلْ تَعْرِفُ أَبَا جَهْلٍ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، وَمَا حَاجَتُكَ إِلَيْهِ يَا ابْنَ أَخِي؟ قَالَ: أُخْبِرْتُ أَنَّهُ يَسُبُّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَئِنْ رَأَيْتُهُ لا يُفَارِقُ سِوَادِي سَوَادَهُ، حَتَّى يَمُوتَ الأَعْجَلُ مِنَّا، فَتَعَجَّبْتُ لِذَلِكَ، فَغَمَزَنِي الآخَرُ، فَقَالَ لِي مِثْلَهَا، فَلَمْ أَنْشَبَ أَنْ نَظَرْتُ إِلَى أَبِي جَهْلٍ يَدُورُ فِي النَّاسِ، فَقُلْتُ لَهُمَا: أَلا إِنَّ هَذَا صَاحِبُكُمَا الَّذِي تَسْأَلانِ عَنْهُ، فَابْتَدَرَاهُ بِسَيْفَيْهِمَا فَضَرَبَاهُ حَتَّى قَتَلاهُ، ثُمَّ انْصَرَفَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَخْبَرَاهُ، فَقَالَ: «أَيُّكُمَا قَتَلَهُ»، فَقَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا: أَنَا قَتَلْتُهُ، قَالَ: «هَلْ مَسَحْتُمَا سَيْفَيْكُمَا؟» قَالا: لا، فَنَظَرَ فِي السَّيْفَيْنِ، فَقَالَ: «كِلاكُمَا قَتَلَه»، فَقَضَى بِسَلَبِهِ لِمُعَاذِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ، وَكَانَا مُعَاذَ بْنَ عَفْرَاءَ، وَمُعَاذَ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ".
يحيى البوليني
- التصنيف:
- المصدر: