غزة تحت النار - (26) أُسرٌ منكوبةٌ وعائلاتٌ شهيدةٌ
العدو الصهيوني يتعمَّد قتل العائلات، واستباحة دماء الأُسر، وهو يعلم تمامًا سكان البيوت، والأهداف التي تقع تحت مرمى نيرانهم، حيث أن أسلحتهم ذكية ومتطورة، وقدرتهم على التحكم في متابعة الأهداف وقصفها عالية جدًا، وفي هذا تأكيدٌ على أن أوامر القتل مقصودة، وسياسات التصفية والإبادة متعمِّدة.
فجع العدو الصهيوني الفلسطينيين في قطاع غزة في عائلاتهم فقتلها، واستهدف أُسرهم فنكبها، واعتدى على أطفالهم فقتل الكثير منهم، أخوةً وأشقاءً، وآباءً وأبناءً، وأولادًا وأحفادًا، وأمهاتٍ وجداتٍ، وصغارًا وكبارًا، وصبيانًا وصبايا، وأطفالًا وشبابًا، ورُضعًا وأجنةً، وكأنه يريد أن يشطب أسماءً وألقابًا، ويُنهي سجل عائلاتٍ وأُسر، ويختصر أعدادهم، ويختزل جمعهم، ويُصيبهم في أعزِّ ما يملكون، وأعظم ما يباهون به ويفاخرون.
وهو لم يستثنِ من سياسته الدموية، ومجازره ومذابحه الجديدة، التي شابهت القديم في وحشيتها، أُسرًا عريقة، ولا عائلاتٍ فقيرة، ولا أُسرًا شابة، ولا أخرى كبيرة، بل طال بالقصف الفقراء والأغنياء، والأزواج الشبان، وبيوت المسنين والمرضى، والعجزة والضعفاء، واستهدف البيوت التي لا يسكنها غير الأطفال والنساء، وليس فيها رجالًا ولا شبابًا، ولا من يحمل السلاح ويُشكِّل على العدو خطرًا.
إنه أسوأ ما ميَّز العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، والذي أسماه "الجرف الصامد"، وقصد به أن يكون كالصخرة في صد المقاومة، إلا أنه يحمل اسمًا آخر مُوجِعًا ومؤلمًا، وقد كان يقصده ويتعمّده، وهو "العذاب الدائم"، ولعل استهداف العائلات وقتل أكبر عددٍ ممكنٍ من أبنائها، هو الألم الدائم، والحسرة الباقية، والوجع المُتجدِّد، الذي لا تُنسيه الأيام، ولا تُخفِّف من ألمه السنون، رغم أننا مسلمين، مؤمنين بالله، ونُسلِّم بقدره خيره وشره، ونقبل بقضائه ونرضى به، ونعتقد بأن قتلانا شهداء، وأنهم في الجنة في مقعدِ صدقٍ عند مليكٍ مقتدِر، مع الأنبياء والصديقين والشهداء، إلا أننا نحزن لفقدِ عزيزٍ، وغياب حبيبٍ وقريبٍ أو نسيب.
لا ننسى في هذا العدوان الغاشم الكثير من العائلات الغزاوية، التي تعرَّضت بيوتها للقصف، وطال مساكنها الدمار والخراب، فقتل خلالها العديد من أبنائها وأفراد أسرها، وقد تعمَّد العدو قتلهم انتقامًا وتشفيًا، وحقدًا وغيلة، دونما تحذيرٍ أو تنبيه، بل إنه قصفها وهو يعلم أنها مأهولة، وأن سكانها نيامٌ أو على موائد الطعام، أو أن أطفالهم في بهو البيت أو أمام المنزل، يلعبون ويلهون ويجرون ويركضون، وأن أحدًا من المطلوبين أو الذين يستهدفهم غير موجود، وأن من فيها إنما هم من النساء والأطفال، والشيوخ والعجزة، ولكنه لا يتردَّد ولا يتراجع، بل يُقدِم على القصف، ويواصل الاستهداف.
بغى العدو في هذا العدوان البغيض على عائلة كوارع في خانيونس، التي بدأ بها قصفه، فقتل العديد منهم، وقد ظننا أن الاعتداء سيقتصِر عليهم، ولن يطال غيرهم، ولكن طائرات العدو واصلت غاراتها فقتلت في حي الدرج بغزة العديد من آل البطش، صغارًا وكبارًا، وأتبعهم بالعديد من آل حمد من سكان مدينة غزة، وغيرهم من العائلات كثير، كالنواصرة في المغازي، وآل المصري في بيت حانون، وآل الأسطل ومحمود الحاج في خانيونس، والغنام وزعرب ودلول وشيخ العيد في رفح، والنجار وأبو طه وأبو عودة، وأبو دقة وأبو شنب وشراب وجراد، وآل بكر وأبو عامر وغيرهم كثير..
ما أكثر العائلات الفلسطينية التي مُنيت بالعدو الإسرائيلي في الحروب السابقة، كما في العدوان الأخير، فلا أعتقد أن الفلسطينيين ينسون آل السموني في جباليا، الذين أغدق عليهم العدو بقصفه وغاراته، فقتل العشرات منهم، حتى غدا اسمهم عنوانًا للحرب، وعلامةً مميزة فيها، وكذلك آل الدلو الذين أعطوا الكثير، وسبقوا بالشهداء، وآل غالية التي بقيت منها الطفلة هدى تروي وتُحدِّث، وتنقل خاتمة أهلها، ونهاية رحلتها عائلتها على شاطئ بحر غزة.
العدو الصهيوني يتعمَّد قتل العائلات، واستباحة دماء الأُسر، وهو يعلم تمامًا سكان البيوت، والأهداف التي تقع تحت مرمى نيرانهم، حيث أن أسلحتهم ذكية ومتطورة، وقدرتهم على التحكم في متابعة الأهداف وقصفها عالية جدًا، وفي هذا تأكيدٌ على أن أوامر القتل مقصودة، وسياسات التصفية والإبادة متعمِّدة.
ليس عيبًا أن نعترف بالوجع والألم، فالقوة ينبتها الوجع، والعزم ينمو من بين آهات الألم، والإحساس بالضعف يخلق التحدي، والقهر يقود إلى الثورة، والظلم يصنع الانتفاضة، والشعور بالفقد لا يكسر، ولا يهن ولا يضعف، وما نلقاه من العدو لا ننساه، ولا يمكننا أن نغفر له..
فإن عجزنا عن الانتقام منه، فإننا سنورِّث أجيالنا حق الثأر والانتقام، وهذا العدو يعلم يقينًا أن هذا الشعب لا ينام على الضيم، ولا يسكت على الظلم، ولا يسامح في الدم، ولا يغفر في القتل والغدر، ويقيننا بالله أن هذه العائلات ستبقى اسمًا وولدًا ودوحةً وأرومةً وأفنانًا، وأصلًا وحمولةً وعائلةً وعشيرة ومحتدًا، وأن هذا العدو سيرحل اسمًا واقعًا واحتلالًا واستيطانًا، وسيزول عن أرضنا بقوة السلاح، وصدق الإرادة، طال الزمن أو قصر.
مصطفى يوسف اللداوي
كاتب و باحث فلسطيني
- التصنيف: