إذا رأيت ثم رأيت 2

منذ 2014-07-22

بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاءه رجل فقال: "يا رسول الله، أخبرنا عن ثياب الجنة، أخلق يخلق، أم نسج ينسج؟" فضحك بعض القوم، فقال صلى الله عليه وسلم: «مم تضحكون؟ من جاهل يسأل عالماً؟» ثم سكت رسول الله صلى الله عليه وسلم قليلاً ثم قال: «أين السائل عن ثياب الجنة؟»، فقال: "ها هو يا رسول الله"، قال صلى الله عليه وسلم: «بل تنشق عنها ثمر الجنة، بل تنشق عنها ثمر الجنة...» ثلاثاً.

الحمد لله وكفى، والصلاة والسلام على عباده الذين اصطفى.
أما بعد:
استعرضت معكم في جمعة سبقت قول الله تعالى في سورة الإنسان: {وَإِذَا رَ‌أَيْتَ ثَمَّ رَ‌أَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرً‌ا} [الإنسان:20]، واستعرضنا لوحة أومشهداً من مشاهد هذا الملك الكبير وقلنا: إن وليّ الله في الجنة.. تصله رسالة... من رب العالمين يوصلها ملك كريم إلى حاجب ولي الله ... يدعوه ربه سبحانه إلى زيارته.. وقد كتبت الرسالة بعنوان: من الحي الذي لا يموت.

وقلنا إن هذا التكريم لأعلى أهل الجنة... والآن: ننتقل إلى لوحة جديدة من لوحات هذا النعيم والملك الكبير، لوحة من اللباس..

قال تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ . فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ . يَلْبَسُونَ مِن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَ‌قٍ مُّتَقَابِلِينَ} [الدخان:51-53]، ويوضح لهذه اللوحة في اللباس حديث عبد الله بن عمرو بن العاص الذي رواه النسائي، قال: بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاءه رجل فقال: "يا رسول الله، أخبرنا عن ثياب الجنة، أخلق يخلق، أم نسج ينسج؟" فضحك بعض القوم، فقال صلى الله عليه وسلم: «مم تضحكون؟ من جاهل يسأل عالماً؟» ثم سكت رسول الله صلى الله عليه وسلم قليلاً ثم قال: «أين السائل عن ثياب الجنة؟»، فقال: "ها هو يا رسول الله"، قال صلى الله عليه وسلم: «بل تنشق عنها ثمر الجنة، بل تنشق عنها ثمر الجنة...» ثلاثاً.

ثم يأتي حديث رواه أبو أمامة عند أبي الدنيا، أنه صلى الله عليه وسلم قال: «ما منكم من أحد يدخل الحنة إلا انطلق به إلى طوبى، فتُفتح له أكمامها، فيأخذ من أي ذلك شاء. إن شاء أبيض وإن شاء أحمر، أخضر، أصفر، أسود، مثل شقائق النعمان وأرق وأحسن»، وفي حديث موقوف عن أبي هريرة قال: «دار المؤمن في الجنة لؤلؤة فيها شجرة تُنبت الحلل، يأخذ الرجل بإصبعيه وأشار بالسبابة والإبهام سبعين حلّة متمنطقة باللؤلؤ والمرجان».

والأعجب من ذلك ما ذكره القرطبي وابن الجوزي: "أن وليّ الله في الجنة يلبس حلّة لها وجهان، كل وجه بلون، يتكلمان بصوت مليح يستعذبه سامعه يقول أحد الوجهين: أنا أكرم على وليّ الله منك، أنا أمسّ بدنه وألي جسده، وأنت لا تلي! فيقول الوجه الآخر راداً عليه: بل أنا أكرم على وليّ الله منك، أنا أرى وجهه وأنت لا تراه ولا تبصره"، ويروي خالد الزميل قال: سمعت أبي يقول: قلت لابن عباس: "ما حلل أهل الجنة؟" قال: "منها شجرة فيها ثمر كأنه الرمان، فإذا أراد وليّ الله كسوة انحدرت إليه من غصنها فانطلقت عن سبعين حلّة ألواناً بعد ألوان، ثم تنطبق فترجع كما كانت".

ثم اسمع معي -يا عبد الله- إلى قوله تعالى: {عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ‌ وَإِسْتَبْرَ‌قٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ‌ مِن فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَ‌بُّهُمْ شَرَ‌ابًا طَهُورً‌ا} [الإنسان:21]، تأمل كلمة عَالِيَهُمْ تشعر أن اللباس ظاهر بارز، وهذا اللباس الظاهر ليس كاللباس الباطن المراد به الستر، وإنما المراد به الزينة والجمال.

قال صاحب كتاب (حادي الأرواح): "كيف تستغلي يا عبد الله هذا الملك وهو والله المطلب الأسمى، والوصل الأقصى، والقرب الأنفس" وقديماً قالوا: 

شراء مثل هذا الوصل بالموت لا يغلو*** وكل عناء دون هذا المنى يحلو
إذا كانت العقبى وصالاً وقربةً *** ووداً وتكريماً فكل عناً سهل


والآن إلى الصورة المقابلة لأهل الجنة، لتدرك جمال الصورة الأولى، لأن الشيء بضده يعرف، وقالوا: "والضد يظهر حسنه الضد"، فتعالوا إلى صورة مقابلة، صورة من جهنم.

الصورة الأولى:
يلقى على أهل النار الجوع فيستغيثون، فيغاثون بالضريع: {لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِن ضَرِ‌يعٍ. لَّا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِن جُوعٍ} [الغاشية:6-7]، ثم يستغيثون من الضريع فيغاثون بطعام ذي غصة:  {إِنَّ لَدَيْنَا أَنكَالًا وَجَحِيمًا. وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا} [المزمل:12-13]، ثم يذكرون أن الغصص تزال بالماء، فيعطون الماء الحميم، قال تعالى: {وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ} [محمد:15].

الصورة الثانية:
ثم يستغيثون بمالك، قال تعالى: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَ‌بُّكَ} [الزخرف:77]، ماذا طلبوا منه؟ طلبوا الموت فيسكت مالك ثم يجيبهم بعد ثمانين سنة: {قَالَ إِنَّكُم مَّاكِثُونَ} [الزخرف:77]. 

الصورة الثالثة:
ثم حالوا شد معنوياتهم، قالوا: نعبر لعل العبر ينفعنا -كما قال محمد بن كعب القرظي- فجزعوا وقالوا: {وَبَرَ‌زُوا لِلَّـهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُ‌وا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّـهِ مِن شَيْءٍ ۚ قَالُوا لَوهَدَانَا اللَّـهُ لَهَدَيْنَاكُمْ ۖ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْ‌نَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ} [ابراهيم:21].

اللوحة الرابعة:
يأتون إبليس ويقولون: قد وجد من يشفع للمؤمنين -يعنون محمداً صلى الله عليه وسلم- وذلك عندما يأذن الله له في الشفاعة بالعصاة فتثور من مجلسه صلى الله عليه وسلم أطيب ريح شمها أحد ثم يشفع فيشفع، يقول أهل النار لإبليس اشفع النار، فيقوم على منبر من نار وتثور ريح من مجلسه كأنتن ريح شمها أحدهم، فيبكون عندها يقول كلمة حق: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ‌ إِنَّ اللَّـهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنفُسَكُم مَّا أَنَا بِمُصْرِ‌خِكُمْ وَمَا أَنتُم بِمُصْرِ‌خِيَّ إِنِّي كَفَرْ‌تُ بِمَا أَشْرَ‌كْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [إبراهيم:22]، قال أهل العلم: "عندها يمقتون أنفسهم"، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُ‌وا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّـهِ أَكْبَرُ‌ مِن مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُ‌ونَ} [غافر:10].

اللوحة الخامسة:
ثم يسألون الله الرجعة، ويقدموت مقدمات، قال تعالى: {وَهُمْ يَصْطَرِ‌خُونَ فِيهَا رَ‌بَّنَا أَخْرِ‌جْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ‌ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} [فاطر:37]، {وقَالُوا رَ‌بَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ . رَ‌بَّنَا أَخْرِ‌جْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} [المؤمنون:106-107]، يقولون وهم كاذبون وإنما لمجرد الخلاص: {وَلَورُ‌دُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأنعام:28] عندئذ يأتيهم الجواب القاطع: {قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون:108] فينقطع كلامهم وما هو إلا الزفير والشهيق -كالحمير-.