أفلا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تواطنتم؟!
وجد الصحابة ونبيهم صلى الله عليه وسلم وجدًا شديدًا على فراق مكة، حتى إنه صلى الله عليه وسلم دعا الله أن يحبب إليهم المدينة كما حبب إليهم مكة ولما هاجر إليه أحد أصحابه وجعل يحدث عن مكة وخضرة جبالها وهيج سامعيه من المهاجرين قال صلى الله عليه وسلم: «دع القلوب تقر».
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
المواطنة -كما تسمى بلغة العصر- بمعنى: إلف الوطن ومحبته والميل إليه وإلى أهله، داعيته الفطر والغرائز لبني الإنسان وغيره من العجماوات.
وقد وجد الصحابة ونبيهم صلى الله عليه وسلم وجدًا شديدًا على فراق مكة، حتى إنه صلى الله عليه وسلم دعا الله أن يحبب إليهم المدينة كما حبب إليهم مكة ولما هاجر إليه أحد أصحابه وجعل يحدث عن مكة وخضرة جبالها وهيج سامعيه من المهاجرين قال صلى الله عليه وسلم: «دع القلوب تقر».
وجاء الإسلام مهذِبا لهذه الفطرة كغيرها من الفِطر، مع عدم العنت بإلغائها وإنكارها، ولكن قيدها بالشرع والدين، فقدمهما عليها عند التعارض، ولذلك أمر الشارع بالهجرة ومفارقة الأوطان إذا جافت الدين وجانبت الهدى وغلب شرها إلى ماهو أزكى منها، وامتحن العباد أي المحبتين يقدمون، قال الشاعر:
يا لائمي في ترك أوطان الحمى *** أقصر فقد بالغت في إعذاري
أصلي تراب والأنام جميعهم *** لي أقربون وكل أرض داري
بل إن أهل الأنفة والشمم ليفارقون الأوطان على حبها إذا ضيم أحدهم في شهامته وسيم في كرامته، كما جرى لكثير، كمثل الصِّمة بن عبد الله القشيري لما فارق نجدًا إلى بلاد بعيدة، فكلما هتف به داعي الشوق وآلمه وجد النوى قال مسليًا نفسه أبياتًا طارت مع العقبان وسارت بها الركبان، كقوله:
دعانيَ من نجد فإن سنينه *** لعبن بنا شيبا وشيبننا مردا
وقوله:
حننتَ إلى ريّا ونفسك باعدت *** مزارك من ريا وشعباكما معا
قفا ودِعا نجدا ومن حلّ بالحمى *** وقلَّ لنجد عندنا أن تُودّعا
فماحسنٌ أن تأتيَ الأمر طائعا *** وتجزَع أن داعي الصبابة أسمعا
بكت عيني اليمنى فلما زجرتها *** عن الجهل بعد الحلم أسبلتا معا
وأذكر أيام الحمى ثم أنثني *** على كبدي من خشية أن تصدعا
والمقصود أن الميل إلى الوطن ومحبته أمر لا يُتكلف في تحصيله -مالم يكن هجرة شرعية- ولا يحتاج إلى بذل أموال ليشترى ولو أنفقت في سبيل ذلك كنوز الأرض، كما قال الله تعالى: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَـٰكِنَّ اللَّـهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال:63].
كما أن التوطن والمواطنة لا يفرض فرضًا، بتكريس مناسبات، وتعبئة إعلامية، وتهييج جماهيري، ومانتج عن ذلك فتصنّع في الغالب وتشبّع بما لم يُعط الإنسان وادعاء كاذب ونفاق مهما دُبجت الخطب ونُمقت المقالات ونظمت القصائد وأقيمت الاحتفالات.
فيادولتنا الحبيبة: إن المواطنة الحقيقية الصادقة لا تشترى بالمال ولا تباع ولا تفرض بالقوة، وإنما هي قناعة دافعها الفطرة ورافدها الدين بما لهذا البلد الكريم من فضائل وردت بها الأحاديث (في جزيرة العرب) وبما اختصها الله من احتضان أطهر بقعتين وأقدس مسجدين، وحسب كل مسلم في مشارق الأرض ومغاربها ذلك -ولو لم يحمل بطاقة البلد- لينجذب قلبه ويهوي فؤاده إلى هذه البلاد، ويدفع عنها العوادي بكل غال ونفيس، ولهذا فإن المبالغة في الاحتفالات الوطنية وإهدار الأموال وساعات العمل، وتعطيل الكفاءات بالأجازات أمر لا طائل من ورائه، فإن كان لدى المرء شعور صادق فهو تحصيل حاصل، وجهد بلا طائل، وإن كانت الأخرى فذلك هو الخسران المبين.
يادولتنا الحبيبة: نجد الفتاوى الشرعية من علماء بلادنا ممن لهم صفة رسمية وغيرهم صادعة بتحريم تخصيص يوم يعود لإذكار هذه المناسبة، ولو لم تسمَ عيدًا، وعدها من الأمور المبتدعة المحرمة شرعًا؛ ومن هؤلاء العلماء أنفسهم تعلمنا دلائل المواطنة الصادقة الصالحة، وفي فتاويهم وجدنا أنه لا دين إلا بجماعة ولا جماعة إلا بإمامة ولا إمامة إلا بسمع وطاعة، وأن السمع والطاعة حق لله ولرسوله وأولي الأمر منا، وأن منازعتهم وشق عصا الطاعة عليهم محادة ومنازعة وشذوذ ومفارقة للجماعة فليس من صالح البلاد والعباد تجاوز فتواهم في الأولى لئلا يأتي من يتجاوزها في الأخرى.
ومناط التحريم متحقق ولولم تسم المناسبة عيدًا فالأسماء لا تغير الحقائق والرسوم قال الله تعالى: {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ} [النجم:23]، والعيد كل ما عاد واعتيد زمانا أو مكانا، على أننا نرى أنه كل عام يزداد بصبغ هذه المناسبة بصبغة الأعياد الشرعية كالأجازات والتهاني، وإيقاد مصابيح الشوارع والزينات التي لا توقد إلا في الأعياد.
يادولتنا الحبيبة: عرفت دولتنا منذ قيامها بإحياء السنة وحرب البدعة وعلى ذلك نص دستورها، ولذلك هي بحمد الله خالية من المقامات والمزارات والأضرحة حتى لأفاضل الخلق، ونرى قبور قادتها ومراسم تشييعهم لا تختلف عن غبراء الناس وهذا مما يحمد ويشكر؛ ولكن لو أن واحدًا ممن تعشق بدعة المولد النبوي احتج علينا لإحياء بدعته بإحيائنا لهذه المناسبة وذكر مآثر المؤسس وبأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى وقال: أأصحابكم خير من أولئكم؟! فبماذا سنجيبه؟! وأيهما أولى بالتحريم بدعة مع أذكار أو بدعة مع أغان وسمار؟!
يادولتنا الحبية: لاينكر إلا من أنكر الشمس في رائعة النهار أن زمانًا خلا كان فيه التقيّد بفتاوى أهل العلم أقوى، ولم يعرف أهله يومًا وطنيًا ولا احتفالات ولا دعايات إعلامية، لا ينكر أحد أن ذلك الزمان كان أجمع للكلمة وأوحد للصف، والناس فيه أسمع وأطوع من هذا الزمان الذي كُرست فيه هذه الاحتفالات وأقيمت هذه المناسبات، ومع ذلك نرى بوادر الفرقة والمشاغبة على الشرع بل وعلى السلطة والولاية من أحزاب معارضة وولاءات لقوم آخرين، فهل أغنى ذلك عنا شيئا؟! فلماذا إلزام الناس أو شبه إلزامهم بإغلاق المحلات والمنع من التكسب، حتى سمعت أن بعض الجهات تفرض الغرامات على فتح المحلات، وهذا على مافيه من الظلم لا يخلو من آيات البدعة وعلائمها..
وقد نص العلماء المعتبرون كشيخ الإسلام ابن تيمية أن تعطيل الأعمال والوظائف في الأعياد الشرعية كالجمعة مشابهة لأهل الكتاب الذين لا يتكسبون في سبتهم، ولذلك نص القرآن صراحة على مخالفتهم في يوم الجمعة عيد المسلمين، قال تعالى في سورة الجمعة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ . فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة:9-10]، وكان ابن عمر يبث غلمانه في السوق بعد صلاة الجمعة التماسًا للفضل والبركة، وإن إلزام أصحاب المتاجر وغيرهم من قبل بعض الجهات برفع الأعلام وشرائها حتى أصبحت هذه المناسبة موسمًا رائجا لهذه الأعلام والدعايات الوطنية داخل في الظلم والإلزام بما لا يلزم شرعًا.
وكم يحزن القلب ويحز في النفس أن تُرى شهادة التوحيد والرسالة لكثرة تداولها تمتهن وتداس تحت الأقدام وعجلات السيارات، ويتوشحها الشباب والبنات فيجعلونها خلفهم ظهريًا ويفترشونها تحت أدبارهم ويلبسونها ثيابًا، وربما وضعت على الأحذية، أو صنع منها القبعات والمراوح والمظلات والألعاب وسوى ذلك، هذه الإهانة والامتهان وإن لم تكن مقصودة -فإنّ قصْدَ ذلك كفر- ولكن قد علمنا في الشرع أن الوسائل لها حكم الغايات وأن سد الذرائع واجب.
وكم يحز في النفس أيضًا أن نرى شبابنا وفتياتنا يعبثون ويغنون وبالمنكرات يجاهرون، والأمة جمعاء في مصاب عظيم ومصيبة ونازلة هلكت فيها أنفس وزهقت نفوس، وذهبت رقاب في العالم كله عربه وعجمه، ألا وهي نازلة سبّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وقذفه وتشويه صورته في الفيلم المخزي، وخزي منا أن نرى شباب وبنات بلد التوحيد والقبلة يعبثون ويرقصون ويغنون والمسلمون على تلك المصيبة ينوحون فإنا إلى الله راجعون.
يادولتنا الحبيبة: وأما الحفلات الغنائية (الأوبريتات) فحكاية أخرى وإن كان بحمد الله هان الشر بإلغائها لكن لا ينبغي أن يربط هذا الإلغاء بمناسبة تحول وتزول، وإنما يجب أن يكون طاعة لله وامتثالا لأمره وإزالة للمنكر، مع النظر بعين الاعتبار لمأساة أحبابنا في الشام الجريح، ومن أظلم ممن أظهر هذا العمل الحرام أو أراد إظهاره في شهر حرام وفي بلد حرام، نعوذ بالله من ذلك.
يادولتنا الحبيبة: لمصلحة من هذا التهييج والشحن النفسي من طريق الإعلام وغيره، ونحن نعلم سلفًا بما سبق من العادة المتكررة أن هذا سينتج آثارًا مدمرة وسيولد عواقب وخيمة، وهو ما كان هذا العام كما كان إلا أن الشر يزداد كل عام، فلقد تدفق الشباب والفتيات إلى الطرقات وأغلقوها بالساعات، فحصل من تعطيل المارة والحيلولة بينهم وبين مهم أشغالهم ضرر لا يحصى ولا يحصر، فكم من مريض تأخر إسعافه حتى تأزمت حاله أو مات، وكم من حوادث الدهس والصدم والموت، وكم من الرعب والفزع، وكم من إخافة السبيل وقطعها، وكم من مصلحة فاتت، وكم من مفسدة وقعت، وجُوهر بالمنكر؛ فرقص الشباب والبنات مختلطين أو منفردين شاهرًا ظاهرًا على أنغام الموسيقى الصاخبة، وتحت راية لا إله إلا الله، واعتدي على الحرمات، وسُطيَ على المحلات، وسلبت الأموال جهارًا نهارًا، وكل هذا موثق منشور بالصور والمقاطع.
أوَ هذه هي المواطنة؟! أم هذه هي الأفراح الوطنية؟! لقد صرنا مسخرة العالم بهذه الأفعال وبات الوافدون إلينا يتساءلون لماذا كل هذا؟! لقد بتنا والله نتخوف كلما أزفت هذه الآزفة، وآن أوانها من شرور تحصل ومنكرات ترتكب ويجاهر الله بها، ولسان حالنا كما قال أبو الطيب:
عيد بأية حال عدت يا عيد *** بما مضى أم لأمر فيك تجديد
أوَ ترون هذا الشباب العابث المعتدي السارق الناهب، وهؤلاء الفتيات العابثات الفارهات مواطنين بإخلاص، موالين بصدق مدافعين عن الوطن عند الحاجة؟! أم أنهم يفرحون بكل مناسبة يشهرون بها فسقهم ويعلنون تمردهم، وآخر مافكروا فيه الوطن؟! واللوم على من هيجهم وحرضهم، هؤلاء كما يقال:
فنساء كاسيات عاريــــــات *** وأشباه رجال كالرخم
وشباب ماجن مستأنث *** لو رأى طيف خيال لانهزم
ليت شعري هل سيحمون حمى *** أو يردون إذا الحرب التحم؟!
يادولتنا الحبيبة: إذا كان المسؤول يرى من حقه أن يحتفل في المدارس وغيرها، فليس من حقه أن يلزم أبناءنا ونحن نعتقد تحريمه عملا بالفتاوى الشرعية الرسمية، ولا من حقهم أن يلزموا أولادنا بشراء أدوات الاحتفال ولوازمه، ولا من حقهم أن يخصصوا الأيام الدراسية والحصص لإحياء هذه المناسبة ويرغموا الطلاب على الحضور، قلت سلفا: إن المواطنة الصادقة فطرة لا تكلف، قال أبو الطيب:
لأن حلمك حلم لا تَكَلَّفُه *** ليس التكحلُ في العينين كالكَحَلِ
نحن بحمد الله نربي أولادنا على رعاية حق الوالي والوطن دومًا لا في يوم أو حصة دراسية، ونعرّف أولادنا ونرسخ في نفوسهم رعاية حق الله وحقوق المسلمين، واحترام الجار وكف الأذى عنه، واحترام المارة والطريق، حتى والله الذي لا إله غيره إننا لنعاقب أولادنا على رمي منديل أو علبة فارغة في الشارع ونلزمهم برفعها ووضعها في المكان المخصص، ونقول لهم: كم ينفق على النظافة من الأموال، ونحثهم على رعاية المرافق والمصالح العامة والخاصة، ونعرفة حق وطنهم وفضل مقدساته وواجبهم تجاهها، ما انتظرنا من أحد أمرًا ولا تكليفًا ولا جزاءًا ولا شكورًا.
وأخيرًا يادولتنا الحبيبة:
أفلا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تواطنتم:
- لنكرس في الإعلام وغيره وجوب تقوى الله وخشيته بالغيب والشهادة، والسراء والضراء، حتى تكون المواطنة عقيدة إيمانية لدى الجميع، وإن من أطاع الله طوّع الله له الخلق، والحاكم والرعية قلوبهم بين أصبعين من أصابع الرحمن يصرفها كيف يشاء.
- لنحي السنن ولنمت البدع ولو هويتها الأنفس وزينها أصحاب المصالح.
- لنقف عند حدود الشرع وفتاوي أهل العلم وليكرس في المناهج وغيرها وجوب احترامها والعمل بها في المنشط والمكره ومانحب ونكره.
- ليوسع على الشعب وتقض ديونه، ويعالج مرضاه وتتفقد حاجاته، ويوظف الجادون من عاطليه.
- لترفع المظالم وينشر التراحم، وتفتح أبوابها وليسع عفو الراعي وحنانه، وليصفح الصفح الجميل عن المساجين والموقوفين، إلا من طولب بحد أو تلطخ بدم، أو كان خروجه أضر على الدين والبلاد والعباد فليعاقب بما وجب عليه شرعًا.
إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
محمد بن أحمد الفراج
محاضر في جامعة الإمام سابقاً
- التصنيف: