تـفتيـــــــــش..! مذكرات خالد حربي في معتقلات مبارك

منذ 2014-07-24

شاويش يجد ورقة مكتوب فيها بعد الأشعار التي تحث على الصبر والثبات فيقدمها لضابط أمن الدولة الذي قام بإبلاغ إدارة الجهاز على الفور، وفي صباح اليوم التالي تقوم مصلحة السجون وجهاز أمن الدولة بحملة تأديبية على معتقل الفيوم الذي يضم قرابة الـ20 ألف معتقل إسلامي، وقتها كنت حديث الاعتقال حين أيقظني أحد الإخوة وهو يقول: "تفتيش يا أخي ربنا يستر"، نظرت حولي فوجدت الجميع في حالة من الارتباك والحركة السريعة، هذا يخفي ملزمة ورقية صغيرة تحتوي بعض أجزاء من القرآن الكريم، والأخر يقوم بغسل الحائط من بعض الآيات التي كتبها على الحائط عن من يحفظها حتى يستطيع هو حفظها..


معتقل الفيوم الصحراوي عام 1996، تقرير لأمن الدولة يرصد الحالة النفسية المرتفعة للمعتقلين، وبناء على التقرير تصدر أمن الدولة قرارات صارمة بالتالي:

1- مصادرة جميع المصاحف من المعتقلين ومنع دخول أية مصاحف لهم -فضلا عن الكتب الممنوعة مسبقا بما فيها الكتب الدراسية-.
2- منع دخول أي ملابس أو أغطية للمعتقلين خلاف الخاصة بالسجون والمعروفة برداءتها الشديدة ومصادرة جميع الملابس الموجودة لديهم.
3-اختصار وقت زيارة الأهل إلى أقل من خمس دقائق.
4- مصادرة محتويات زيارات الأهل بما تحمله من أطعمة ومشروبات وملابس وخلافه، باستثناء وجبة واحدة يتم إعطائها للمعتقل في كفيه بدون أية أكياس أو أطباق.
5- مصادرة جميع المصابيح الكهربائية من الزنازين وإبقائها مظلمة تماماً بدون مصدر للإضاءة.

بعد هذه الاجراءات بأسابيع قليلة..
شاويش يجد ورقة مكتوب فيها بعد الأشعار التي تحث على الصبر والثبات فيقدمها لضابط أمن الدولة الذي قام بإبلاغ إدارة الجهاز على الفور، وفي صباح اليوم التالي تقوم مصلحة السجون وجهاز أمن الدولة بحملة تأديبية على معتقل الفيوم الذي يضم قرابة الـ20 ألف معتقل إسلامي، وقتها كنت حديث الاعتقال حين أيقظني أحد الإخوة وهو يقول: "تفتيش يا أخي ربنا يستر"، نظرت حولي فوجدت الجميع في حالة من الارتباك والحركة السريعة، هذا يخفي ملزمة ورقية صغيرة تحتوي بعض أجزاء من القرآن الكريم، والأخر يقوم بغسل الحائط من بعض الآيات التي كتبها على الحائط عن من يحفظها حتى يستطيع هو حفظها، وثالث يخفي شفرة حلاقة مهربة نستخدمها جميعا للنظافة الشخصية، ورابع استقبل القبلة ورفع يديه للسماء يطلب الرحمة من الله تعالى.

لم أكن أدرك سر هذا القلق والذعر حتى فُتح باب العنبر الذي يضم 18 زنزانة، كان أول ما سمعته صوت كلاب تنبح بشراسة، ثم بدء العساكر يطرقون أبواب الزنازين بعصيانهم بقوة لإحداث حالة من الرعب في قلوب المعتقلين المفزوعين أصلاً، كان العساكر يسبون ويتوعدون ويهددون وكأنهم على أبواب معركة كبرى، قام أحد الضباط بالمرور على جميع الزنازين لإلقاء التعليمات، كانت ثلاث كلمات يكررها أمام كل زنزانة:

1- الكل يخلع ملابسه تماما باستثناء (الشورت الداخلي).
2- كله يعصب عينيه -عينه- جيدًا.
3- كله يقف ووجهه للحائط في الجهة المقابلة للباب.

ثم فتحت أول زنزانة في العنبر سمعت الضابط يصرخ: "كله يطلع بره بره بره يا ابن كذا وكذا أنت وهو"، بعد هذه الجملة بثواني انفجرت صرخات جماعية رهيبة لم أسمعها من قبل، ارتفعت صرخات المعتقلين فشقت عنان السماء واختلط معها نباح الكلاب وصوت الصواعق الكهربائية، وكانت لسعات العصيّ أكبر من أن تختفي وسط هذا المزيج المرعب، نظرت في وجوه إخواني في الزنزانة فوجدتها مرسومة بالرعب والفزع. 

الألسنة كلها تلهث بالدعاء، كان قلبي يخفق بسرعة غريبة أحاول السيطرة على أعصابي فأفشل، شعرت بألم حاد في معدتي وقفت أمام دورة المياه في طابور من خمسة معتقلين، شعروا بسوء حالتي وصغر سني وقتها فأدخلوني في الحمام، حاولت أن أسيطر على نفسي وأن أتنفس بعمق، أن أصم أذني عن هذه الأصوات القاتلة التي تزلزل قلوبنا منذ أكثر من نصف ساعة متواصلة.

اختفت الأصوات فجأة خمس دقائق، ولد في قلبي أمل أن يكون الطغاة قد رحلوا، ثم بدء نفس الصوت الوحشي يصرخ من بعيد: "كله يطلع بره بره يا ولاد كذا"، وبدء الصراخ يعلوا من جديد عرفت وقتها أن الصراخ الأول خاص بأهل الزنزانة الأولى فقط والثاني بأهل الزنزانة الثانية وهكذا..، كل زنزانة تفتح بمفردها يخرج منها قرابة العشرين معتقل، فتنهال العساكر والكلاب والضباط والمخبرين عليهم ضربا وصعقًا وحرقاً بالسجائر ونهشًا من الكلاب لمدة تتراوح بين 30 أو 40 دقيقة كاملة ثم يسحبون ويلقون في الزنزانة التي لم يعد فيها شيء سوى الأرضية الخراسانية الغارقة في الزيت والصابون وبقايا الطعام والملابس.

ساعات طويلة وثقيلة مرت وأنا أقف على قدمي معصوب العينان ومجرداً من ملابسي ووجهي للحائط بانتظار دوري في السلخانة البشرية، كان الهول أكبر من الشعور بالتعب، كان الهول أكبر من الشعور بالعري، كان الهول أكبر من الشعور بالجوع والعطش، كان الهول أكبر من الحياة نفسها..! وسبحان الله في وسط هذا الهول المستعر كنت أجد كفاً حانية تربط على كتفي قائلة: "{اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف:128]، كان الجميع يعلم أني أصغرهم سنًا وأحدثهم سجنًا، وهذه أول مرة أتعرض فيها لمثل هذا الموقف الذي تكرر عليهم عشرات المرات من قبل.

بدء الصراخ يقترب شيئا فشيئا وأدركت أني على بعد ساعة واحدة فقط من الدخول في هذه التجربة القاسية المفزعة، كشفت العصابة عن عيني وقلت لإخواني، كيف نستسلم لهذا؟ أنتركهم يقتلوننا بهذه الوحشية دون أن نقاوم؟ إذا كنا سنتعذب وسنجلد فلماذا لا نشتبك معهم فنضرب ونضرب؟! أثارت هذه الكلمات استيائهم بشدة قال أحدهم: "يا أخي لو فعلنا هذا سنقتل وسيقتل كل من في المعتقل"، وأردف أخر: "يا أخي حاول الأخوة في سجن الوادي الجديد المقاومة فقتل منهم أكثر من سبعين أخ".

أحدهم حاول تخفيف قلقي فقال: "بص يا أخي أنت لما كنت في الإبتدائية مفيش مرة كسلت تعمل الواجب ورحت تاني يوم المدرسة وانت عارف أن الأستاذ هيضربك؟"، قلت له: حصلت كتير قال لي: "اعتبر اللي هيحصل كمان شوية حاجة زي كده، بس الفرق أننا هنضرب عشان عملنا الواجب وعلقة تفوت ولا حد يموت".
لم أكن أصدق أني أستطيع الضحك في مثل هذا الموقف لكني بالفعل ضحكت وضحك الناس حولي، حقيقة كانت ضحكاتهم مريرة تشبه البكاء، بدء الكل يبتسم في وجه الآخر ابتسامة متكلفة تحاول جاهدة إضفاء الطمأنينة وإخفاء الفزع الذي يغلي في الصدور.

انتقل الصراخ إلى الزنزانة المجاورة تماما لنا، كان أشد فزعًا ورعبًا وقسوة مما سمعناه من قبل، الكل انهمك في الدعاء والذكر، خالجني شعور حزين أني سأخرج من الزنزانة ولن أعود إليها بل سأموت تحت وطاة التعذيب، تذكرت أبي وأمي وطفرت دمعتي أني سأموت غريباً حبيساً، وسأُسلم لأبي جثة هامدة تدفن تحت جنح الليل وسط حراسة مشددة كما هي العادة، ولن تستطيع أمي وقتها حتى أن تقبل جبين جثتي الباردة أو حتى تراها لأن العسكر سيمنعونها.

أغلق باب الزنزانة المجاور لنا وساد الصمت كثيفا وثقيلا على الجميع، كنت أسمع دقات قلبي وأشعر به يقفز من صدري فزعًا، سمعت قرع نعال الطغاة يقترب منا، وفجاة صرخ الصوت الوحشي في زنزانتنا: "شد الغماية على عنيك يا ابن كذا انت وهو"، كان السباب فاحشًا وقاسيًا يؤلمني أكثر من صراخ المعتقلين المعذبين رددت في نفسي بل: {أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ} [يوسف:77].

فتح باب الزنزانة وصرخ الصوت القاتل مرة أخرى: "بره يا ابن كذا بره بره". 
وضع كل منا يده على كتف أخيه وخرجنا في طابور واحد بمجرد اقترابي من باب الزنزانة هوت على ظهري عصى فشعرت أنها شقته نصفيين، توقفت لبرهة مشلولاً من الألم فدفعني أحد الأخوة أمامه، وقفنا جميعًا أمام الزنزانة وجهنا للحائط وظهورنا للجنود الذين ألهبوها ضربا بالسياط والعصيّ، كان الجنود يصرخون كسكارى في حلبة قتال وكانت السياط تنهال على ظهورنا تزاحمها العصّي والصواعق الكهربائية وإعقاب السجائر المشتعلة، فقدت الشعور بالزمن والواقع وبكل شيء باستثناء الألم الرهيب..

كان العسكري يهوي على رأسي بعصى غليظة وهو يصرخ قائلا: "نظم"، لم أفهم المراد فظل يهوي بقسوة على ظهري وهو يصرخ بنفس الكلمة المبهمة.. اقترب جندي آخر مني وسألني: "أنت لسه جديد؟" قلت: أيوه، قال: "طيب ارفع إيدك لفوق واجري في المحل وانت واقف"، كانت هذه هي الحركة الأشهر في المعتقلات والتنظيم هو: أن يقف المعتقل ووجهه للحائط وعيناه معصوبة، يرفع يده لأعلى ويحرك قدميه بسرعة كأنه يجري بينما تهوى الصواعق الكهربائة والعصى الخشبية والمطاطية وأعقاب السجائر، ومخالب وأنياب الكلاب البوليسية على ظهره، ولم يكن هذا هو كل العذاب..

كان هناك شاويش يمسك كلبًا ضخماً ويمر به علينا فرداً فردًا يسأل المعتقل: "أسمك إيه؟ فيجيب المعتقل باسمه فيرد الشاويش "لأ. انت اسمك (العاهرة) فيفي عبده، ها اسمك إيه؟"، ثم يغمز الكلب فيقفز على ظهر المعتقل بمخالبه الحادة ولا يتركه حتى ينطق بما يريد، صعقت من الموقف لم أصدق أذني أن هذا يحدث، صرخ أحد الشباب بجواري مباشرة والكلب ينهش ظهره: "اسمي محمـد، أسمى محمد"، كان الشاويش يقسو عليه وهو يجيب: "محمد إن شاء الله، محمد إن شاء الله".

كان يبكي بحرقة وهو ينطق باسمه ويقدم المشيئة استعانة بالله ورجاءً أن يثبت قلبه، كان الشاويش ميت القلب يصرخ فيه كل مرة: "اسمك العاهرة ليلي علوي يا ابن الزانية". بكيت وأجهشت في البكاء لحال أخي، كان العسكر قد تحلقوا على هذا المعتقل بكل ما يملكون وهو يصرخ تحت أيديهم وأرجلهم وعصيهم وكلابهم "محمد إن شاء الله، محمد إن شاء الله"، وفجأة وجدتني تلقائيا أصرخ بأعلى صوتي: يا رحمن يا رحمن يا رحمن.. 

كنت أصرخ رغما عني فزع الجنود وأحسست بارتباكهم، أحدهم وضع الصاعق الكهربائي في ظهري وهو يصرخ: "أسكت با ابن الكلب"، وسمعت الضابط يزعق: "هات الحلاق لأولاد الكلب دول"، تقدم الشاويش بكلبه مني وقال: "قول يا ابن كذا اسمك المومس فلانة -أسم ممثلة مشهورة بالعري والفاحشة-"، كان لساني يصرخ رغماً عني يا رحمن يا رحمـن يا رحمن..

هوت على ظهري عصيان عدة وأيادي شتى، ولم أستطع أن أوقف لساني عن الاستغاثة بالرحمن جلا وعلا،
اقترب مني شخص وصفعني على ظهري بقوة، وقال: "اجلس"، جلست وأنا أشعر بمكينة الحلاقة تأكل شعري وتقتلعه من المنتصف وترسم صليبا على رأسي، مر الضابط خلفي بالصاعق الكهربائي وسألني: "عندك كام سنة"، قلت: 18 سنة. قال: "مين اللي بيأذن للصلاة في العنبر؟"، أجبت: معرفش صعقني في ظهري بقوة ثم مضي إلى باقي المعتقلين..

غرقت بين رحى العذاب حتى أمسك جندي بيدي وقدمي وألقاني داخل الزنزانة ثم أغلق الباب، رفعت العصابة عن عيني ونظرت فوجدت جميع إخواني ملقون على الأرض الخراسانية ودمائهم تنزف وجروحهم تثعب، حلقوا لحاهم جميعا ورسموا صلبان على رؤوسهم، كانت الأجساد زرقاء ودامية وعارية مبللة بالعرق والدماء وبقايا الشعور المحلوقة، الجميع مطروحون على الأرض بلا أدنى قدرة على الحراك، لا يتحرك فيهم سوى ألسنتهم التي ما تزال تلهث بذكر الله، زحف أحد الأخوة إلى دورة المياه وجاء بجردل كبير مملوء بالمياه وألقاه علينا وقال مازحا: "نعيماً يا رجالة".

انفجر الجميع بالضحك الهستيري، علق أحدهم قائلاً: "إلا قول لي يا أخويا هو أنا كشفت ولا لسه؟".
نظر آخر إليّ وقال: "عشان تبقى تعمل الواجب بعد كده"، ضحكنا كما لم نضحك من قبل، وحين وضعت يدي على وجهي كنت أحاول أن أتغلب على دمعتي الساخنة، لكنها أبت على إلا أن تذرف رثاء على طلبة الجامعة وحفظة القرآن خيرة شباب مصر، وما يحدث لهم في معتقلات مبارك لأنهم فقط قالوا: "ربي الله". 

المصدر: المرصد الإسلامي لمقاومة التنصير

خالد حربي

كاتب وباحث وخاصة في مجال الرد على النصاري.