غزة تحت النار - (42) شهداء الهدنة الإنسانية

منذ 2014-07-28

كان من المتوقع أن تكون الهدنة الإنسانية فرصة للفلسطينيين في قطاع غزة لالتقاط الأنفاس، والتماس قسطٍ من الراحة، ومحاولة التموين وتوفير احتياجات الصمود للأيام القادمة، ومناسبة قصيرة للاطمئنان على سلامة بعضهم البعض، وتفقُّد أنفسهم، والتعرُّف على الشهداء الذين سقطوا، والجرحى والمصابين الذين نُقِلوا إلى المستشفيات للعلاج، إذ أن العدوان قد فرَّق بين الناس، وشتَّت جمع الأهل والجيران، وباعد بينهم بعد أن دمَّر بيوتهم ومساكنهم، ولم يُبقِ لهم على مكانٍ آمِنٍ يجتمعون فيه ويلتقون.

كان من المتوقع أن تكون الهدنة الإنسانية فرصة للفلسطينيين في قطاع غزة لالتقاط الأنفاس، والتماس قسطٍ من الراحة، ومحاولة التموين وتوفير احتياجات الصمود للأيام القادمة، ومناسبة قصيرة للاطمئنان على سلامة بعضهم البعض، وتفقُّد أنفسهم، والتعرُّف على الشهداء الذين سقطوا، والجرحى والمصابين الذين نُقِلوا إلى المستشفيات للعلاج، إذ أن العدوان قد فرَّق بين الناس، وشتَّت جمع الأهل والجيران، وباعد بينهم بعد أن دمَّر بيوتهم ومساكنهم، ولم يُبقِ لهم على مكانٍ آمِنٍ يجتمعون فيه ويلتقون.

لكن الحقيقة التي تُكشفت إثر الهدنة كانت مُروِّعة ومُهوِّلة، وأكبر من أي تصورٍ وتوقع، إذ كشفت عودة بعض الأهل إلى بيوتهم، مصحوبين بطواقم طبية وأخرى للدفاع المدني، فضلًا عن الطواقم الصحفية المختلفة، التي جاءت تُوثِّق وتُسجِّل، وتنقل وتروي، إلا أن الحقيقة كانت مُروِّعة جدًا، تجاوزت التصورات والتوقعات، إذ انتشل الفلسطينيون من تحت الأنقاض أكثر من مائة وأربعين شهيدًا، كانوا جميعًا تحت الركام، ولم تستطع سيارات الإسعاف وقت القصف أن تصل إليهم، وأن تُنقِذ من كان جريحًا منهم.

الصورة كشفت عن أن عشراتٍ قد استشهدوا نتيجة النزف والجراح الغائرة، إذ بقوا في أماكنهم ينزفون لأيامٍ، دون أن يشعر بهم أو يصل إليهم أحد، وبعضهم استشهد خنقًا تحت طبقات الركام، وكثيرٌ منهم كانوا من الشيوخ والعجزة والمسنين والأطفال والنساء.

لكن الصورة كشفت عن أن آخرين قد استشهدوا قنصًا، وأن جنود العدو قد قتلوهم وهم يعرفون أنهم مدنيون لا يُشكِّلون خطرًا، ولا يحمِلون سلاحًا، وأن منهم من كان يحمِل بعض متاعه، وغيرهم كان يُمسِك بيد أطفالٍ أو نساء، فوجدوا الجميع شهيدًا، والجريمة الأكبر أنهم قَنصوا الجرحى، وأجهزوا على المصابين، وقتلوا كل من وجدوا في طريقهم، أيًا كان عمره أو جنسه لا فرق..!

أما الجانب الآخر من الصورة التي كشفتها الهدنة الإنسانية، فقد جاءت على لسان جنود جيش العدو أنفسهم، الذين استغلوا ساعات الهدنة لينجوا بأنفسهم من مصيرٍ مجهولٍ ولكنه خطير، إذ أن الكثير منهم كان يتوجس من القتل، ويتخوف من الأسر، فاتصل بعضهم بذويه وأهله فرحًا أنه ما زال حيًا، مستغلين تطبيق الواتس آب، وبرامج التواصل الاجتماعي، التي لم تستطع رقابة جيش العدو أن تضع يدها عليه وتمنع استخدامه، مخافة تسرُّب الأخبار، وفضح حقائق المعركة.

قال الجنود لأهلهم أنهم دمَّروا بيوت الفلسطينيين وجعلوها خرابًا، وأنهم لا يظنون أن أحدًا سيعرف مكان بيته، إذ لم يبقَ على الأرض ما يدل على أنه كان فيها بيوتٌ ومنازل، وأنهم لا يتمنون أن يحدث هذا في بيوتهم، فهو أمرٌ مريعٌ ومخيف.

وروى آخرون أن الأوامر العسكرية كانت صارمة جدًا، بأن نُطلِق النار بكثافةٍ عالية، ودون توقف، وأن نكون قريبًا من بعض، وعلى اتصالٍ بوحداتنا، حتى لا نفقد أحدنا، أو نقع في كمينٍ للمقاتلين الفلسطينيين، فكانت أصوات الطلقات النارية تتداخل مع القصف الجوي العنيف، وقذائف الدبابات التي كانت قريبة مِنَّا، الأمر الذي جعلنا لا نُميِّز حجم الدمار الذي تسبَّبنا فيه، ولكنه كان بالتأكيد دمارًا كبيرًا.

قد لا يوجد في صفوف جيش العدو انشقاقاتٌ كبيرة، إذ أن الخوف يجمعهم، والرعب يُوحِّدهم، ولكن هذا لم يمنع بعض الجنود من التمرُّد ورفض الخدمة، ربما خوفًا من القتل أو الأسر، ولكن آخرين هالهم ما رأوا، وأفزعتهم مناظر الدماء والدمار والخراب الذي خلَّفها جيش كيانهم، فتحدَّثوا لبعض الصحف ووسائل الإعلام عمّا رأوا وشاهدوا، وكشفوا أن جيشهم قد قتل أبرياء مدنيين عُزّلًا، وأنه لم يرحم أحدًا، وأن الصورة التي ظهرت للعالم ستكشِف حقيقة الجريمة التي ارتكبها قادة الجيش، وستظهر الأيام القادمة الكثير من هذه الاعترافات التي سيرويها الجُند، والذين سيُحمِّلون قادة جيشهم وحكومة كيانهم كامل المسؤولية عن هذه الجرائم التي أوقعوا فيها شعبهم.

أما بعض الإعلاميين الإسرائيليين، الذين رأوا الصور المنقولة من حي الشجاعية، ومن خزاعة والقرارة وعبسان وبيت حانون، وحجم الدمار الذي خلَّفه جيشهم في مساكن وبيوت الفلسطينيين، وأدركوا هوله وأثره على صورة كيانهم لدى المجتمع الدولي، فقالوا إن الحكومة في مأزق، والجيش في ورطة، ويجب أن نعمل معًا لننقذ جيشنا من ضمير العالم، ومن عمليات المقاومة النوعية، التي كسرت ظهر الجيش، وأصابت عموده الفقري.

وغيرهم اعترف بأن جيش بلاده لا يعرف له هدفًا، ولا يملك رؤية لخوض الحرب، ولا خطة للانتهاء منها أو للانسحاب من أرض المعركة، وأن الجيش لم يقتل سوى المدنيين، ولم يُدمِّر سوى البيوت، وهو لم يقتل كثافة النيران قائدًا عسكريًا، ولا مُقاتِلًا في الميدان، كما لم يُحقِّق شيئًا من الأهداف التي أعلنها، لذا علينا التفكير في الانسحاب قبل أن يخسر جيشنا أكثر.

لا شيء أكبر فظاعةً وأشد هولًا، وأكثر حزنًا، وأبلغ ألمًا، مما رأينا اليوم خلال ساعات الهدنة الإنسانية، الذي أصبح بحساب الحرب، اليوم الأكثر دموية وخسارة، رغم وقف إطلاق النار، وتعطيل العمليات العسكرية، إلا أن المدونين قد سجلوا في دواوينهم، وثبتت المستشفيات في سجلاتها، أن عدد الشهداء في اليوم العشرين للحرب، الذي كان يوم الهدنة، كان الأعلى والأكثر على مدى أيام العدوان كلها.
 

المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام

مصطفى يوسف اللداوي

كاتب و باحث فلسطيني

المقال السابق
(41) مشاهدات الهدنة الإنسانية
المقال التالي
(43) الخسائر البشرية الإسرائيلية بين الحقيقة والخيال