أبناؤنا والمسؤولية

منذ 2014-07-31

قصة له وقعت مع أبناءه الكبار الذين يناهزون العشرين من العمر، إذ احتاج يوماً أن يقوموا بتبديل أنبوبة الغاز فكانت قصة وأسئلة وبحث وكيف نصنع وأين نذهب وكيف نقوم بالمهمة


 الخطبة الأولى
معاشر المؤمنين:
وصية الله لنا وللمؤمنين في كل آن وحين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} [آل عمران: 102].

إخوة الإسلام:

قضيةٌ وقصةٌ وموضوعٌ في لقاء، لقيت مديراً لإحدى الشركات يتحدث عن الفقر الأخلاقي في المعاملات ثم تطرق إلى قصة له وقعت مع أبناءه الكبار الذين يناهزون العشرين من العمر، إذ احتاج يوماً أن يقوموا بتبديل أنبوبة الغاز فكانت قصة وأسئلة وبحث وكيف نصنع وأين نذهب وكيف نقوم بالمهمة، قال إننا لم نعلمهم لم ندربهم لم نحملهم المسؤولية، نحن نبني أجيالاً اتكالية ليست مبالية لا تحسن تدبير أمر شؤونها ولا القيام بمسؤولياتها، تحملُ المسؤولية أمر في غاية الأهمية، وومضة سريعة أنتقل بها حتى نعود مرة أخرى إلى واقعنا، سيد الخلق صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم أمّر على جيش هو الأول الذي كان مقرراً أن يخرج خارج حدود الجزيرة شاباً عمره سبعة عشرة عاماً، وكان في هذا الجيش -أي من أفراده- أبو بكر وعمر رضي الله عنهما وكبار الصحابة، (أسامة بن زيد)، في السابعة عشر يوليه المصطفى صلى الله عليه وسلم قيادة جيش كان المفترض أن يقوم بأول عمل عسكري خارج الجزيرة مع الروم.

ونقلة أخرى سريعة إلى زمن آخر في عام 72هـ ولد (محمد بن القاسم الثقفي)، وفي عام 90هـ كان يقود الجيوش التي فتحت بلاد السند وعمره ثمانية عشر عاماً.

وومضة ثالثة في جانب آخر: الإمام الشافعي حفظ القرآن وهو ابن سبع سنين، وحفظ الموطأ وهو ابن عشر سنين، وبدأ يفتي وهو دون العشرين، صغار لكن كبار، منذ نعومة الأظفار خاضوا المجال وأُتيحت لهم الفرصة، وأعطوا الثقة، وكان التشجيع وكانت الرعاية فظهرت تلك الشخصيات التي اليوم ربما نفتقدها إلى حد كبير إن لم نكن مبالغين فنقول إنه لا وجود لها في عصرنا، ما القصة إذاً؟ تحمّل المسؤولية منذ الصغر منذ نعومة الأظفار، الدراسات العلمية تقول: "إن الوعي والإدراك بقدر المسؤولية في درجاتها الأولى يكون والطفل في الثالثة من عمره يبدأ شيئاً من التمييز"، والإمام البخاري في صحيحه في كتاب العلم ضبط سن التمييز بخمس سنوات، واستشهد بقول أحد الصحابة أنه يتذكر ويدرك مجة وجه النبي صلى الله عليه وسلم في فمه وهو ابن خمس سنين، إذاً نحن معنيون بأن نبدأ إلى التوجيه في تحميل المسؤولية منذ ذلك العمر، وهل هنا أمر عجيب؟ وهل هنا مبالغة فجة؟ وهل هنا ثقل وعبء لا يُحتمل؟ كلا، على سبيل المثال حتى نبدأ في إدراك هذا الموضوع في هذه السن الصغيرة لو أننا عوّدنا هذا الطفل على أن ينظم موضع حذائه ويضعه في مكان معين وعندما يضعه يجد الابتسامة المشجعة، والكلمة المحفزة، من والدته وإذا لم يفعل وجد شيئاً من التأنيب، صورة من المسؤولية الذاتية التي يكاد تغيب عنا لأن الشكوى من صاحبنا في قصتنا يقول جئنا بالخادمات في البيوت فصار أبناؤنا وبناتنا لا يعملون شيئاً، وجئنا بالسائقين والخدم فصار جميع الأفراد لا يحسنون أمراً ولا يتقنون عملاً، كل شيء يُؤتى له بمن يقوم به، والمهمة التي تبقى حينئذ هي مهمة الفراغ والنوم والأكل، حتى في التعليم جئنا بالمدرسين الخصوصيين، لم يبقى إلا أن نأتي بمن يجيب عنهم في الاختبارات، صورة قد يكون فيها مبالغة لكننا نريد تحمل المسؤولية، وقبل أن أبدأ في الصور العامة أشير إلى أن منهج كتاب الله وهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم يعمق المسؤولية الفردية تعميقاً لا مزيد عليه: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الإسراء:36]، ستسأل، وسيسأل كل أحد، صغيراً كان أو كبيراً بحسبه عند تكليفه، {مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18]، وفي حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم: «إن الرجل ليتكلم بالكلمة لا يلقي لها بالاً يهوي بها في النار سبعين خريفاً»، وفي شأن الكفار يذكر الله جل وعلا قوله: {وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [الكهف:49]، والمحاسب هو الحق جلّ وعلا، هو الذي لا تخفى عليه خافية، هو الذي {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر:19]، والمحاسبة ليس فيها واسطة، والمسؤولية ليس فيها من يحمل أو يُخفف، بل كما قال الحق سبحانه وتعالى: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر:38]، (أي: مرتهنة)، وفي حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم: «كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها» (أي: إما أن يعتقها إذا أدّى ما عليه، أو يوبقها ويوردها الهلاك إذا قصّر في مسؤوليته وواجبه)، والنصوص في هذا كثيرة، والأثر العملي لهذا عظيم، وحسبي أن أشير إشارات، هذا سبط النبي صلى الله عليه وسلم الحسن، وهو صغير ما زال دون البلوغ ودون التكليف وبين يدي النبي صلى الله عليه وسلم بعض من تمر الصدقة بعد التوزيع فأخذ تمرة ليضعها في فمه، فضرب النبي صلى الله عليه وسلم على يده وقال: «كخٍ كخٍ، أما شعرت أنّا لا نأكل الصدقة»، إنه لا يعي لا يدرك لا يعرف الأحكام، لكنها التغذية الأولية، ما يقع كما يقولون في العقل اللاواعي الذي دعانا النبي في سنته أن نؤذن في الأذن اليمنى ونقيم في اليسرى لماذا؟ لأن لهذه الكلمات أثراً أثبت العلم أنه يبقى، لذلك لابد أن ندرك هذا، حتى لما جاءت المرأة وقالت لابنها: "هاك اعطك، فلما جاء أعطته تمرة، قال: «أما إنك لو لم تعطه لكانت كذبة أو كذيبة»، لا تفكر به وأن عقله صغير أو إدراكه غير عميق، فكر بما تريد أن توصله لهذا الصغير منذ نعومة أظفاره.


المسؤولية هنا سنتناولها في جوانب ثلاثة مهمة:

الجانب الأول: هو جانب الأسرة، الأم والأب وبيئة الأسرة كلها، تحتاج أولاً إلى إعطاء الثقة، وذلك بالتشجيع والتحفيز، قل له إنك كبير، قل له إنك مسؤول، قل له إنك تستطيع وتقدر، وشجعه حتى يكون ذلك منطلقاً لهذه المسؤولية.


والأمر الثاني: إعطاء الاستقلالية في اتخاذ القرار مع الرعاية والتقدير، دعه يقرر، نحن اليوم نقرر عن أبنائنا أين يدرسون، ونقرر عنهم في ماذا يتخصصون، ونقرر عنهم ماذا يلبسون، شيء عجيب! هذه الرعاية الزائدة تفقد هؤلاء شخصياتهم وقدراتهم التي يمكن أن تكون نواةً لقوة وقدرة وشخصية مؤثرة في المستقبل.


والأمر الثالث: هو إعطاء الفسحة أو الفرصة للممارسة العملية في شتى الجوانب مع المكافأة أو المعاقبة بحسب الحال، إذا فعلنا ذلك سنجد أثراً وسنجد تجربة وسنجد فرصة لجوانب مختلفة، ولكي يتحقق هذا لابد أولاً من تنمية الحوار والمشاركة، نحن لا نسمع أبناءنا ولا نُصغي لهم، وإذا أرادوا أن يتكلموا قلنا إننا مرهقين أو ابتعدوا فنحن الآن مشغولون، أو في وقت آخر، أو ما هذه القضية التافهة العارضة، فحينئذ لا يسمع لهم قول ولا يعتبر لهم رأي، ولا ينظر إليهم في قدر من الشخصية بحال من الأحوال، وهذه قضية أساسية مهمة.

والأمر الثاني: هو الأمر الذي يكون فيه نوع من التقدير الحقيقي الذي نعمله بتجربة مقصودة هادفة، عندما نكون على قدر كبير من التتبع والمتابعة الإيجابية لأبنائنا فعند كل إحسان نقدر ونحفز وعند كل تقصير ننبه ونشير إلى مواطن الخلل فيحصل حينئذ هذا التقدير في كل الجوانب، نحن اليوم نقبل على ما نسميه الإجازة، أو العطلة وإن كانت العطلة من العطالة، ماذا يصنع أبناؤنا بل كثير من أسرنا، الليل قصير يسهرونه في غير فائدة، والنهار طويل يقتلونه أو ينحرونه نوماً، وفيما بينهما فراغ يؤدي إلى فراغ ونعمل فيه فراغ وننتهي فيه إلى فراغ، كم أعداد أبناءنا بالملايين، كم هذه الساعات لو حسبناها بمئات الملايين، أيحق أو أيصح أن تهدر؟!، هنا فلنأخذ بجوانب إيجابية في سائر الأوقات وفي هذه الأوقات على وجه الخصوص، لماذا لا نحسن توجيهاً ليس بالضرورة في مسارات محددة بل في مسارات متنوعة، فلنعطي أبناءنا أولاً فرصة بالواجبات الاجتماعية يكلفون بها ويحرصون عليها، هم الذين يعملون جداول الزيارات للأرحام، هو الذين يعدون ماذا سنأخذ معنا من الهدايا عند الزيارات، اجعلهم يشعرون أن هذه مسؤولية وأنها من المهمات الواجبة ومن الأعمال الفاضلة في شريعتنا الغراء، اجعلهم يأخذ جانب آخر مع محيط الحي والجيران، مع بقية أقرانهم إن كانوا صغاراً أو إن كانوا كباراً فليقوموا بمبادرات اجتماعية في تنظيف الحي أو في عمل شيء يعود على الجميع بفائدة يشعرون بالأثر ويقومون بنوع من المهمة بل كلفه بعمل وإن كان في داخل في المنزل أو لصالح الأسرة على مدى طول هذه الأشهر التي ليس فيها دراسة واجعل له أجراً يأخذه منك كأنه راتب أو إن أتيحت الفرصة وكان يعمل عملاً حقيقياً معك أو مع غيرك في الميدان فإن هذا يقوي شخصيته ويكسبه خبرة، وهناك اليوم مجالات واسعة في الجانب التقني فليعمل عملاً من خلال هذا الحاسوب في مبادرات اجتماعية، أو تطوعية، أو توعوية، في أي قضية من القضايا التي تنتشر بين الشباب وتحتاج إلى التنبيه إلى مخاطرها والتحذير من أضرارها، هناك فرص واسعة هناك مجالات كثيرة هناك أعمال تطوعية مختلفة، وأضف إلى ذلك القراءة وأضف إلى ذلك الصلة بكتاب الله سبحانه وتعالى ونحن مقبلون على شهر رمضان المبارك بإذن الله عز وجل، كل ذلك لا ينبغي أن يمر دون أن يكون هذا التوجيه وتحميل المسؤولية وتعويد أبنائنا حتى على الأعمال المنزلية، اجعلهم يغيرون هذه الأنابيب للغاز، اجعلهم يصلحون بعض ما يعطل من مصالح المنزل، اجعلهم يقومون بالتنظيف أما الترتيب الشخصي لحاجياتهم وسررهم وغير ذلك فهذه قضية ينبغي أن تكون دائمة مضطرة، لا ينبغي أن نصنع كما يصنع آخرون، رأيت كثيراً من الصور عجيبة رأيت أطفالاً صغاراً في الابتدائية إذا خرج من السيارة حتى يدخل إلى المدرسة هناك من يحمل له حقيبته أو حقيبتها حتى يضعها على الطاولة، ما هذا؟ لِمَ كل ذلك؟ لِمَ هذه الاتكالية التي تولد عندنا شخصيات على جانبين من الخطورة في الناحية الفكرية والنفسية تنشأ شخصيات ليس لديها أي مبالات بأي شيء، ومن الناحية العملية والسلوكية تنشأ لدينا شخصيات غير قادرة على عمل شيء، وكلا الأمرين خطير، كلا الأمرين خطير أن تكون لدينا نفوس لا تتحمل مسؤوليات، ولا تعنى بشأن نفسها حتى تُعنى بشأن غيرها، وأين نحن حينئذ من هذه المسؤولية الكبيرة التي تضمنا جميعاً في شأن الإصلاح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله ومسؤوليتنا عن كل هذه البشرية {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ}[آل عمران: 104]، {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ}[آل عمران: 110]، كل ذلك قاعدته الأساسية منطلقه الأول لبنته الأولى في هذه المسؤولية التي ترعى من البداية منذ الصغر بنوع من التحمل للمسؤولية حتى بالمسؤوليات داخل الأسرة، اجعل الأبناء الكبار يعلمون الأبناء الصغار، واجعل البنت الكبيرة تعنى بالأطفال الذين تقوم لهم بشأن كشأن الأم، كل ذلك مطلوب حتى تصبح الأسرة كلها فاعلة، وليست كلها نائمة، كثير هو النوم في هذه الأيام بشكل عجيب وغريب وبنوع من صورة تدل على أننا ليس عندنا انتاجية وليس عندنا تحرك ولا تحرّق ونحن نعلم جميعاً أننا مجتمعات معدودة في المجتمعات النامية تجميلاً لأوضاعنا وإن كنا في الحقيقة مجتمعات لديها قدر كبير من التخلف العلمي والتقني والسلوكي والمنهجي والإداري نحتاج إلى استدراكه، «والمؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير»، كما قال رسولنا صلى الله عليه وسلم، {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} [مريم:12]، ليس هناك تراخٍز {وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ} [آل عمران:133]

{فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ} [المائدة:48]، "بادروا بالأعمال سبعاً" كما قال النبي عليه الصلاة والسلام، كل ذلك يدل على التحفيز، أول ما خوطب النبي صلى الله عليه وسلم بعد نزول الوحي في المرة الأولى بـ {اقْرَأْ} [العلق:1].

{يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ. قُمْ فَأَنذِرْ}[المدثر:1-2]، بقوة، بنوع من الأمر، ليس هناك مجالاً للنوم ولا للدعة ولا للكسل، فإن الحياة عمرها قصير وميدانها محدود، والحياة الأخرى هي الحياة الأعظم عند المؤمن، ينبغي هنا أن يحرث في كل لحظة في كل ثانية في كل ميدان في كل مجال مع كل إنسان حتى يستطيع أن يُعمر حياته لتكون عمراناً لآخرته.


والميدان الثاني: هو الميدان التعليمي، المعلمون أيضاً إلى حدٍ ما لا يسمعون لتلاميذهم، لا يطلبون مشاركتهم، لا يجعلون التعليم بينهم وبينهم متفاعلاً، نحن نريد بيئة تجعل هؤلاء الطلاب يتحملون مسؤوليتهم، ويتعلمون كيف يحصلون العلم بذاتية وليس بتلقين أو فرض وليس بمساعدة دائمة في كل لحظة وآن دون أن يكلف نفسه جهداً أو أن يشعر بأنه يتعب، أو يجتهد لأجل ذلك، وسبحان الله لو تأملنا من سير السلف الصالح ونماذج ما كانوا عليه لعجبنا ولرأينا عجباً كبيراً، وأذكر هنا سيرة واحدة للإمام (النووي)، رحمه الله، كان للإمام النووي وهو في عمره الأول ثلاثة عشر درساً في ثلاثة عشر علماً، يبتدئها قبل الفجر الأول إلى نهاية اليوم في الغروب، هكذا كانت الطاقات والمسؤوليات والأعمال التي كان ينجزها أسلافنا، ليس في هذا المجال العلمي أو الشرعي فحسب، بل في سائر المجالات، وفي التعليم ينبغي أن يعود الأساتذة الطلاب على المواجهة وعلى الإلقاء وكنت أعمل تجربة نكلف فيها الطلاب بأن يحضروا مادة للمحاضرة أو للدرس بعد أسبوعين أو ثلاثة فيستعدوا ثم هم يقومون بالتدريس ويحاورهم إخوانهم وزملاؤهم فيجدون ثقة بالنفس ويذهبون حتى يحضروا تحضيراً أقوى مما يمكن أن يحضره حتى المعلم أحياناً، نحتاج إلى بيئة تجعل الطلاب في المدرسة يحافظون على النظام ويحافظون على الموجودات، بل ويقومون بتنظيف مدارسهم وبتجهيزها وتهيئتها ويعملون كخلية نحلٍ، نحتاج إلى صورة التعاون، التي يضرب مثلها النبي صلى الله عليه وسلم بصورٍ رائعة «كالبنيان يشد بعضه بعضاً»، «كالجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى»، صورٌ ينبغي أن نترجمها في بيئات متنوعة وسيما بيئة التعليم فإنها من أبرز وأكثر البيئات التي تؤثر في طلابنا وفي أبنائنا ليكتمل هذا مع ذاك فيحسن حينئذ تحميل المسؤولية والتربية عليها كما يجب وكما ينبغي.

 

وهنا ومضات سريعة:

كان النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين جالساً مع بعض أصحابه وأوتي بلبن أو بشراب -كما في الرواية- وعن يمينه غلامٌ وعن يساره أبو بكر وبعض الصحابة، فاستأذن النبي الغلامَ وهو عن يمينه أن يُقدِّم من هو أكبر منه سناً، فقال: لا يا رسول الله، والله لا أقدم بحظي منك أحداً يا رسول، هذه فرصة عظيمة، هذه مزية، هذا الغلام لو لم تكن له شخصية لو لم تكن له تربية لربما مع هيبة النبي صلى الله عليه وسلم قال نعم، وهذا ليس فيه سوء أدب، بل فيه كمال قوة وقدرة وكمال علم وفطنة، وكمال نظرٍ إلى الفائدة والمنفعة في كونه يقدم بتقديم رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.

النبي صلى الله عليه وسلم كان راكباً على دابته وكان يردف خلفه ابن عباس وهو غلام صغير فالتفت إليه في الحديث المشهور: «يا غلام، إني أعلمك كلمات فاحفظها، احفظ الله يحفظك، احفظ الله في الرخاء يحفظك في الشدة»، هكذا الالتفات والانتباه والتعيين حتى وجدنا ابن عباس يفخر ويحفظ ويمتثل.

وهذا عبدالله بن عمر يقول: كان الصحابة يرون الرؤى فيقصونها على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو صغير كان ابن الحادية عشر، قال: فوددت أن أرى رؤيا فرأيت رؤيا فقصصتها على حفصة، فقصتها على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «نعم الرجل عبدالله لو كان يقوم من الليل»، هذه كلها ومضات في التفات النبي صلى الله عليه وسلم إلى هؤلاء الغلمان في صغر السن، فينبغي أن نلتفت لذلك.
أسأل الله عز وجل أن يرزقنا الأبناء الصالحين وأن يعيننا على تربيتهم وتنشئتهم على مراد الله سبحانه وتعالى.


الخطبة الثانية
إخوة الإسلام والإيمان:
أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله، فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه.
وإن من تقوى الله عز وجل استشعار الأمانة والمسؤولية في تربية الأبناء: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم:6].


والدائرة الثالثة المهمة هي دائرة المجتمع: في مجتمعاتنا إلى حد كبير نوع من التهميش للصغار أو للشباب في مقتبل العمر، لا ينظر إليهم، لا يسمح لهم بمشاركة الكبار في مجالسهم، لا يطلب منهم رأي، لا ينتظر منهم إسهام، وهذا كثيراً ما يحبطهم، ويسد الأبواب في وجوههم، ولا يتيح الفرصة لطاقاتهم، بينما نجد ذلك في تربية النبي صلى الله عليه وسلم وفي تاريخنا على غير ذلك، وكلنا يعرف كيف كان عمر بن الخطاب يدخل إلى مجلسه الذي فيه كبار الصحابة من المهاجرين والأنصار ابن عباس رضي الله عنه لماذا؟ لأنه كان ذا علم ولما سألوا عنه وعن دخوله هذا المجلس مع كونه صغيراً ولهم أبناء أكبر منه، سأله عمر ابن الخطاب عن تفسير سورة: {إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ}[النصر:1]، ففسرها أولئك القوم ثم سأل ابن عباس فقال: "هي أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم نعي إليه"، قال: ما أعلم منها إلا ما علمت، فأشار بذلك إلى تقديمه، ومثل ذلك وقع أيضاً مع ابن عمر لما كان النبي صلى الله عليه وسلم في مجلس فقال: «ما شجرة مثلها مثل المسلم»، اضربوا لي مثلاً، قال: فوقع الناس في شجر البوادي ووقع في نفسي أنها النخلة فاستحييت وفي القوم أبو بكر وعمر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنها النخلة لا ينقطع ثمرها ولا ينعدم فيؤها ولا .. ولا .. ولا..» ، فلما علم عمر قال: وددت لو أنك قلتها وليس لي بها ما في الدنيا وما فيها، لأنه كان يريد لابنه أن يتصدر أو أن يتقدم في هذا الموطن العظيم، نحن في المجتمع نحتاج إلى هذه الرعاية المجتمعية على المستوى الاجتماعي وعلى مستوى المؤسسات، والمحاضن التي تتيح لهؤلاء الشباب ولهؤلاء الصغار أن يبدأوا منذ نعومة أظفارهم ليقدموا علماً وليبتكروا اختراعات وليكونوا مسهمين في كل مجالات المجتمع التي نحتاج إليها.


وهنا أختم بالمسؤولية الكبرى: كلنا لابد أن نعلم أنفسنا ونربيها ونعلم أبناءنا ومن حولنا على المسؤولية بين يدي الله سبحانه وتعالى، على المسؤولية عن كل كلمة وحركة وسكنة نقوم بها ونعوّد أنفسنا أيضاً أو نربي أنفسنا ومن وراءنا على تحمل المسؤولية تجاه الأمة المسلمة فكل مسلم أخ لنا وعلينا تجاهه مسؤولية: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10]، وكما قال الحق سبحانه وتعالى: {وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} [الأنفال:72]، هذه مسؤوليات لابد أن تعلم وأن تعمق وأن ترتبط المسؤولية الإيمانية بالمسؤولية المدنية الحياتية، فديننا ليس فيه فصام، وديننا يدعونا إلى الأخذ بالقوة في شتى المجالات وكما يعمل العامل في حقله، فإنه يؤجر ويعطى الحسنات بنيته وإخلاصه وكذلك إذا كان يصلي ركعات، فالأمر هنا وهناك سيال.

نسأل الله سبحانه وتعالى أن يردنا إلى دينه رداً جميلاً، وأن يوفقنا لطاعته ومرضاته، اللهم طهر قلوبنا وزكي نفوسنا وهذب أخلاقنا وحسن أقوالنا وأخلص نياتنا، وأصلح أعمالنا وضاعف أجورنا وبلغنا اللهم فيما يرضيك آمالنا.
اللهم تول أمرنا وارحم ضعفنا واجبر كسرنا واغفر ذنبنا، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا.

علي بن عمر بادحدح

أستاذ بقسم الدراسات الإسلامية بجامعة الملك عبد العزيز بالسعودية