حق الطريق

منذ 2014-08-13

من الأمور المهمات التي تعطي الشارع الأمن والأمان، وتبث فيه معالم الإسلام، وهي من أجل مظاهر الإسلام: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فلكم اندحر صاحب باطل عندما أُنكر عليه، ولكم تعلم جاهل عندما أمر بالمعروف، ولكم أمن الناس على أنفسهم وأموالهم بسبب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكلما قلَّ العمل بهذه الشعيرة؛ كثر الفساد، وانتشر الشر في البلاد..


الحمد لله الذي ربَّى أنبياءه وأولياءه على مكارم الأخلاق، ومحاسن الأفعال، وجعل خيرهم وأحسنهم خُلقاً سيد الخلق محمد بن عبد الله، فالصلاة والسلام عليه، كم أدب وعلم وربَّى، ولم لا وهو من كانت محاسن الأخلاق من أبرز ما تُعرف به دعوته.

فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «لما بلغ أبا ذر مبعث النبي صلى الله عليه وسلم قال لأخيه: اركب إلى هذا الوادي فاعلم لي علم هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي يأتيه الخبر من السماء، واسمع من قوله، ثم ائتني، فانطلق الأخ حتى قدمه، وسمع من قوله، ثم رجع إلى أبي ذر فقال له: رأيته يأمر بمكارم الأخلاق، وكلاماً ما هو بالشعر» (رواه البخاري: 3648، ومسلم: 2474). فصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

زكاة الله تعالى بأنه صاحب أخلاق عظيمة، وصفات عالية رفيعة فقال عز وجل: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4]، قال الإمام السعدي رحمه الله عن هذه الآية: "أي عالياً به، مستعلياً بخلقك الذي منَّ الله عليك به".

وحاصل خلقه العظيم ما فسرته به أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها لمن سألها عنه فقالت: «كان خلقه القرآن، أما تقرأ القرآن»، قول الله عز وجل: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (1)، وذلك نحو قوله تعالى له: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199]، وقوله: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} [آل عمران: 159]، وقوله تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيُصُ عَلَيْكُم بِالمْؤُمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} [التوبة: 128].

وما أشبه ذلك من الآيات الدالات على اتصافه صلى الله عليه وسلم بمكارم الأخلاق، أو الآيات الحاثات على الخلق العظيم، فكان له منها أكملها وأجلها، وهو في كل خصلة منها في الذروة العليا، حيث كان صلى الله عليه وسلم سهلاً ليناً، قريباً من الناس، مجيباً لدعوة من دعاه، قاضياً لحاجة من استقضاه، جابراً لقلب من سأله، لا يحرمه، ولا يرده خائباً، وإذا أراد أصحابه منه أمراً وافقهم عليه، وتابعهم فيه إذا لم يكن ثمة محذور فيه، وإن عزم على أمر لم يستبد به دونهم، بل يشاورهم ويؤامرهم، يقبل من محسنهم، ويعفو عن مسيئهم، ولم يكن يعاشر جليساً له إلا أتم عشرة وأحسنها، فكان لا يعبس في وجهه، ولا يغلظ عليه في مقاله، ولا يطوي عنه بِشْرَهُ، ولا يمسك عليه فلتات لسانه، ولا يؤاخذه بما يصدر منه من جفوة، بل يحسن إلى عشيره غاية الإحسان، ويحتمله غاية الاحتمال صلى الله عليه وسلم (2).

ومن مكارم الأخلاق التي كان يدعو إليها النبي صلى الله عليه وسلم إعطاء الطريق حقه، فقد جاء نهى النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه عن الجلوس في الطرقات، فأعلموه أنه لا بد لهم من الجلوس لبعض حاجاتهم، فسمح لهم بالجلوس فيها لكن وفق شروط تسمى (حق الطريق) فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إياكم والجلوس في الطرقات، قالوا: يا رسول الله ما لنا بد من مجالسنا نتحدث فيها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فإذا أبيتم إلا المجلس فأعطوا الطريق حقه، قالوا: وما حقه؟ قال: غض البصر، وكف الأذى، ورد السلام، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر» (رواه البخاري: 2333، ومسلم: 114)، واللفظ له.

وبيَّن ابن حجر رحمه الله روايات أخرى فيها حقوق للطريق ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم يقول رحمه الله: "في حديث أبي طلحة الأولى والثانية وزاد: «وحسن الكلام» (رواه مسلم: 2161)، وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه الأولى والثالثة، وزاد «وإرشاد ابن السبيل، وتشميت العاطس» (3)، إذا حَمِد الله، وفي حديث عمر عند أبي داود، وكذا في مرسل يحيى بن يعمر من الزيادة: «وتغيثوا الملهوف، وتهدوا الضال» (4)، وهو عند البزار بلفظ: «وإرشاد الضال» (5)، وفي حديث البراء عند أحمد والترمذي: «اهدوا السبيل، وأعينوا المظلوم، وأفشوا السلام» (6)، وفي حديث ابن عباس عند البزار من الزيادة: «وأعينوا على الحمولة»، وفي حديث سهل بن حنيف عند الطبراني من الزيادة: «ذكر الله كثيراً» (7)، وفي حديث وحشي بن حرب عند الطبراني من الزيادة: «واهدوا الأغبياء، وأعينوا المظلوم»، ومجموع ما في هذه الأحاديث الثمانية: أربعة عشر أدباً، وقد نظمتها في ثلاثة أبيات هي:
 

جمعت آداب من رام الجلوس على *** الطريق من قول خير الخلق إنسانا
افشِ السلام وأحسِن في الكلام *** وشمت عاطساً وسلاماً رد إحسانا
في الحمل عاون ومظلوماً أعن *** وأغث لهفان اهد سبيلاً واهد حيرانا
بالعرف مُر وانهَ عن نكرٍ وكُف أذى وغض طرفاً وأكثر ذكر مولانا(9)


يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إياكم والجلوس...» وهذا فيه تحذير يشير إلى خطورة المحذر منه وهو الجلوس في الطرقات، فيا ترى ما وجه الخطورة في ذلك؟

يقول الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: "هذه الصيغة صيغة تحذير يعني أحذركم من الجلوس على الطرقات، وذلك لأن الجلوس على الطرقات يؤدي إلى كشف عورات الناس الذاهب والراجع، وإلى النظر فيما يحملونه من الأغراض التي قد تكون خاصة مما لا يحبون أن يطلع عليها أحد، وربما يفضى أيضاً إلى الكلام والغيبة فيمن يمر إذا مرَّ من عند هؤلاء الجالسين أحد أخذوا يتكلمون في عرضه؛ المهم أن الجلوس على الطرقات يؤدي إلى مفاسد" (10).

ومن رحمة النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه أنه لم يشدد عليهم فيما نهاهم عنه، بل قدَّر ما قدموه من عذر، وسمح لهم بالجلوس في الطرقات؛ لكن مع التنبيه على أمور مهمة مخالفتها تعني منع الجلوس في الطرقات، ومن هذه الأمور غض البصر الذي هو بوابة القلب.

قال الإمام ابن القيم رحمه الله: "والنظر أصل عامة الحوادث التي تصيب الإنسان؛ فإن النظرة تولد خطرة، ثم تولد الخطرة فكرة، ثم تولد الفكرة شهوة، ثم تولد الشهوة إرادة، ثم تقوى فتصير عزيمة جازمة، فيقع الفعل ولا بد؛ ما لم يمنع منه مانع، وفي هذا قيل: الصبر على غض البصر أيسر من الصبر على ألم ما بعده"، ولهذا قال الشاعر:
 

كل الحوادث مبدأها من النظر *** ومعظم النار من مستصغر الشرر
كم نظرة بلغت في قلب صاحبها *** كمبلغ السهم بين القوس والوتر
والعبد ما دام ذا طرف يقلبه في *** أعين الغيد موقوف على الخطر
يسر مقلته ما ضر مهجته *** لا مرحباً بسرور عاد بالضرر


ومن آفاته أنه يورث الحسرات والزفرات والحرقات، فيرى العبد ما ليس قادراً عليه، ولا صابرًا عنه، وهذا من أعظم العذاب أن ترى ما لا صبر لك عنه، ولا عن بعضه، ولا قدرة لك عليه، قال الشاعر:
 

وكنت متى أرسلت طرفك رائداً *** لقلبـك يوماً أتعبتك المناظر
رأيت الذي لا كله أنت قادر *** عليه ولا عن بعضه أنت صابر


ومراده أنك ترى ما لا تصبر عن شيء منه لا تقدر عليه، فإن قوله: "لا كله أنت قادر عليه"، نفي لقدرته على الكل الذي لا ينتفي إلا بنفي القدرة عن كل واحد واحد، وكم من أرسل لحظاته فما أقلعت إلا وهو يتشحط بينهن قتيلاً كما قيل:
 

يا ناظراً ما أقلعت لحظـاته *** حتى تشحط بينهن قتيلاً(11)



ألا ما أجمله من كلام لو تدبره الإنسان لما نظر إلى ما يورثه الحسرة والندامة، ولسار بغضِ بصره حتى يصل إلى بر السلامة.

ومن جملة ما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم ما يكثر حصوله في الطرقات: كف الأذى. يقول ابن عثيمين رحمه الله: "أي كف الأذى القولي والفعلي؛ أما الأذى القولي: فبأن يتكلموا على الإنسان إذا مرَّ أو تحدثوا فيه بعد ذلك بالغيبة والنميمة، والأذى الفعلي بأن يضايقوه في الطريق بحيث يملأون الطريق حتى يؤذوا المارة، ولا يحصل المرور إلا بتعب ومشقة" (12).

ومن الإيذاء القولي ما يُسمع من بعض الجالسين أثناء مرور الناس من السخرية، والمنكر من الأصوات، وقد يكون ذلك على سبيل المزاح، وهو في الحقيقة مزاح فيما لا يجوز المزاح فيه: كالسخرية بالخِلْقَة، أو بسنة نبوية، أو فعل شرعي؛ فلينتبه لهذا، وقد يوجد من الإيذاء في الطرق الضيقة التي تمتلئ جنباتها بالجالسين، والحرج كل الحرج على المرأة إذا أرادت المرور، فكل هذا من الإيذاء الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم، وهو مما كثر في هذه الأيام والله المستعان.

وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم كفُّ الأذى من الصدقات التي يحتسبها المسلم عند ربه فقد جاء عن أبي ذر رضي الله عنه قال: «سألت النبي صلى الله عليه وسلم: أي العمل أفضل؟ قال: إيمان بالله، وجهاد في سبيله، قلت: فأي الرقاب أفضل؟ قال: أغلاها ثمناً، وأنفسها عند أهلها، قلت: فإن لم أفعل؟ قال: تعين صانعاً، أو تصنع لأخرق، قال: فإن لم أفعل؟ قال: تدع الناس من الشر فإنها صدقة تصدق بها على نفسك» (رواه البخاري: 2382، ومسلم: 136).

ومن حياة الطرق، وبعث روح الإسلام في أجوائها: رد السلام. قال ابن باز رحمه الله: "كذلك رد السلام، كثير من الناس يتكبر ولا يبالي بالسلام، ويعرض عمن سلم عليه لا يبدأ ولا يرد، وهذا من ضعف الإيمان قال عليه الصلاة والسلام: «والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنون حتى تحابوا، ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم»" (صحيح مسلم: 93). 

فإفشاء السلام من أسباب المحبة في الله، ومن أسباب قوة الإيمان، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا» -أي: الإيمان الكامل- «حتى تحابوا» -أي: حتى تحابوا في الله- «أفلا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم»، وسُئل عليه الصلاة والسلام قيل: «يا رسول الله أي الإسلام أفضل؟ قال: أن تطعم الطعام، وتقرئ السلام على من عرفت ومن لم تعرف» (رواه البخاري: 12، ومسلم: 63).

وقال عليه الصلاة والسلام لما قدم المدينة: «أيها الناس أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصِلوا الأرحام، وصَلوا بالليل والناس نيام؛ تدخلوا الجنة بسلام» (13)، وكثير من الناس إنما يسلم على من يعرف من أصحابه، أما من لا يعرف من المسلمين فلا يبالي، فلا يبدأ بالسلام، ولا يرد السلام، وهذا لا شك من الجهل، ومن ضعف الإيمان، ومن قلة الآداب الشرعية" (14).

ورد السلام واجب كما جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خمس تجب للمسلم على أخيه: رد السلام، وتشميت العاطس، وإجابة الدعوة، وعيادة المريض، واتباع الجنائز» (رواه البخاري: 1/418، ومسلم: 4/1704) واللفظ له.

ويذكر الإمام النووي رحمه الله بعض اللطائف في السلام؛ ومنها: "إذا رد السلام شخص واحد من جماعة جالسين فما الحكم؟" يقول رحمه الله وهو يتكلم عن رد السلام: "أما رد السلام فإن كان المسلَّم عليه واحداً تعين عليه الرد، وإن كانوا جماعة كان رد السلام فرض كفاية عليهم، فإن ردَّ واحد منهم سقط الحرج عن الباقين، وإن تركوه كلهم أثموا كلهم، وإن ردُّوا كلهم فهو النهاية ?ي الكمال والفضيلة كذا قاله أصحابنا، وهو ظاهر حسن، واتفق أصحابنا على أنه لو ردَّ غيرهم لم يسقط عنهم الرد، بل يجب عليهم أن يردُّوا، فإن اقتصروا على رد ذلك الأجنبي أثموا" (15).

ويقول أيضاً وهو يذكر أن السلام قد لا يذكر ولا يرد فمن ذلك وضع المرأة من السلام ابتداءً وجواباً يقول: "...وإن كانت أجنبيةً فإن كانت جميلةً يُخاف الافتتان بها لم يُسَلِّم الرجل عليها، ولو سلَّمَ لم يجز لها ردّ الجواب، ولم تسلّم هي عليه ابتداءً؛ فإن سلَّمتْ لم تستحق جواباً، فإن أجابها كُره له، وإن كانت عجوزاً لا يفتتن بها جاز أن تسلِّم على الرجل، وعلى الرجل ردّ السلام عليها، وإذا كانت النساء جمعاً؛ فيُسلِّم عليهنَّ الرجل، أو كان الرجالُ جمعاً كثيراً فسلَّموا على المرأة الواحدة جاز إذا لم يخف عليه ولا عليهنّ، ولا عليها أو عليهم فتنة" (16).

ومن الأمور المهمات التي تعطي الشارع الأمن والأمان، وتبث فيه معالم الإسلام، وهي من أجل مظاهر الإسلام: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فلكم اندحر صاحب باطل عندما أُنكر عليه، ولكم تعلم جاهل عندما أمر بالمعروف، ولكم أمن الناس على أنفسهم وأموالهم بسبب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكلما قلَّ العمل بهذه الشعيرة؛ كثر الفساد، وانتشر الشر في البلاد، فكان من أهم الأمور المشترطة عند إرادة الجلوس في الطرقات: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

يقول الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: "رابعاً: الأمر بالمعروف، فالمعروف: هو كل ما أمر الله تعالى به، أو أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإنك تأمر به، فإذا رأيتم أحداً مقصراً سواء كان من المارين أو من غيرهم فأمروه بالمعروف، وحثوه على الخير، وزينوه له، ورغبوه فيه، خامساً: النهي عن المنكر، فإذا رأيتم أحداً مرَّ وهو يفعل المنكر مثل أن يمر وهو يشرب الدخان، أو ما أشبه ذلك من المنكرات؛ فانهوه عن ذلك، فهذا حق الطريق، ففي هذا الحديث يحذر النبي المسلمين من الجلوس على الطرقات، فإن كان لا بد من ذلك فإنه يجب أن يعطي الطريق حقه، وحق الطريق خمسة أمور بينها النبي عليه الصلاة والسلام: وهي غض البصر، وكف الأذى، ورد السلام، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، هذه حقوق الطريق لمن كان جالساً فيه كما بينها النبي صلى الله عليه وسلم" (17).

ويذكر الشيخ سليمان بن عبد الرحمن الحقيل أهم الشروط في النهي عن المنكر فيقول: "أما النهي عن المنكر وتغييره فله شروط خاصة يجب توفرها لوجوب النهي أو التغيير، وهذه الشروط هي: 1- وجود منكر، والمنكر كل معصية حرمتها الشريعة الإسلامية، وهو كل ما كان محذور الوقوع في الشرع، ويستوي أن يكون فاعل المنكر مكلفاً أو غير مكلف، فمن رأى صبياً أو مجنوناً يشرب الخمر فعليه ?ن ينكر عليه، وكذا إن رأى مجنوناً يزني بمجنونة، أو يأتي بهيمة؛ فعليه أن يمنعه.

2- أن يكون المنكر موجوداً في الحال: بمعنى أن تكون المعصية راهنة، وصاحبها مباشراً لها وقت النهي أو التغيير؛ كشرب الخمر، وخلوته بأجنبية، فإذا فرغ من المعصية فليس ثمة مكان للنهي عن المنكر أو تغييره، وإنما هناك محل عقاب على المعصية، والعقاب من حق السلطات العامة وليس للأفراد"، وقد أشار الإمام الغزالي إلى هذا الحكم بقوله: "المعصية لها ثلاثة أحوال: إحداها: أن تكون متصرمة، فالعقوبة على ما تصرم منها حد، أو تعزير، وهو إلى الولاة لا إلى الآحاد. الثانية: أن تكون المعصية راهنة، وصاحبها مباشر لها؛ كلبسه الحرير، وإمساكه العود والخمر، فإبطال هذه المعصية واجب بكل ما يمكن ما لم تؤد إلى معصية أفحش منها، أو مثلها، وذلك يثبت للآحاد والرعية. الثالثة: أن يكون المنكر متوقعاً؛ كالذي يستعد بكنس المجلس وتزيينه، وجمع الرياحين؛ لشرب الخمر، وبعده لم يحضر الخمر؛ فهذا مشكوك فيه إذ ربما يعوق عنه عائق فلا يثبت للآحاد سلطنة على العازم على الشرب إلا بطريق الوعظ والنصح، فأما بالتعنيف والضرب فلا يجوز للآحاد، ولا للسلطان؛ إلا إذا كانت تلك المعصية علمت منه بالعادة المستمرة، وقد أقدم على السبب المؤدي إليها، ولم يبق لحصول المعصية إلا ما ليس له فيه إلا الانتظار" (18).

3- أن يكون ظاهراً، فلو كان مستتراً فلا يجوز التجسس عليه؛ لأن الله حرَّم التجسس قال تعالى: {وَلَا تَجَسَّسُوا} [الحجرات: 12]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الأمير إذا ابتغى الريبة في الناس أفسدهم» (19)، وفي رواية أخرى: «إنك إن اتبعت عورات الناس أفسدتهم» (20)، وقيل لعبد الله بن مسعود: "إن فلاناً تقطر لحيته خمراً"، فقال: "إنا قد نهينا عن التجسس، ولكن إن يظهر لنا شيء نأخذ به" (21)، (22).

ومن كل ما ذكرنا نعلم نعمة الله علينا بهذا الدين العظيم الذي رضيه لنا ديناً، وأكمله وأتمه: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً} [المائدة: 3]، الدين الحنيف الذي أهله على محاسن الأفعال، ومكارم الأخلاق، بل ورتب على ذلك أعلى الدرجات، وأجلَّ المقامات فأعطى للطريق حقها، وأعطى كل شيء حقه.

ولو تأملنا وأعدنا النظر لوجدنا كل هذه الآداب التي سبق ذكرها في الطريق فقط، وهو مكان ممر الناس وعبورهم، وذهابهم وإيابهم، فكيف بآداب المساجد والمنازل وحِلق العلم، وحقوق الوالدين، وحقوق الأقارب والأصحاب. وبهذه الآداب تزكو الأمة وتصلح:
 

بالدين يسمو المرء للعليـاء *** وينال ما يرجو من النعماء

فلا طعم للحياة بلا إيمان ودين يربي ويزكي:

إذا الإيمان ضاع فلا أمـان *** ولا دنيا لمن لم يحي دينا
ومن رضي الحياة بغيـر دين *** فقد جعل الفناء لها قرينا


فالله الله في التمسك بهذا الدين، والعمل بما فيه، والاعتزاز بمحاسنه، والثبات على مبادئه.
اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق والأفعال فإنه لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئها فإنه لا يصرف عنا سيئها إلا أنت، اللهم اهدنا وسددنا، وألهمنا رشدنا، وقنا شر أنفسنا، وصل اللهم على محمد وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه إلى يوم الدين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) مسند الأمام أحمد (24645)، وصححه الأرناؤوط وآخرون في تحقيق المسند، مسند الإمام أحمد بن حنبل (41/148)، لأبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد الشيباني، المحقق: شعيب الأرنؤوط وعادل مرشد وآخرون، إشراف: د عبد الله بن عبد المحسن التركي، مؤسسة الرسالة، ط. الأولى، 1421 هـ - 2001م.

(2) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان (1/ 878) لعبد الرحمن بن ناصر بن السعدي، تحقيق: عبد الرحمن بن معلا اللويحق، مؤسسة الرسالة، ط. الأولى 1420هـ -2000م.

(3) صحيح ابن حبان بترتيب ابن بلبان (2/357)، مؤسسة الرسالة- بيروت، ط. الثانية 1414هـ- 1993م، تحقيق: شعيب الأرناؤوط، وقال الأرناؤوط: إسناده قوي على شرط مسلم.

(4) سنن أبي داوود (4817)، وقال الألباني: صحيح، انظر سنن أبي داود (2/672)، دار الفكر، تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد.
(5) مسند البزار (البحر الزخار) (1/472) لأبي بكر أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار، تحقيق د. محفوظ الرحمن زين الله، مؤسسة علوم القرآن ومكتبة العلوم والحكم 1409، بيروت- المدينة.

(6) مسند أحمد (17752) بلفظ: «إن كنتم لا بد فاعلين فأفشوا السلام، وأعينوا المظلوم، واهدوا السبيل».

(7) المعجم الكبير (5592) للطبراني، مكتبة الزهراء - الموصل 1404هـ- 1983م، ط. الثانية، تحقيق: حمدي بن عبدالمجيد السلفي.

(8) تم عزو ما وجد من الأحاديث مع ذكر الحكم إن وجد.

(9) فتح الباري شرح صحيح البخاري (11/11) لابن حجر العسقلاني، دار المعرفة - بيروت، تحقيق: محب الدين الخطيب.

(10) شرح رياض الصالحين لابن عثيمين (1/528) لمحمد بن صالح العثيمين، تحقيق: د. محمد محمد تامر، المكتبة الإسلامية بالقاهرة، ط. الأولى، 1423هـ - 2002م.

(11) الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي (الداء والدواء) (1/106) لابن القيم، دار الكتب العلمية ? بيروت.

(12) شرح رياض الصالحين لابن عثيمين (1/528).
(13) سنن ابن ماجة (3251)، ومسند أحمد (23835)، وسنن الدارمي (1460)، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (7865).

(14) دروس للشيخ عبد العزيز بن باز (12/7)، دروس صوتية قام بتفريغها موقع الشبكة الإسلامية: (http://www.islamweb.net)، (رقم الجزء هو رقم الدرس- 17 درساً).
(15) الأذكار المنتخبة من كلام سيد الأبرار (1/194) للإمام النووي، دار الكتب العربي - بيروت 1404هـ - 1984م.

(16) الأذكار المنتخبة من كلام سيد الأبرار (1/199).
(17) شرح رياض الصالحين لابن عثيمين (1/582-529).

(18) إحياء علوم الدين (2/324) لمحمد بن محمد الغزالي أبو حامد، دار االمعرفة - بيروت.
(19) رواه أبو داود (4889)، وقال الألباني: صحيح لغيره، انظر صحيح الترغيب والترهيب (2/293)، مكتبة المعارف - الرياض، ط. الخامسة.

(20) رواه أبو داود (4888)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (2/293).
(21) رواه أبو داود (4890)، وقال الألباني: إسناده صحيح، انظر صحيح أبي داود برقم (4890).
(22) الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في ضوء كتاب الله (1/68-69).

 

منقول من منتدى موقع التبيان الإسلامي

المصدر: موقع المنبر