صورة من أدب العلم منسية

منذ 2014-08-14

لم يكن الأشياخ من سلف هذه الأمّة يَستنكِفُون أن يتعلموا من الشباب ما جهلوا، ولا يزرون عليهم لصغر سنّهم، إذ الفضل بيد اللّه يؤتيه من يشاء، لا مانع لما أَعطَى الله من صبيّ أو غيره، ولا مُعطِي لما منع الله من كبير أو غيره.


من أظهر أخلاق العلم وآدابه: التواضع، ولين الجانب، والاعتراف بالفضل لأهله، وهو ما يدعو صاحبه إلى الاستفادة من الكبير والصغير، والعامّة والخاصّة، دون أَنَفةٍ أو تمييز، والحرص على الاستزادة من العلم في جميع الظروف والأحوال، تحقيقاً لقول الله تعالى: {وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه:114].

وقد بيّن لنا القرآن الكريم كيف حرص موسى عليه السلام وهو نبيّ من أُولِي العزْم على صحبة العبد الصالح، الذي أخبره الله أنّه أعلم منه ليستزيد من العلم...

وعندما يقول لنا النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «الكَلِمَةُ الحِكْمَةُ ضَالَّةُ المُؤْمِنِ، حَيْثُمَا وَجَدَهَا فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا» [1]؛
فهذا يعني ألاّ يصدّ المؤمن عنها شيء، من كبر سنّ، أو علوّ جاه، أو أيّ اعتبار يحول بين الإنسان وبين الاستزادة من العلم.

قال الطيبي: "«ضالّة المؤمن» أي مطلوبه، فلا يزال يطلبها كما يتطلّب الرجل ضالّته، «فحيث وجدها فهو أحقّ بها» أي بالعمل بها واتّباعها، يعني أنّ كلمة الحكمة ربّما نطق بها من ليس لها بأهل، ثمّ رجعت إلى أهلها فهو أحقّ بها، كما أنّ صاحب الضالّة لا ينظر إلى خساسة من وجدها عنده".


ووُجِد رجل يكتب عن مُخنّث شيئاً فعُوتِب فقال: "الجوهرة النفيسة لا يشينها سخافة غائصها ودناءة بائعها". وقال بعضهم: "الحكمة هنا كلّ كلمة وعظتك، أو زجرتك، أو دعتك إلى مَكرُمةٍ، أو نهَتك عن قبيحة" [2].

وقال الماورديّ في تعليقه على هذا الحديث: "ليأخذ الطالب حظّه ممّن وجد طلبته عنده من نبيه وخامل، ولا يطلب الصِّيت وحسن الذكر باتّباع أهل المنازل من العلماء-إذا كان النفع بغيرهم أعمّ ، إلاّ أن يستوي النفعان فيكون الأخذ عمّن اشْتُهِر ذكرُه وارتفع قدره أولى لأنّ الانتساب إليه أجمل، والأخذ عنه أشهر، وإذا قَرُب منك العلم فلا تطلب ما بَعُد، وإذا سَهُل لك من وجه فلا تطلب ما صَعُب، وإذا حمدت من خبرته فلا تطلب من لم تَخبُرْه، فإنّ العُدول عن القريب إلى البعيد عناء، وترك الأسهل بالأصعب بلاء، والانتقام عن المخبور إلى غيره خطر، قال علي رضي الله عنه: "عُقبى الأخرق مضرّة، والمتعسّف لا تدوم له مسرّة"، وقال الحكماء: "القصد أسهل من التعسّف، والكفاف أورع من التكلّف" [3].

وهذا الخليفة الراشد عُمَرُ رضي الله عنه يُدخِل ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما مَعَ أَشْيَاخِ بَدْرٍ، لما رأى فيه من النجابة، والعلم والفهم، ولم تَحُل حداثة سنّ ابْنِ عَبَّاسٍ دون ذلك.

عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: "كَانَ عُمَرُ رضي الله عنه يُدْخِلُنِي مَعَ أَشْيَاخِ بَدْرٍ فَكَأَنَّ بَعْضَهُمْ وَجَدَ فِي نَفْسِهِ فَقَالَ : لِمَ تُدْخِلُ هَذَا مَعَنَا وَلَنَا أَبْنَاءٌ مِثْلُهُ فَقَالَ عُمَرُ: إِنَّهُ مِنْ حَيْثُ عَلِمْتُمْ فَدَعَا ذَاتَ يَوْمٍ فَأَدْخَلَهُ مَعَهُمْ فَمَا رُئِيتُ أَنَّهُ دَعَانِي يَوْمَئِذٍ إِلاَّ لِيُرِيَهُمْ قَالَ: مَا تَقُولُونَ فِي قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالفَتْحُ} [النَّصر:1]، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: أُمِرْنَا نَحْمَدُ الله وَنَسْتَغْفِرُهُ إِذَا نُصِرْنَا وَفُتِحَ عَلَيْنَا وَسَكَتَ بَعْضُهُمْ فَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا فَقَالَ لِي: أَكَذَاكَ تَقُولُ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ فَقُلْتُ: لاَ، قَالَ: فَمَا تَقُولُ قُلْتُ: هُوَ أَجَلُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَعْلَمَهُ لَهُ قَالَ: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالفَتْحُ}، وَذَلِكَ عَلاَمَةُ أَجَلِكَ: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ ?َوَّابًا} [النَّصر:3]، فَقَالَ عُمَرُ: مَا أَعْلَمُ مِنْهَا إِلاّ مَا تَقُولُ" [4].

وهكذا كانت سيرة العلماء في طلب العلم وآدابهم من سلف هذه الأمّة... فلم يكن الأشياخ من سلف هذه الأمّة يَستنكِفُون أن يتعلموا من الشباب ما جهلوا، ولا يزرون عليهم لصغر سنّهم، إذ الفضل بيد اللّه يؤتيه من يشاء، لا مانع لما أَعطَى الله من صبيّ أو غيره، ولا مُعطِي لما منع الله من كبير أو غيره.

قال أبو أيوب السجستاني: إني أدركت الشيخ ابن ثمانين سنة يتبعُ الغلام يتعلّم منه، فيقال له تتعلم من هذا؟ فيقول: نعم ؛ أنا عبده ما دمت أتعلّم منه.

وقال عليّ بن الحسن: من سبق إليه العلم فهو إمامك فيه، وإن كان أصغر سنًّا منك.
وقيل لأبي عَمرو بن العلاء: أيَحسُن للشيخ الكبير أن يتعلّم من الصغير؟ فقال: إن كانت الحياة تحسن به، فإن التعلّم يحسن، فإنّه يحتاج إلى العلم ما دام حيًّا.

وقال يحيى بن معين لأحمد بن حنبل وقد رآه يمشي خلف بغلة الشافعيّ رضي الله تعالى عنه: يا أبا عبد الله تترك حديث سفيان بعلوّ، وتمشي خلف بغلة هذا الفتى، وتسمع منه؟ فقال أحمد: لو عرفت منه ما أعرف لكنت تمشي من الجانب الآخر، إنّ علم سفيان إن فاتني بعلوّ أدركته بنزول، وإن عقل هذا الشاب إن فاتني لم أدركه بعلوّ ولا نزول.

وقال أبو بكر بن الجلاء رحمه الله: "إني لأرى الصبيّ يعمل الشيء فأستحسنه، فأقتدي به، فيكون إِمَامي فيه" [5]. فما أَحسَنَ هذا التواضع! ومَا أرفعَ قدرَ صاحبهِ!

وقد أصبَحنا في زمن فُقِدَت فيه خَلائقُ العلم وَالعلماء، وغابت آداب العلم عن كثير من طلاّبه، إلاّ من رحم ربّي، وأهمُّها: التواضعُ والاعترافُ بالفضل لأهله، فربّما فاقَ التلميذُ أستاذَه، وكذلك الولد والده، وبزَّه في علم أو أكثر بمرَاحلَ وأشواط، ولكنَّ أستاذَه أو والده لا يزال يذكره تلميذًا، أو طفلًا كما كان بالأمس، ويذكّره بذلك كلّما التقاه، ولا يقرّ له بفضل أو سَبْق، وربّما أظهر له الترفّع عليه، بلهَ أن يتعلّم منه، وهذا ممّا يحرم منْ بركة العلمِ، ويدلّ على ضعف الإخلاص.

---------------------------------------------------------
[1]رواه الترمذيّ (10/209) وقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ لاَ نَعْرِفُهُ إِلاَّ مِنْ هَذَا الوَجْهِ، وابن ماجة (5/269) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه.
[2]فيض القدير شرح الجامع الصغير (5 / 83).
[3]فيض القدير شرح الجامع الصغير (2 / 692) باختصار يسير.
[4]صحيح البخاري (6 /221).
[5]قوت القلوب (2 /83).

 

عبد المجيد البيانوني