براءة السلف من جناية التأويل الفاسد
"أما لفظ التأويل إذا أريد به صرف اللفظ عن ظاهره إلى ما يخالف ذلك لدليل يقترن به، فلم يكن السلف يريدون بلفظ التأويل هذا، ولا هو معنى التأويل في كتاب الله عز وجل"
تدور معاني التأويل في اللغة على معنى العود والرجوع والتصيير، والتأويل مصدر على وزن (تفعيل)، من آل يئول إلى كذا إذا صار إليه، يقول ابن منظور: "الأَوْلُ الرجوع، آل الشيءُ يَؤُول أَولاً ومآلاً رَجَع، وأَوَّل إِليه الشيءَ: رَجَعَه، وأُلْتُ عن الشيء: ارتددت" (لسان العرب لابن منظور، مادة: أول).
قال الراغب رحمه الله: التأويل من الأوْل؛ أي الرجوع إلى الأصل، ومنه الموئل للموضع الذي يرجع إليه، وذلك هو رد الشيء إلى الغاية المرادة منه، علماً كان أو فعلاً (المفردات في غريب القرآن للراغب الأصفهاني: ص:31).
والتأويل في الاصطلاح له ثلاثة معان، أولهما: أنه بمعنى التفسير والبيان: أي بيان المراد من الكلام، وجاء بهذا المعنى قوله صلى الله عليه وسلم في ابن عباس: « » (أخرجه البخاري صحيحه- كتاب (الوضوء)، باب (ما يقول عند الخلاء): [1/66/143]؛ ومسلم في صحيحه- كتاب (فضائل الصحابة)- باب (فضائل عبد الله بن عباس): [4/1927/2477]).
وكثر استعمال هذا اللفظ في كلام المفسرين الأوائل، أمثال الطبري رحمه الله، فنجده كثيراً ما يكرر عبارة: "تأويل قوله تعالى"، أو: "قال أهل التأويل".
وكان مجاهد، إمام أهل التفسير يقول: "إن الراسخين في العلم يعلمون التأويل أي التفسير" (درء تعارض العقل والنقل لابن تيمية: [5/381]).
أما المعنى الثاني فهو حقيقة ما يؤول إليه الكلام، أي عاقبته ومآله، كما قال تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاء فَيَشْفَعُواْ لَنَا} [الأعراف:53].
وأما المعنى الثالث للتأويل فهو صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح (مجموع الفتاوى لابن تيمية: [17/401])، أو هو صرف اللفظ عن ظاهره المتبادر منه إلى محتمل مرجوح بدليل يدل على ذلك (ينظر: تفسير أضواء البيان للشنقيطي: [1/190]).
والتأويل بهذا المعنى إنما شاع في عرف المتكلمين، ولم يكن يعرف بهذا الفهم إلا بعد ظهور الفرق واختلاف الأمة، يقول ابن تيمية رحمه الله: "فهذا الاصطلاح لم يكن بعد عرف في عهد الصحابة، بل ولا التابعين، بل ولا الأئمة الأربعة، ولا كان التكلم بهذا الاصطلاح معروفًا في القرون الثلاثة، بل ولا علمت أحدًا منهم خص لفظ التأويل بهذا، ولكن لما صار تخصيص لفظ التأويل بهذا شائعاً في عرف كثير من المتأخرين فظنوا أن التأويل في الآية هذا معناه صاروا يعتقدون أن لمتشابه القرآن معاني تخالف ما يفهم منه، وفرقوا دينهم بعد ذلك وصاروا شيعًا" (الفتاوى لابن تيمية: [17/401]).
ويقول ابن القيم رحمه الله: "أما لفظ التأويل إذا أريد به صرف اللفظ عن ظاهره إلى ما يخالف ذلك لدليل يقترن به، فلم يكن السلف يريدون بلفظ التأويل هذا، ولا هو معنى التأويل في كتاب الله عز وجل" (دقائق التفسير لابن القيم: [1/330]).
وعلى الفهم الأخير لكلمة التأويل قُسِّمَ عند أهل الأصول إلى ثلاثة أقسام، أولها: أن يكون صرف اللفظ عن ظاهره بدليل صحيح في نفس الأمر يدل على ذلك، وهذا هو التأويل المسمى عندهم بالتأويل الصحيح والتأويل القريب، وثانيها: أن يكون صرف اللفظ عن ظاهره لأمر يظنه الصارف دليلاً وليس بدليل في نفس الأمر، وهذا هو المسمى عندهم بالتأويل الفاسد والتأويل البعيد، وثالث هذه الأقسام: أن يكون صرف اللفظ عن ظاهره لا لدليل أصلاً، وهذا يسمى في اصطلاح الأصوليين لعباً؛ كقول بعض الشيعة: {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً} [البقرة من الآية:67] يعني عائشة رضي الله عنها (ينظر: تفسير أضواء البيان للشنقيطي: [1/190-191]).
وغالباً ما يذكر لفظ "التأويل" في باب العقائد مقترناً بصفات الله عز وجل حيث قامت بعض الفرق بتأويل الصفات، بمعنى أنها صرفت الصفات إلى غير مرادها الحقيقي إلى معنى مجازي، وذلك كفعل الأشاعرة، فأولوا اليد بالقدرة، والوجه بالثواب والذات، والاستواء بالاستيلاء.
أما أهل السنة فإنهم يؤمنون بما وصف الله به نفسه في كتابه، وبما وصفه به رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، ويثبتون الصفة على حقيقتها، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل.
وهنا أمر يجب التنبيه عليه وهو أن السلف رضوان الله عليهم قد "يختلفون فيما بينهم حول دلالة نص معين على الصفة، هل يفيد الصفة أم لا؟ هل هذه الآية من آيات الصفات أم لا؟ فيرى بعضهم أن هذا النص لا يثبت الصفة لله سبحانه وتعالى فلا يعتبرها من آيات الصفات، ويأخذ في تفسيرها بحسب ما تتضمنه من معنى، وبحسب السياق، بينما يعتبرها آخرون من آيات الصفات، ويثبت بها الصفة لله سبحانه وتعالى ويتعامل مع هذا النص بمقتضى ما يتعامل به مع نصوص الصفات؛ من إمرارها على ظاهرها، والكف عن تفسيرها بما يخالف معناها الظاهر، وعدم الخوض في كيفيتها... فيأتي المخالف إلى كلام من لا يعتبر هذا النص من نصوص الصفات، ويزعم أنه يؤوله، ويفسره إلى معنى مخالف، ويقول: انظر؛ إن العالم السلفي الفلاني يؤول الصفات، وهذا خطأ منه وعدم تحقيق!"(تنبيهات وقواعد في فهم كلام السلف في مسائل الصفات- عادل باشا هاشم- ملتقى أهل الحديث).
ولنضرب على ذلك مثالاً بما ذُكر في صفة (الساق)، فقد اختلف الصحابة رضوان الله عليهم في تفسير (الساق) في قوله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلاَ يَسْتَطِيعُون} [القلم:42]، فبعضهم اعتبر الآية آية صفات، وأثبت من خلالها الصفة، والبعض الآخر لم يعتبرها آية صفات، وفسرها بما يتفق مع أساليب اللغة، كابن عباس رضي الله عنهما حيث قال في تفسير (الساق) في الآية الكريمة: "هو يوم القيامة، يوم كرب وشدة" (تفسير الطبري: [29/38])، وفي رواية: عن أمر عظيم، كقول الشاعر: وقامت الحرب عن ساق (تفسير الطبري: [29/40]). وابن عباس بتفسيره هذا لم يؤول الصفة كما يعتقد البعض، وإنما فسر الآية، بما يتفق مع أساليب العرب، والآية عنده على هذا الاعتبار ليست آية صفات، وهذا لا ينفي إثبات الصفة استناداً لحديث الشفاعة الطويل الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: « » (أخرجه البخاري في صحيحه- كتاب (التوحيد)- باب (وجوه يومئذ ناضرة): [6/2706/7001]؛ ومسلم كتاب (الإيمان)- باب (إثبات رؤية المؤمنين في الآخرة ربهم سبحانه وتعالى): [1/168/183]).
قال ابن القيم: "والصحابة متنازعون في تفسير الآية، هل المراد الكشف عن الشدة؟ أو المراد بها أن الرب تعالى يكشف عن ساقه، ولا يحفظ عن الصحابة والتابعين نزاع فيما يذكر أنه من الصفات أم لا في غير هذا الموضع، وليس في ظاهر القرآن ما يدل على أن ذلك صفة لله، لأنه سبحانه لم يضف الساق إليه، وإنما ذكره مجرداً عن الإضافة منكراً، والذين أثبتوا ذلك صفة، كاليدين والإصبع، لم يأخذوا ذلك من ظاهر القرآن، وإنما أثبتوه بحديث أبي سعيد الخدري المتفق على صحته، وهو حديث الشفاعة الطويل، وفيه: « » (أخرجه البخاري في صحيحه- كتاب (التوحيد)- باب (وجوه يومئذ ناضرة): [6/2706/7001]؛ ومسلم كتاب (الإيمان)- باب (إثبات رؤية المؤمنين في الآخرة ربهم سبحانه وتعالى): [1/168/183])، ومن حمل الآية على ذلك قال قوله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ}، مطابق لقوله صلى الله عليه وسلم: « »، وتنكيره للتعظيم والتفخيم، كأنه قال: يكشف عن ساق عظيمة، جلت عظمتها، وتعالى شأنها، أن يكون لها نظير أو مثيل أو شبيه" (الصواعق المرسلة لابن القيم: [1/252-253]).
فأمر إثبات الصفة من عدمها، لم يحدث فيه خلاف لا بين الصحابة، ولا التابعين، ولا تابعيهم، فقد اتفق الجميع على إثبات صفة الساق لله عز وجل، على الوجه اللائق حقيقة من غير تكييف ولا تمثيل، ومن غير تحريف ولا تعطيل.
وكما قال الإمام مالك في الاستواء نقول في صفة الساق، فالساق معلومة، وكيفيتها غير معقولة، والإيمان بها واجب، والسؤال عنها بدعة.
قال الإمام الترمذي في سننه: "روي عن مالك، وسفيان بن عيينة، وعبد الله بن المبارك، أنهم قالوا في هذه الأحاديث -يقصد أحاديث الصفات- أمروها بلا كيف، وهكذا قول أهل العلم من أهل السنة والجماعة، وأما الجهمية فأنكرت هذه الروايات، وقالوا هذا تشبيه، وقد ذكر الله عز وجل في غير موضع من كتابه اليد والسمع والبصر، فتأولت الجهمية هذه الآيات ففسروها على غير ما فسر أهل العلم، وقالوا إن الله لم يخلق آدم بيده، وقالوا إن معنى اليد ههنا القوة، وقال إسحق بن إبراهيم: إنما يكون التشبيه إذا قال: يد كيد، أو مثل يد، أو سمع كسمع، أو مثل سمع، فإذا قال: سمع كسمع، أو مثل سمع، فهذا التشبيه، وأما إذا قال: كما قال الله تعالى يد وسمع وبصر، ولا يقول كيف، ولا يقول مثل سمع، ولا كسمع، فهذا لا يكون تشبيهًا، وهو كما قال الله تعالى في كتابه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِير} [الشورى:11]" (جاء هذا الكلام أثناء تعليق الترمذي على حديث: « »، كتاب (الزكاة)، باب (ما جاء في فضل الصدقة): [3/50/662ٍ]).
والتأويل فرع عن التعطيل، لكنه أخف؛ لأن المعطل لا يقر بالنصوص، وإن أقر بها لا يقر بدلالتها، أما المؤول فأنه يقر بالنصوص، لكنه يحرف دلالتها، ورغم هذا فالنتيجة واحدة، وهي تعطيل في نهاية الأمر. وقد تلبست بالتعطيل فرق مثل الجهمية والمعتزله، أما التأويل فقد قالت به الأشاعرة، والماتريدية.
ومن الآثار السيئة للتأويل أنه يناقض ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم عن رب العزة، يقول ابن القيم: "ومن أعظم آفات التأويل وجناياته أنه إذا سلط على أصول الإيمان والإسلام اجتثها وقلعها، فإن أصول الإيمان خمسة، وهي: الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وأصول الإسلام خمسة، وهي: كلمة الشهادتين، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت، فعمد أرباب التأويل إلى أصول الإيمان والإسلام فهدموها بالتأويل، وذلك أن معقد هذه الأصول العشرة تصديق الرسول فيما أخبر، وطاعته فيما أمر، فعمدوا إلى أجل الأخبار، وهو ما أخبر به عن الله من أسمائه وصفاته ونعوت كماله، فأخرجوه عن حقيقته وما وضع له، وهذا القسم من الأخبار أشرف أنواع الخبر، والإيمان به أصل الإيمان بما عداه واشتمال القرآن، بل والكتب الإلهية عليه أكثر من اشتمالها على ما عداه، وتنوع الدلالة بها على ثبوت مخبره أعظم من تنوعها في غيره، وذلك لشرف متعلقة وعظمته وشدة الحاجة إلى معرفته" (الصواعق المرسلة لابن القيم: [2/452]).
ومن آثار التأويل الفاسد أيضاً اعتبار المؤول ظواهر نصوص الكتاب والسنة دالة على الكفر، وفي هذا سوء ظن بالله ورسوله وشرعه، "حيث يزعم بمقاله أو بحاله أن الله سبحانه أنزل على خلقه كتاباً، وخاطبهم رسوله صلى الله عليه وسلم بسنة في ألفاظها ما يضلهم ظاهره، ويوقعهم في التشبيه، والتمثيل وغيرهما من البلاوي والضلالات، فعلى مقتضى حال هؤلاء ومقالهم، كان ترك الناس بلا نصوص أنفع لهم، وأقرب إلى الصواب والهداية، فإنهم ما استفادوا بنزولها غير التعرض للضلال، ولم يستفيدوا منها يقيناً ولا علماً بما يجب لله ويمتنع عليه؛ لأن ذلك إنما يستفاد من عقول الرجال وآرائها" (جناية التأويل الفاسد على العقيدة الإسلامية، للدكتور أحمد محمد لوح: (ص:51)- دار ابن عفان- السعودية- د.ت).
وبالتأويل الفاسد هدمت اليهودية والنصرانية، وتفرقت الفرق الإسلامية، وسفكت الدماء، يقول ابن أبي العز الحنفي رحمه الله في شرحه على الطحاوية: "وهذا الذي أفسد الدنيا والدين -يقصد التأويل- وهكذا فعلت اليهود والنصارى في نصوص التوراة والإنجيل، وحذرنا الله أن نفعل مثلهم، وأبى المبطلون إلا سلوك سبيلهم، وكم جنى التأويل الفاسد على الدين وأهله من جناية، فهل قتل عثمان رضي الله عنه إلا بالتأويل الفاسد؟ وكذا ما جرى في يوم الجمل وصفين، ومقتل الحسين والحرة؟ وهل خرجت الخوارج واعتزلت المعتزلة ورفضت الروافض، وافترقت الأمة على ثلاث وسبعين فرقة إلا بالتأويل الفاسد؟!" (شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز الحنفي: ص:188).
رمضان الغنام
كاتب إسلامي مصري التحصيل العلمي: "باحث بالدكتوراه"، تخصص الدراسات الإسلامية، جامعة طنطا.
- التصنيف: