العقيلات.. رحلات الشتاء والصيف

منذ 2014-08-23

يتعرض العقيلات لبعض المواقف الصعبة، ويتمثل أبرزها في عدم العثور على موارد المياه، إضافة إلى العواصف الصحراوية الشديدة والشمس الملتهبة، وقطاع الطرق وأساليب غدرهم المتنوعة والمفاجئة.


قبل خمسين عامًا من الآن كان (العقيلات) -وهم مجموعات من التجار النجديين الذين يجوبون أرض الجزيرة العربية والشام فيما يشبه رحلات الشتاء والصيف في التاريخ العربي الجاهلي- يشكلون أبرز الملامح الثقافية والاقتصادية في السعودية، وإليهم يرجع انتعاش حركة التجارة في المملكة طيلة 400 عام تواصل فيها النشاط التجاري لهؤلاء النجديين المهاجرين وشكلوا بالتوازي مع ذلك حركة ثقافية واسعة الانتشار كان لها أثر واضح في نقل المعارف من وإلى المملكة، وتعريف الشعوب العربية الأخرى بالمكونات الاجتماعية في السعودية في الفترات التي سبقت توحيد المملكة على يد الملك عبد العزيز.

وفي فترة من تاريخ السعودية كان رجال العقيلات يعتبرون من النخبة معرفيًا وماليًا، حيث وفرت لهم الرحلات الكثيرة التي كانوا يقومون بها في مختلف الأرجاء سعة من الاطلاع على شؤون الدول الأخرى، وكيفية تسيير التجارة والحركات السياسية والتحررية التي تقاطع معها بعضهم مثل: (ثورة عرابي، والمقاومة السورية ضد الفرنسيين) ذلك إلى جانب اختلاطهم بالشعوب الأخرى، مما منحهم قدرة عالية على استيعاب ثقافات الآخرين وأنماط معيشتهم.

وللعقيلات الآن أبناء وأحفاد يعدون بعشرات الآلاف، يتركزون في المناطق التي كانت تمثل انطلاقة تجارة العقيلات وظهورها كحركة تجارية وثقافية، وذلك في مدن منطقة نجد وبخاصة منطقة القصيم، وتحديدًا مدينة بريدة التي يرى المؤرخون للعقيلات أن تجارها -أي تجار بريدة- هم من كان لهم قصب السبق في تأسيس العقيلات ونيلها للمكانة التي وصلت إليها، ويحاول هؤلاء الأبناء والحفدة التوثيق لرحلات آبائهم وأجدادهم وإبقاءها حية في نفوس وعقول الشباب السعودي الجديد الذي لم يشهد رحلات العقيلات، وربما لم يسمع بها بعضهم.

والعقيلات كما يقول (عبد اللطيف صالح الوهيبي التميمي) الباحث في شؤون العقيلات، ونائب المشرف العام على مجموعة أحفاد العقيلات: هم تجار من نجد، وبالأخص القصيم وبالتحديد بريدة، ولا ينتمون إلى قبيلة أو عائلة معينة، وهم من الحاضرة، يتاجرون بالإبل بالدرجة الأولى والخيل والتجارة العامة، يصدرون الإبل والخيل والأغنام والسمن إلى بلاد الكويت والعراق، والشام والأردن، وفلسطين وتركيا ومصر، ويستوردون الملابس والأسلحة، والقهوة والشاي والسكر، وجميع الأشياء التي يفتقدونها في بلادهم.. 

وعملوا ما يقارب أربعمائة سنة بهذه التجارة وحتى عام 1949، حين انقرضت هذه التجارة وتمكنوا من ربط الدول العربية والإسلامية اقتصاديًاً وتجاريًا وسياسيًا، كما وضع العقيلات ماضيًا مجيدًا ومشرفًا لبلادهم في الخارج مثل: الأمانة والشجاعة والصبر، والتعاون ومعرفة الطرق والإيثار والمروءة، وحب الوطن والإخلاص والصدق في المعاملة، وكان العقيلات يُضرب بهم المثل في الأمانة والصدق، ولقب عقيلات جاء للبسهم العقال بخلاف بقية أهل نجد في ذلك الزمان، ذلك إضافة إلى أن لفظة (عقيلي) تطلق في نجد على من يتاجر بالإبل، والعقيلات اشتهروا بداية وبشكل أساس بتجارة الإبل بين السعودية وغيرها من الدول.

والعقيلات عندما يسافرون إلى البلاد الأخرى يتخذون لهم أمراء من بينهم، وتكون لهم مجالس معينة في الأسواق التي يتاجرون فيها، يتخذونها منبرًا لتبادل الأخبار والإرساليات التي تأتيهم من نجد، فالعقيلات كانوا يسافرون لشهور عديدة في كل عام وينقطعون عن أخبار أهليهم، لذلك كانت هذه المجالس بالنسبة إليهم شيئًا مهمًا للتواصل مع أخبار بلادهم.

ومن أبرز أمراء العقيلات كما دوّن التاريخ: رجال مثل حجيلان بن حمد آل أبو عليان، محمد بن علي العرفج آل أبو عليان، محمد بن عبد الله البسام، محمد بن علي الشوبهي، إبراهيم بن محمد الرواف، صالح بن حسن أبا الخيل.

ولرحلات العقيلات مستلزمات كثيرة عرفوا باصطحابها معهم في جميع تنقلاتهم، بدءًا بأدوات الركوب التي تشتمل على الأشدة والهودج، والخروج والحدائج، والمسامات وغيرها، مرورًاً بأدوات السقي بكل ما تحتويه من (القربة، الراوية، الرشاء، المحال) ووصولاً إلى أدوات الراحة والرحلة، والقهوة ومستلزمات الطبخ.

وللعقيلات كما يقول الباحثون في تاريخهم، مواقف سياسية بارزة في الدول التي كانوا يسافرون إليها، فمنهم من كان مشاركًا في حفر قناة السويس في مصر، ومنهم من كانت له مشاركات واسعة في المعارك ضد الفرنسيين في دمشق والثورة مع عرابي، كما أسهموا بقدر وافر في مختلف الأحداث التي مرت بالعراق في تاريخه القديم، وكانت مشاركاتهم السياسية -في فض النزاعات الداخلية ومقاومة المستعمرين- تتداخل مع الجانب الاقتصادي، حيث كانت السلع في أيديهم بمنزلة سلاح إضافي يحققون به رؤاهم السياسية في الدول التي يسافرون إليها، ويشير أكثر من باحث إلى أن أحفاد العقيلات موجودون الآن في أكثر من بلد عربي وفي تركيا، حيث كانت هناك مجموعات تسافر إلى هذا البلد في كل عام وبعضهم استقر هناك.

واختلفت الطرق التي سلكها العقيلات خاصة والمسافرون عامة، حسب الوقت الذي تسير فيه القوافل، ففي فصل الصيف تحتاج القوافل إلى الماء الكثير، سواء بالنسبة للمسافرين أو الإبل والخيل، ولذلك تجدهم يتابعون الموارد حتى ولو طال عليهم الطريق، في خلاف فصل الشتاء الذي لا تحتاج الإبل فيه إلى الماء مدة طويلة، ولذلك فهم يختصرون الطريق والموارد اختصارًا واضحًا، وهنا نوضح بعض طرقهم التي سلكوها في مسيراتهم.. 

بداية يكون منطلق السفر من الجردة في بريدة، وعندما يتجهّز العقيلات للمسير يخيّم الحزن على أهاليهم وعلى أهالي بريدة عامةً، بسبب فراق الأقارب والأصحاب والأحباب، ويسلك العقيلات في رحلاتهم طرقًاً على حسب أماكن شراء الإبل، ومنها طريق صيفي، وهو طريق بريدة -عمان- وطريق القصيم إلى فلسطين ومصر في الشتاء، وطريق القصيم -عمان- في الصيف.

ويتعرض العقيلات لبعض المواقف الصعبة، ويتمثل أبرزها في عدم العثور على موارد المياه، إضافة إلى العواصف الصحراوية الشديدة والشمس الملتهبة، وقطاع الطرق وأساليب غدرهم المتنوعة والمفاجئة.

 

عبد الحي شاهين