أقلام جافة، ليس بنافع فيها الأديب

منذ 2014-09-06

عانينا مع صحافة بلادنا منذ زمن بعيد بانتساب بعض الأقلام إليها، ليس لهم هَمٌّ إلا تحقيق أغراض بعيدة كل البعد عن أهداف هذه المهنة، فمن أقلام تجري وراء الشهرة ولو على حساب أخلاقيات المهنة، ومن أقلام تنزل إلى سوق النخاسة فتُشترى كما يشترى العبيد، وتُسْتأجر كما تستأجر النائحة؛ وشتان ما بين النائحة الثكلى والنائحة المستأجرة.

أذن الله تعالى في نصرة المظلوم، وردع الظالم عن ظلمه، وبيان الحق دون تعصب ولا حيف ولا جور، ورد البغي والانتصار منه، وقد حرم الله تعالى البغي بغير الحق قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّـهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّـهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:33]، وقال تعالى: {إِنَّ اللَّـهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}​ [النحل:90].

وأَذِنَ الله تعالى لمن بُغِيَ عليه أن ينتصر قال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ} [الشورى:39]، وإذا كان البغي عَلَناً، جاز رده عَلَناً.

يقول الإمام ابن العربي المالكي رحمه الله تعالى: "ذكر الله الانتصار في البغي في معرض المدح، وذكر العفو عن الجرم في موضع آخر في معرض المدح؛ فاحتمل أن يكون أحدُهما رافعًا للآخر، واحتمل أن يكون ذلك راجعًا إلى حالتين:

إحداهما: أن يكون الباغي معلناً بالفجور، وقحًا في الجمهور، مؤذيًا للصغير والكبير، فيكون الانتقام منه أفضل. وفي مثله قال إبراهيم النخعي: "يكره للمؤمنين أن يذلوا أنفسهم، فيجترئ عليهم الفساق".

الثاني: أن تكون الفلتة، أو يقع ذلك ممن يعترف بالزلة، ويسأل المغفرة، فالعفو هاهنا أفضل، وفي مثله نزلت: {وَأَن تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ} [البقرة من الآية:237] (أحكام القرآن [4/1669]).

وقد عانينا مع صحافة بلادنا منذ زمن بعيد بانتساب بعض الأقلام إليها، ليس لهم هَمٌّ إلا تحقيق أغراض بعيدة كل البعد عن أهداف هذه المهنة، فمن أقلام تجري وراء الشهرة ولو على حساب أخلاقيات المهنة، ومن أقلام تنزل إلى سوق النخاسة فتُشترى كما يشترى العبيد، وتُسْتأجر كما تستأجر النائحة؛ وشتان ما بين النائحة الثكلى والنائحة المستأجرة. ومن أقلام يُعمي الحقدُ بصرها فتنهال بالكذب والبهتان والافتراء الواضح البين هدفها الإطاحة بخصمها مهما كلفها الثمن.

لكن المصيبة كل المصيبة أن يجتمع في القلمٍ الواحد كل ما ذُكِر، ولا يستحي بعد ذلك أن يخرج على الناس في لبوس الصحافة النزيهة، والخط التحريري الهادف.

فكيف إذا زادت المصيبة فارتمى في هذا المستنقع الموبوء من ينتسب إلى العلم والدعوة إلى الله تعالى. وإن تعجب فعجب أنك إذا كتبت ترد بعض ظلم هذا النوع الأخير، أو على الأقل تبيين بعض خطئه، قوبلت بالإنكار والتهويل، وضربت لك أبشعُُ الصور في التمثيل، فحسبنا الله ونعم الوكيل.

وإنني لا زلت أقدم رجلاً وأؤخر أخرى، في رد وبيان عدوان وغلط بعض من ابتلينا به من هذا الصنف الأخير، وما ذاك لشك أو خوف أو ما إلى ذلك، بل تريثا واتزانا، وطمعا في رجوعه إلى الحق، وعدوله عن مقالات النبز والاتهام والتخليط، ولسان حاله كما قال القائل:

كلَّ صبحٍ معْ مساءٍ لا تزالُ *** معْ دواعي النفس في قيلَ وقالُ

وكثيرًا ما سمعت شيخنا أبا سهل محمد بن عبد الرحمن المغراوي حفظه الله تعالى يتمثل بأبيات تأسفًا على حال كثير ممن نشأ وتَتَرَّفَ في ظلال دعوة دار القرآن الكريم، ثم قلب لها ظَهْرَ المِجَن يقول حفظه الله:

بَقَرْتَ شُوَيهتي وفجعت قلبي *** وأنت لشاتنا ولد ربيب
غُذِّيتَ بِدَرِّها وربيت فينا *** فمن أنباك أن أباك ذيب
إذا كان الطباعُ طباعَ سوءٍ *** فليس بنافع فيها الأديب

وقصة هذه الأبيات ما رواه الإمام البيهقي رحمه الله تعالى، في الشعب بسنده إلى الأصمعي، قال: "دخلت البادية، فإذا أنا بعجوز وبين يديها شاة مقتولة وجرو ذئب مقفى فنظرت إليها فقالت: أو يعجبك هذا؟ قلت: بلى. وما قصتك؟ قالت: اعلم أن هذا جرو ذئب قد أخذناه فأدخلناه بيتنا فلما كبر قتل شاتنا، فقلت: أو قلت في ذلك شعرًا؟ قالت: بلى. ثم أنشأت تقول:..الأبيات".

والله المستعان

 

عبد الغني ادراعو

المصدر: صفحة الكاتب على الفيس بوك