رحيل ضياء سعيدة شاعر الضوء والظل

منذ 2014-09-18

كان الفنان ضياء سعيدة رحمه الله تعالى من أكثر الفنانين نقاء ووضوحًا وشفافية. كان قليل الكلام، كثير العمل، يمتلك روحًا مرحة، ودعابة حاضرة، وقلبًا يتسع للجميع.

كان الفنان ضياء سعيدة رحمه الله تعالى من أكثر الفنانين نقاء ووضوحًا وشفافية. كان قليل الكلام، كثير العمل، يمتلك روحًا مرحة، ودعابة حاضرة، وقلبًا يتسع للجميع.

ولد الفنان ضياء الدين محمد فهمي سعيدة في قرية كفر سليمان البحري بمحافظة دمياط في مصر عام 1962م، وكان لنشأته الريفية بالقرب من شاطئ النيل أثرًا لم يفارقه في لين الطبع وفيض المشاعر وسخاء الألوان والإبداع.

عرفتُ ضياء سعيدة عبر منجزه الفني من خلال أغلفته المميزة لشرائط الكاسيت الإسلامية، وكتب الأطفال التي كانت تصدرها مؤسسة سفير التي تخصصت في الإبداع الراقي الموجه لمرحلة الطفولة.

وقد لفتني في ضياء سعيدة حرصه الشديد على إبراز القيم الحضارية، والتأكيد على الهوية الإسلامية فيما يقدمه من جرافيك، وخطوط يؤولها ويعبر عنها ويكتب شروحها أحيانًا، متذوقًا الكلمات ومبحرًا معها.

في كل مرة كنت أرى له عملاً جديدًا كنت أتمنى رؤيته والتعرف عليه عن قرب، حتى جاءت الفرصة دون ترتيب مني لأجد نفسي في بيته دون أن أعرف أننا في بيت ضياء سعيدة، وبين لوحاته التي زينت جدران غرفته.

مناسبة الزيارة إنني كنت مرافقًا لأحد الأصدقاء يعد كتاباً جديداً، ودعاني للذهاب معه للفنان الذي يجهز الغلاف دون أن يذكر لي اسمه، وحين ذهبنا إلى منزله واستقبلنا وجدتني أمام شيخ أقرب لهيئة الأزهريين أو مشايخ السلفيين، وحين قادنا إلى غرفة المكتب أدهشني حجم اللوحات المتراصة على جدرانها، ووجدتني أهتف: أنت ضياء سعيدة؟ فضحك وقال: أنا هو يا سيدي!

جلسنا مطولاً معه، وأطلعنا على مشاريعه، وحين حدثناه عن ضرورة تواجده على الساحة الفنية بشكل يناسب إبداعه ومنجزه، عبر المعارض التي تعج بها القاهرة، فابتسم ابتسامة عرفت ما تحتها، وفهمت أنه غير مرحب به في وسط يراه غير متناغم معه، لما يقدمه من أعمال تشع بالانتماء الصريح لهوية الأمة، وتتبنى الدفاع عنها وعن رموزها ومقدراتها.

انتهت الزيارة، ولم ينته التواصل مع الفنان ضياء سعيدة إلى أن توفاه الله تعالى يوم 17 رمضان 1435هـ، دون أن يلتفت له أحد، ودون أن يكُتب عنه خبرًا واحدًا.

عاش ضياء سعيدة على مسافة كبيرة من الوسط الفني والإبداعي الذي أسهم في إثرائه بقسط وافر من اللوحات التشكيلية والخطوط العربية، غير منتظر للثناء أو التقدير من أحد؛ قانعا بما تفعله رسوماته من تأثير في المتلقين وينتشر صداها بين الأجيال.

ضياء سعيدة ظاهرة جديرة بالتوقف أمامها طويلاً للمهتمين بالفنون المنتمية للأمة، فهو نموذج يؤكد أننا نعتمد في الفنون والآداب على قفزات فردية عملاقة تقدم منجزات مدوية، لا تلبث أن تنطفئ فجأة إما بالموت أو بالإحباط من السير وحدها في طريق لا يوجد فيه من يعاونها أو يمد لها يد العون.

أتساءل ماذا لو وجد ضياء سعيدة رحمه الله من يدير مشروعه عبر مؤسسة ذات إمكانات واسعة، واحتضنت شباب المبدعين واستفادت من تجربته في الفن التشكيلي كأحد الرموز الفنية المعبرة على الهوية الحضارية للأمة، خصوصاً أنه كان يقدم مبادرات فردية في تبني مواهب شابة بحسب ما تسمح ظروفه وإمكاناته؟

إننا حتى اللحظة الراهنة مازلنا ننصب من أنفسنا مقومين للذين يقدمون الإبداع الفني والأدبي، ونقول: هذا جيد وهذا رديء، ويكون حكمنا إلى الرداءة ـوهو حكم بدهيـ خصوصًا أن بعض هذه الأعمال تصدر عن مؤسسات معنية في الأساس بمصادمة الهوية الإسلامية، ومصادمة الموروث الحضاري والثقافي للأمة، بل وتحطيمه أيضاً، ونظل نرفض ونرفض، دون أن نفكر أو نلتفت إلى القامات الكبيرة التي بيننا، ولا نلتفت إليها إلا بعد أن يتوقف عطاؤها بالموت، بعدها ندبج المقالات وننثر على تاريخها الكلمات، ثم تطوى صفحتهم إلى الأبد!

إن ما نفعله منذ نصف قرن أو يزيد لم يبارح منطقة الرفض والاعتراض والهبات الثائرة على الأعمال الفنية المسيئة لأمتنا، لكننا لم نسع جديًا لإيجاد الأسلوب العملي للرفض؛ ونقل الفنانين المخالفين من نطاق المصادمين إلى نطاق الموافقين بتقديم نماذج جيدة تنمو رأسيًا من الفنانين الذين بين أيدينا أمثال ضياء سعيدة وما أكثرهم.

رحم الله ضياء سعيدة وأسكنه الفردوس الأعلى. 

 

علي محمد الغريب

المصدر: موقع لها أون لاين