بعدَ مَقتلِ الأخيار، بماذا تُفَكِّر؟
عليك أن تُغمِضَ عينَيكَ وتقطَعَ جميعَ أسلاكِ اتصالِكَ وتُحَلِّقَ معي في رحلةٍ سريعةٍ نختَرِقُ فيها معًا حُدودَ الزَّمان والمكان.. مُستَعِد؟
بماذا تُفَكِّر؟ بماذا تُفَكِّر؟ بماذا تُفَكِّر؟
كلَّما دخلتُ الموقِعَ يطرَحُ عليَّ ذاتَ السؤال!
قَرَّرتُ هذهِ المَرَّةَ أن أحاوِرَهُ فكان ما يلي:
- عفوًا.. تقصِدُ بماذا أُفَكِّرُ الآن؟
- نعم، بعدَ سماعِكَ نبأَ مَقتلِ الأخيارِ من مُجاهدي الشام.
- بصراحَة..أنا عندَما يشتَدُّ بيَ الكَرْبُ تَستَحوِذُ على فكري خاطِرةٌ أتَسلّى بها.
- أسعِفنا بها!!
- إذا كانَ لكَ إدراكٌ فسَتَعي ما أقولُ، ولكن عليك أن تُغمِضَ عينَيكَ وتقطَعَ جميعَ أسلاكِ اتصالِكَ وتُحَلِّقَ معي في رحلةٍ سريعةٍ نختَرِقُ فيها معًا حُدودَ الزَّمان والمكان.. مُستَعِد؟
- حَسَنًا سأحاول..قُلْ أسمَع.
- لما أرادَ اللهُ عزَّ وجَلَّ أن يُشعِرَ أهلَ الجَنَّةِ بفَضلهِ عليهم بما هُم فيه من النعيمِ المُقيم، قَضى عليهم أن يتذوَّقوا أضدادَ ألوانِ النعيمِ من ألوانِ الشقاء، فبِضدّها تتميَّزُ الأشياءُ.
فيُدركوا نعمةَ الفَرَحِ بتذوّقِ الحُزن.
ويُدركوا نعمةَ العافيةِ بتذوّقِ السَّقَم.
ويُدركوا نعمةَ اللذةِ بتَذوُّقِ الألَم.
ويُدركوا نعمةَ الأمنِ بتَذوُّقِ الخَوف.
ويُدركوا نعمةَ مُخالطةِ الأطهارِ بمُخالَطَةِ الأشرار.
ويُدركوا نعمةَ الحياةِ الأبديَّةِ بتذوُّقِ المَوت.
ويُدركوا ويُدركوا ويُدركوا......
ويتذوَّقوا ويتذوَّقوا ويتذوَّقوا......
ولمَّا كانت الجنةُ دارَ النعيمِ المَحْضِ والكمالِ المَحضِ لَم تُعَدَّ لهذا، أهبَطَهُم إلى هذهِ الفانيةِ لبُرهَةٍ قصيرةٍ لا تعدِلُ في عُمُرِ الآخِرَةِ الدائِمِ أكثَرَ من طَرفَةِ عين، ليَرُدَّهُم إليها فيُقرَّ بها عيونَهم، ويلُمَّ شعثَهم، ويكمِّلَ خُلُقَهم وخَلقَهُم.
يا أهل الجنَّةِ..
إنَّ لكم أن تحيَوا فلا تموتوا أبدًا..أن تنعَموا فلا تبأسوا أبَدًا.
أن تَصِحُّوا فلا تَسقَموا أبدًا..أن تشبُّوا فلا تهرَموا أبدًا.
عندئذٍ سيكونُ هذا الخطابُ مفهومًا لديهم.
ما أَخَذَ إلا لِيُعطي..وما أَحزَنَ إلا ليُفرِح..وما أَنقَصَ إلا ليُكَمِّل.
هل أدركتَ مُرادي الآن؟!
- لا لَم أُدرِكْهُ ولَمْ أقدِرْ على التحليقِ معَك.
- نعم صدَقتَ، لأنَّ هذهِ المعاني الشريفَةَ لا تُدرِكُها آلَـةٌ صمَّاءُ لا قلبَ لها.
ولكنك أداةٌ مِطواعَة..فافسَح المَجالَ لذَوي القلوبِ الحيَّةِ أن يقرؤوا المشهَدَ من خِلالك.
- سمعًا وطاعَة.
- شكرًا لك أيُّها المَوقِع.. ولي طلَبٌ أخيرٌ..
أرجو أن تحتفِظَ لي بهذا الحوارِ لقادِمِ الأيامِ فإنَّ الأعداءَ يُعِدُّونَ العُدَّةَ لما هوَ أسوأ، وأحتاجُ أن أبقيَهُ قريبًا من ذَوي القلوبِ لِيَتَسَلَّوا به.
-كنتُ أظُنُّكَ فَطِنًا.. ألَمْ تعلَمْ أنَّ ما يُستَودَعُ لدَيَّ لا يزولُ؟ بل أوافي به أصحابَهُ يومَ الدين؟!!
-أنتَ حقًّا رائعٌ أيُّها "الآلةُ الصمّاء"..أستَودِعُكَ ما كتبتُ، وأستَودِعُكما اللهَ الذي لا تَضيعُ ودائِعُه.
إلى اللقاء.
جمال الباشا
مؤهلات الشيخ جمال بن محمد الباشا: ماجستير في القضاء الشرعي، دكتوراه في الفقه وأصوله، رسالة الدكتوراه في السياسة الشرعية، مدرس في أكاديمية العلوم الشرعية.
- التصنيف: