الذكاء التعليمي.. بوابة الإبداع والتميز
إن حصر الطالب في مجموعة من الدرجات والعلامات كفيل بأن يخنق نواحي الإبداع فيه، أما معايشة المعلومة وممارسة التجربة كفيل بأن يفجر الطاقات الإبداعية، وينمي المدارك العقلية لدى الطفولة البريئة، فهل سيأتي اليوم الذي نجد فيه ثورة في مناهجنا التعليمية، بما يضمن الرعاية المثالية للمبدعين الصغار.
الضغط والعجلة، وتكثيف المقررات الدراسية.. كلها محاولات حثيثة يطلق فيها الآباء لأنفسهم العنان من أجل تنمية واستثمار ذكاء أطفالهم، يحدوهم في كل هذا الرغبة العارمة بأن يكون ابنهم متميزًا، وأن لا تضيع بواكير الذكاء وأمارات النباهة سدى، في الوقت ذاته لا ينتبهون إلى كونهم أطفالاً وليسوا (روبوتات) قابلة للبرمجة وتكديس المعلومات، مع عدم التقدير الواقعي لمرحلتهم العمرية وما تتطلبه من احتياجات وتتمتع به من خصائص وقدرات، لذا لا غرابة -مع سوء توظيف للطاقة الكامنة بالأطفال- أن نجدهم بعد فترة قصيرة يملون ويفترون، بل ويتمردون ويعزفون عن المعرفة والتعلم بالكلية.
بين القديم والحديث:
هناك علاقة وطيدة بين ذكاء الطفل وثقافته، بل إن الثقافة تنمي ملكة الإبداع لديه، لكن من الضروري التخلي تمامًا عن نظام مد الطفل بثقافة الذاكرة (الحفظ والتلقين)، والاهتمام بمتابعة مواهبه وصقل الملكات الإبداعية لديه بطرق عملية باعتبارها أساساً للتكوين المعرفي والسلوكي في حياته المستقبلية، كما أن الاعتماد على الممارسة العملية والميدانية، تجعل خيال الطفل متجددًا خصبًا، وهذا أول طريق النبوغ والتميز، خاصة وأن التطور التقني والمعرفي الرهيب جعل من الحصول على المعلومات غالبًا لا يشكل أية صعوبة، كما لن يشكل امتلاك المعلومات في المستقبل فارقًا جوهريًا بين الأمم والأفراد، وإنما سيكون التميز مرتكز أساسًا على مهارات المجتمع في استخدام المعلومات وتحليلها وتوظيفها، ولذا فإن تنمية المهارات العقلية العملية لدى الأطفال ستكتسب أهمية بالغة.
ما هية الذكاء:
(الذكاء) هو جوهر النشاط العقلي، وهو قدرة كامنة في الفرد تتشارك فيها عوامل عديدة، قاعدتها الأولية العوامل الوراثية (عامل داخلي) ثم يأتي دور الوسط والبيئة الاجتماعية والتعليمية (العوامل الخارجية)، فالذكاء كقدرة كامنة يمكن تعديلها عن طريق الاستثارة بالمؤثرات البيئة المختلفة، وإن كان الذكاء -كما يرى علماء النفس- قد يتوقف كقدرة كامنة (عند عمر 15سنة تقريبًا) شأنه في ذلك شأن النمو الجسمي، إلا أن هذا لا يعني بالضرورة توقف التعلم والإنتاج العقلي واكتساب المهارات والخبرات الجديدة.
عوائق وعوارض:
ثمة عوائق أسرية تعترض إبداعات الطفل مثل: التأنيب المبالغ فيه تجاه المحاولات الفاشلة أو حرمانه من التجريب والخطأ، والحماية الزائدة، ومقابلة استفسارات الطفل بنوع من السخرية أو الاستهتار، والإفراط في التدليل أو الإفراط في العقوبة والقمع، وتجاهل الحوارات معه والتي من شأنها أن توجه الطفل ذهنيًا وتنظم أفكاره، خاصة وأن ملكة الخيال عند صغارنا تفوق تصوراتنا وعلينا تغذيتها، أيضًا تجاهل هموم الطفل ومخاوفه، وعدم الإلمام بإمكاناته وقدراته الذاتية.
وفي المقابل لا يفوتنا أهمية العديد من العوامل المحفزة للقدرات العقلية لأبنائنا مثل: الاستقرار العائلي، والتغذية السليمة، والرعاية الصحية الجيدة، والرعاية الأسرية المتوازنة، حيث كشفت -مثلاً- أحدث الدراسات النفسية عن أن احتضان الوالدين لابنهما الطفل واللمس على كتفه يزيد من ذكائه ونموه الطبيعي، إذ أنه يساعد على إفراز مادة (لاندروفين) في الجسم، وهي موصل عصبي يساعد على تخفيف العصبية والقلق النفسي والإحساس بالألم.. إن العقل ينشطه الأمن ويحجمه التوتر؛ ولذا تتضح أهمية الدعم المعنوي للطفل بالتشجيع والحب.
رأي المختصين:
تقول البروفيسيره (آنا جوزبينا ماتيولي) من معهد الدراسات التربوية في جامعة (لاسابينسا) في روما: "الطفل لا يعنيه المغزى أو المعنى من الوجود بقدر ما تعنيه تلك العلاقة المادية بينه وبين العالم الخارجي في درجات توازنها مع جسده وحواسه، لأن الطفل في حالة ذهنية تتميز بعدم القدرة على إدراك الفارق بين الواقع والخيال، أو بين الذات والموضوع، كما أنه عاجز عن التمييز بين ذاته والأشياء التي تحيطه، فالمكان والزمن والسبب كلها أمور بعيدة عن فهم الطفل وإدراكه بخاصة في مراحله المبكرة، كما أن التقدير الأخلاقي للسلوك لا يولد مع الطفل، وهو بالتالي لا يستطيع إدراك القيم الأخلاقية المتعارف عليها بيننا كالكذب والصدق والأمانة والسرقة.. إلخ، فالطفل وهو ينتقل من سن إلى سن، لا يستطيع أفراد عائلته إدراك ووعي مراحل الانتقال -يعني إدراك الحاجات الجديدة التي تولد بفعل النمو- وحين يجد عدم تجاوب يقود نفسه نحو الانعزال وتخمد حالة الإبداع عنده شيئاً فشيئاً".
مهارات عملية:
كل مناحي النمو لها حد أقصى وحد أدنى، وإذا ما تحدثنا عن طبيعة أي مرحلة من عمر الطفل فإننا نتحدث في هذا الحيز، وبالتالي فإن تدخلنا لتنميتها واستثمارها إنما يكون محاولة لنصل بقدرات أبنائنا إلى حدها الأقصى داخل الحيز الممكن، أي أننا لا بد ألا نكون مفرطين في توقعنا، وألا ندفع الطفل لتعلم ما لم يستعد بعد لتعلمه.
• تعتبر الألعاب (الأنشطة الحسية الحركية) منذ بواكير الطفولة عامل جوهري في تنمية القدرات الإبداعية لأطفالنا، مثل ألعاب: الفك والتركيب وتنمية الخيال وتركيز الانتباه والاستنباط والاستدلال والحذر والمباغتة، وإيجاد البدائل لحالات افتراضية متعددة.. يقول الخبراء: "يعتبر اللعب التخيلي من الوسائل المنشطة لذكاء الطفل وتوافقه، فالأطفال الذين يعشقون اللعب التخيلي يتمتعون بقدر كبير من التفوق، كما يتمتعون بدرجة عالية من الذكاء والقدرة اللغوية وحسن التوافق الاجتماعي، كما أن لديهم قدرات إبداعية متفوقة، ولهذا يجب تشجيع الطفل على مثل هذا النوع من اللعب، كما أن للألعاب الشعبية كذلك أهميتها في تنمية وتنشيط ذكاء الطفل، لما تحدثه من إشباع الرغبات النفسية والاجتماعية لدى الطفل، ولما تعوده على التعاون والعمل الجماعي، ولكونها تنشط قدراته العقلية بالاحتراس والتنبيه والتفكير الذي تتطلبه مثل هذه الألعاب" (كتاب الإنصات الانعكاسي).
• تنمية ملكات (التفكير العقلي) للطفل مهم جدًا عن طريق: الأطالس المصورة والكتب العلمية المبسطة وأفلام المغامرات والخيال العلمي، هذا فضلاً عن المشاهدات اليومية لمفردات كثيرة من حولنا على أن تحكي لابنك ما يرى وكيف يعمل، والذي من شأنه أن ينمي ملكة (التفكير العلمي) لدى الصغير، ويشبع رغبته الجارفة في التعلم والاستكشاف، وينمي لديه (الذكاء المنطقي الرياضي)، كذلك حفظ القرآن الكريم على قدر طاقته، وترديد الأناشيد الإسلامية، وقراءة القصص التربوية الهادفة، وحكي الحكايات دون الإسراف في الخيالي منها كي لا تشوه الحقائق من حوله.
• البدء مع الأطفال بالمحسوسات والانتقال منها تدريجيًا إلى المعنويات والفرضيات، التدريب على رصد الملاحظات والانتباه لأدق التفاصيل، استشعار قيمة الأشياء الجميلة في الكون من حوله كالطبيعة وتناغم الألوان وعذوبة الأصوات المختلفة، وقدرة الخالق سبحانه في الإبداع الكوني من حولنا.. كل هذا من شأنه أن يصقل الحس المرهف لديه، وينمي ملكة الخيال والوجدان، مع الاستجابة الجيدة والفعالة لكل المظاهر الإيجابية في حياته.
• الأنشطة الاجتماعية لها دور محوري في (الذكاء التعليمي)، كما تشكل أحد العناصر الهامة في بناء شخصية الطالب وصقلها، فهي تساعد الطلاب على التوافق السليم والمثابرة وتحمل المسؤولية والشجاعة والإقدام والتعاون وحسن استغلال أوقات الفراغ، ونقصد بالأنشطة الاجتماعية تلك الأنشطة المدرسية المختلفة (فعاليات اتحاد الطلاب، الهوايات المسرحية والرسم وفنون الخط والزخرفة..)، والأنشطة الترفيهية في النوادي الاجتماعية (جماعة الكشافة، المسابقات الرياضية والثقافية..)، فضلاً عن الأنشطة الرياضة التي تناسب سن وقدرات الطفل البدنية والنفسية.
مجمل القول:
نستطيع أن نقول أن البيئة المحيطة بالطفل والمجتمع الذي نشأ فيه يتحمل مسئولية كبيرة تجاه تنمية ملكاته، وجعل التعليم نوع من المتعة أكثر منه نوع من المحنة، وتجربة جديرة بالمعايشة وليست مرحلة صارمة تنتهي بامتحان عصيب، إن حصر الطالب في مجموعة من الدرجات والعلامات كفيل بأن يخنق نواحي الإبداع فيه، أما معايشة المعلومة وممارسة التجربة كفيل بأن يفجر الطاقات الإبداعية، وينمي المدارك العقلية لدى الطفولة البريئة، فهل سيأتي اليوم الذي نجد فيه ثورة في مناهجنا التعليمية، بما يضمن الرعاية المثالية للمبدعين الصغار.
خالد سعد النجار
كاتب وباحث مصري متميز