فلسفة العيد
فالعيد إنما هو المعنى الذي يكون في اليوم لا اليوم نفسه،
ما أشدَّ حاجتَنا -نحن المسلمين- إلى أن نفهم أعيادنا فهمًا جديدًا، نتلقَّاها به ونأخذها من ناحيته، فتجيء أيامًا سعيدة عاملة، تنبِّه فينا أوصافها القوية، وتجدِّد نفوسنا بمعانيها، لا كما تجيء الآن كالحة عاطلة ممسوحة من المعنى، أكبر عملها تجديد الثياب، وتحديد الفراغ، وزيادة ابتسامة على النفاق.
فالعيد إنما هو المعنى الذي يكون في اليوم لا اليوم نفسه، وكما يفهم الناس هذا المعنى يتلقَّوْن هذا اليوم، وكان العيد في الإسلام هو عيد الفكرة العابدة، فأصبح عيد الفكرة العابثة، وكانت عبادة الفكرة جمعها الأمة في إرادة واحدة على حقيقة عملية، فأصبح عبث الفكرة جمعها الأمة على تقليد بغير حقيقة، له مظهر المنفعة وليس له معناها.
كان العيد إثبات الأمة وجودها الروحاني في أجمل معانيه، فأصبح إثبات الأمة وجودها الحيواني في أكثر معانيه، وكان يوم استرواح من جدِّها، فعاد يوم استراحة الضعف من ذُلِّه، وكان يوم المبدأ، فرجع يوم المادة!
ليس العيد إلا إشعار هذه الأمة بأن فيها قوة تغيير الأيام، لا إشعارها بأنَّ الأيام تتغيَّر، وليس العيد للأُمَّة إلا يومًا تعرض فيه جمال نظامها الاجتماعي، فيكون يوم الشعور الواحد في نفوس الجميع، والكلمة الواحدة في ألسنة الجميع، يوم الشعور بالقدرة على تغيير الأيام، لا القدرة على تغيير الثياب.. كأنما العيد هو استراحة الأسلحة يومًا في شعبها الحربي.
وليس العيد إلا تعليم الأمة كيف تتسع روح الجوار وتمتدُّ، حتى يرجع البلد العظيم وكأنه لأهله دار واحدة، يتحقَّق فيها الإخاء بمعناه العملي، وتظهر فضيلة الإخلاص مستعلنة للجميع، ويُهدي الناس بعضهم إلى بعض هدايا القلوب المخلصة المحبة، وكأنَّما العيد هو إطلاق روح الأسرة الواحدة في الأمة كلِّها.
وليس العيد إلا إظهار الذاتية الجميلة للشعب مهزوزة من نشاط الحياة، وإلا ذاتية للأمم الضعيفة، ولا نشاط للأمم المستعبدة، فالعيد صوت القوة يهتف بالأمة: أخرجي يوم أفراحك، أخرجي يومًا كأيام النصر!
وليس العيد إلا إبراز الكتلة الاجتماعية للأمة متميزة بطابعها الشعبي، مفصولة من الأجانب، لابسة من عمل أيديها، معلنة بعيدها استقلالين في وجودها وصناعتها، ظاهرة بقوتين في إيمانها وطبيعتها، مبتهجة بفرحين في دورها وأسواقها، فكأنَّ العيد يوم يفرح الشعب كلُّه بخصائصه.
وليس العيد إلا التقاء الكبار والصغار في معنى الفرح بالحياة الناجحة المتقدمة في طريقها، وترك الصغار يلقون درسهم الطبيعي في حماسة الفرح والبهجة، ويعلِّمون كبارهم كيف توضع المعاني في بعض الألفاظ التي فرغت عندهم من معانيها، ويبصرونهم كيف ينبغي أن تعمل الصفات الإنسانية في الجموع عمل الحليف لحليفه، لا عمل المنابذ لمنابذه، فالعيد يوم تسلط العنصر الحي على نفسية الشعب.
وليس العيد إلا تعليم الأمة كيف تُوجِّه بقوَّتها حركة الزمن إلى معنى واحد كلما شاءت، فقد وضع لها الدين هذه القاعدة؛ لتخرج عليها الأمثلة، فتجعل للوطن عيدًا ماليًّا اقتصاديًّا تبتسم فيه الدراهم بعضها إلى بعض. وتخترع للصناعة عيدها، وتوجد للعلم عيده، وتبتدع للفن مجالي زينته، وبالجملة تنشئ لنفسها أيامًا تعمل عمل القُوَّاد العسكريين في قيادة الشعب، يقوده كلَّ يوم منها إلى معنًى من معاني النصر.
هذه المعاني السياسية القوية هي التي من أجلها فرض العيد ميراثًا دهريًّا في الإسلام؛ ليستخرج أهل كلِّ زمن من معاني زمنهم، فيضيفوا إلى المثال أمثلة مما يبدعه نشاط الأمة، ويحققه خيالها، وتقتضيه مصالحها.
وما أحسب الجمعة قد فرضت على المسلمين عيدًا أسبوعيًّا، يشترط فيه الخطيب والمنبر والمسجد الجامع، إلا تهيئة لذلك المعنى، وإعدادًا له، ففي كلِّ سبعة أيام مسلمة يوم يجيء فيشعر الناس معنى القائد الحربي للشعب كلِّه.
ألا ليت المنابر الإسلامية لا يخطب عليها إلا رجال فيهم أرواح المدافع، لا رجال في أيديهم سيوف من خشب!!
_______________________________
المصدر: وحي القلم- مصطفى صادق الرافعي- راجعه واعتنى به الدكتور درويش الجويدي- المكتبة العصرية- بيروت (1/27).
مصطفى صادق الرافعي
ولد "مصطفى صادق الرافعي" على ضفاف النيل في قرية (بهتيم) إحدى قرى مدينة القليوبية بمصر في يناير عام 1880م لأبوين سوريَّين.
- التصنيف:
- المصدر: