نصارى القدس: دراسة في ضوء الوثائق العثمانية

منذ 2014-10-16

تكمن أهمية هذا الكتاب في أنه أول دراسة تتناول الأحوال العامة للنصارى في القرن التاسع عشر، في ضوء معطيات سجلات محكمة القدس الشرعية في القدس العثمانية، والمعلومات الواردة في هذه السجلات في غاية الأهمية، وهي فريدة من نوعها، ولا تتوافر في المصادر التقليدية.

صدر مؤخرًا في القاهرة بالتعاون بين مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت بلبنان، والهيئة المصرية العامة للكتاب، كتاب تحت عنوان (نصارى القدس: دراسة في ضوء الوثائق العثمانية)، للدكتور أحمد حامد إبراهيم القضاة، وتكمن أهمية هذا الكتاب في أنه أول دراسة تتناول الأحوال العامة للنصارى في القرن التاسع عشر، في ضوء معطيات سجلات محكمة القدس الشرعية في القدس العثمانية، والمعلومات الواردة في هذه السجلات في غاية الأهمية، وهي فريدة من نوعها، ولا تتوافر في المصادر التقليدية.

وجاء الكتاب في تمهيد وستة فصول، ومجموعة من الملاحق التي تناولت رجال الدين المسيحي، وحجم الأسرة المسيحية، والأراضي المملوكة والرهون والقروض وشراء وبيع العقارات.

تناول التمهيد مفهوم الملة أو الطائفة بأنها: "جماعة دينية من الناس تنظمهم رابطة مذهبية واحدة، بغض النظر عن الجنس أو اللغة أو القومية، ويخضع أفرادها إلى زعيم روحي يُنتخب من قبل أفراد الملة، ويقترن تعيينه بصدور البراءة السلطانية، ويمنح رؤساء الطوائف حق رعاية شؤون رعاياهم العامة والشخصية، وحرية ممارسة شعائرهم الدينية".

والاستخدام العثماني الأكثر شيوعًا لهذا التعبير قبل فترة الإصلاح (1839-1856م) اقتصر على المسلمين فقط؛ للتمييز عن الذميين، ولكن بعد صدور خط التنظيمات الخيرية عام (1856م) أخذ المصطلح يشير إلى النصارى باستخدام عبارة الملة لكل النصارى، غير أن استخدام المصطلح للدلالة على جماعة دينية انتهى في أواخر ستينات القرن التاسع عشر، وأصبح يستعمل للدلالة على أمة بمعنى الناس جميعًا، فبعد صدور قانون التبعية العثماني في 19ديسمبر 1869م، وفي إطار هذا التشريع غدا جميع قاطني الدولة العثمانية وولاياتها عثمانيي الجنسية بصرف النظر عن أصولهم العرقية، وصار الأشخاص غير التابعين لها أجانب.

وصدر نظام الملة في الأول من يناير1454م في عهد السلطان محمد الفاتح، وقد بني على أسس إسلامية مستنبطة من المذهب الحنفي، المذهب الرسمي للدولة العثمانية، فأعطى الحرية الدينية لكل الطوائف بما يتفق مع الشريعة الإسلامية، وانتخاب الرؤساء الدينيين من قبل أفراد الملة، على أن يقترن تعيين البطريرك أو الأسقف المنتخب بصدور البراءة السلطانية، ومنح رؤساء الطوائف حق رعاية الشؤون العامة والشخصية لطوائفهم.

يقول المؤلف: لقد تعارف جميع المتخصصين في التاريخ العثماني من مستشرقين وعرب وعثمانيين على تقويم أوضاع أهل الذمة، وعلى ما كان لنظام الملة من آثار إيجابية فيهم، واندماجهم في جسم الأمة العثمانية، مع الاحتفاظ بكياناتهم الدينية، وقوانينهم الخاصة، حيث منح نظام الملل لهم حقوقًا مدنية ودينية، وجعل لهم سلطة سياسية لم يكونوا يتمتعون بها قبل الفتح العثماني للقسطنطينية في ظل الدولة البيزنطية نفسها.

وبحث الفصل الأول في طوائف النصارى التي عاشت في مدينة القدس، فتناول الفصل أعداد الطوائف اعتمادًا على المصادر المعاصرة: كالرحالة، والقناصل، والإحصاءات العثمانية الرسمية، فتبين منها أن نصارى القدس مثَّلوا ثلث سكان المدينة، ومن أبرز الطوائف: (طائفة الروم الأرثوذكس، طائفة الروم الكاثوليك، طائفة الأرمن، طائفة اللاتين، طائفة الأقباط، طائفة الأحباش، طائفة السريان، طائفة البروتستانت، طائفة الموارنة)، لكن أول جماعة من الأقباط وصلت إلى القدس في منتصف القرن الرابع الميلادي، لتحضر تدشين كنيسة القيامة التي بنتها الملكة هيلانة عام 335 ميلادية، وهو التوقيت الذي وصلت فيه طائفة الأحباش إلى القدس، وكانت تتبع طائفة الأقباط، وكان رئيسهم يعيَّن من لدن بطريرك الأقباط في مصر، وكان يجمعهم دير السلطان، الذي يتنازعان عليه الآن، بعد أن سيطر عليه الأحباش.

أما الفصل الثاني فبحث في الحياة الاجتماعية، وتحدث عن: الأحوال الشخصية (الخطوبة، الزواج، الطلاق، حجم الأسرة، مكانة المرأة، الملابس، ملابس الرجال، ملابس المرأة، زينة المرأة، الرقيق، محلات النصارى، الدور -الملامح العامة لدور النصارى-).

وتناول الفصل الثالث دور النصارى في الإدارة والتعليم؛ فقد شغل نصارى القدس عددًا من الوظائف الإدارية، لا سيما المالية منها، ويمكن إجمال هذه الوظائف على النحو التالي: مجلس الشورى، مجلس إدارة لواء القدس، بلدية القدس، المختار، مجلس اختيارية القرية، ترجمان، مدير النافعة، وشغل نصارى القدس عددًا من الوظائف المالية التالية: الصراف، الكاتب، مأمور الكمرك، مدير البنك العثماني، وشارك النصارى في الجهاز القضائي كأعضاء في كل من: مجلس دعاوى لواء القدس، محكمة البداية، محكمة التجارة. وفي مجال التعليم: اللوائح التنظيمية في مدارس الطوائف والمدارس التبشيرية، التعليم في الأديرة والكنائس.

أما الفصل الرابع فتحدث عن الحياة الاقتصادية، ففي المجال الزراعي امتلك النصارى في القدس أراضيَ خاصةً بهم تشمل الحواكير والبساتين والكروم والبيارات والموارس في المدن والقرى، والمناطق المحيطة بها، وتصرفوا بها بيعًا وشراءً ووقفًا، وتعود هذه الأراضي إلى الدولة في حالة وفاة مالكها من دون وارث شرعي أو وصية، وعلى صعيد التجارة هناك: التجارة الداخلية: امتلك النصارى الدكاكين، في أسواق مدينة القدس وكان بعضها متخصصًا في بيع السلع الأساسية التي ترد من سكان القرى الذين يحملون منتوجاتهم الزراعية والمنزلية والفائض عن استهلاكهم لبيعها.

وبالنسبة إلى العقارات: اهتم النصارى بشراء العقارات السكنية والتجارية والصناعية في القدس والقرى المجاورة لها منذ بداية القرن التاسع عشر، في محلة النصارى والحارات التابعة لها كحارة الزراعنة والحدادين محل سكن النصارى، أما العقارات الزراعية فانحصر أغلبها في الأراضي المحيطة بالقدس وبخاصة الجهة الغربية منها، ما أدى إلى ارتفاع ثمن أغلبية العقارات فيها.

وبحث في الفصلين الخامس والسادس الحياة الدينية، فتحدث المؤلف عن موقف الدولة العثمانية من التنصير وموقفها من النصارى خلال القرن التاسع عشر، فعن علاقة طوائف النصارى ببعضها يشير المؤلف في هذا الفصل إلى الصراع العنيف الذي نشب بين طوائف النصارى في القدس، حول أولوية الدخول، وإقامة الشعائر الدينية في الكنائس، والإشراف عليها، وبخاصة كنيسة القيامة، فقد دخلت طائفة اللاتين في نزاع مع الطوائف الأخرى المنافسة لها فيما يتعلق بشؤون ادعى الأرمن بأن لهم حقًا في زيارة مغارة سيدنا عيسى عليه السلام.

كما طلبوا أن تكون بيدهم مفاتيح كنيسة المهد؛ فرد الروم على ادعاء الأرمن أنه من قديم الزمان إلى تاريخه لهم (الأرمن) حق الزيارة في أيام محددة على أن يتوجه إلى وكيلهم (الروم) بالقدس، ويأخذوا منهم ورقة إلى رئيس الكنيسة، وهكذا جرت العادة منذ القديم، وحسمت الدولة العثمانية الخلاف بإصدار فرمان إلى متسلم القدس بإبقاء القديم على قدمه، وهذه الخلافات استمرت حتى نهاية القرن التاسع عشر مع حرص الدولة العثمانية على حلها.

وفيما يتعلق بالعلاقات بين النصارى والمسلمين فكان التسامح وحسن الجوار والتعاون صفات مميزة لها منذ بداية القرن التاسع عشر، حيث ظهرت هذه مع قدوم الحملة الفرنسية على بلاد الشام عام 1799م، إذ قدمت طائفة الإفرنج مبلغ مئة ألف قرش إلى الحاج حسن أفندي لتعمير سور مدينة القدس، ولشراء الذخائر للدفاع عن المدينة، وأوقف النصارى بعض أملاكهم على المسجد الأقصى وقبة الصخرة وعلى فقراء المسلمين.

وتمتع النصارى بممارسة طقوسهم الدينية في الأعياد والحج بالحرية الكاملة داخل القدس، ولجأ النصارى إلى محكمة القدس الشرعية للفصل في الخلافات الناشئة على الإرث والطلاق بينهم، لا سيما النساء منهم للحصول على حقوقهن.

وتوترت العلاقات بين الطرفين إثر ثورة المورة عام 1821م؛ إذ هاجم بعض المسلمين أديرة النصارى والبطريركية الأرثوذكسية في القدس، وفي بيت جالا، وعين كارم، وخلال الحكم المصري لبلاد الشام (1831- 1840م) وبخاصة بعد أن ألغيت العوائد والرسوم والضرائب التي كان يدفعها النصارى للمسلمين كافة، باستثناء ضريبة الجزية، جاءت ردة الفعل من قبل بعض المسلمين بمهاجمة أديرة الروم في القدس، ورهبان الكاثوليك، وقام بعض المسلمين بمهاجمة حارات النصارى وبخاصة بعد رفضهم الانضمام للثورة الفلسطينية عام 1834م. ثم عادت العلاقات بين الطرفين إلى سابق عهدها وصدرت فتاوى شرعية بجواز إعطاء صدقة الفطر والزكاة للفقراء من النصارى، كما أن المسلمين أرسلوا بناتهم للتعليم في المدارس التي افتتحت في القدس عام 1835م، من قبل الإرساليات البروتستانتية.

ولكن ساءت العلاقات بين الطرفين إثر اندلاع فتنة عام 1860م، في دمشق ولبنان من دون وقوع أي اعتداء من الطرفين، وساعد على عدم تعرض النصارى لأي اعتداء، صدور فرمان السلطان بوجوب المحافظة على الأمن والهدوء في المدن المحيطة بدمشق لمنع حدوث نزاع بين المسلمين والنصارى، وعادت العلاقات التجارية بين الجانبين، فقد اشترى السيد حسن أفندي جود، رئيس المؤذنين بالحرم القدسي الشريف بالوكالة عن الخواجة (حنا ولد الخوري جريس الرومي) قطعة الأرض الواقعة في قرية لفتا، وساد الود في العلاقات بين الطرفين عام 1877م، ووصف مراسل جريدة (البشير) في القدس العلاقات: "فلله الحمد ترى الجميع من مسلمين ومسيحيين سائرين بالاتحاد والألفة ووحدة الروح، ولا يوجد شيء، ولو جزءًا يكدر صفاء العيش، وظهر أثر الوفاق أولًا لدى صدور الأوامر بتقديم الإعانة لسلطاننا الشرعي".

وقد توصل المؤلف في ختام الكتاب إلى عدة نتائج أبرزها: كانت طائفة الروم الأرثوذكس أكثر الطوائف نفوذًا في المجالات الاقتصادية بحكم الأراضي التي امتلكتها، ومشاركتها في أغلب الصناعات والمهن مقارنة مع أبناء الطوائف الأخرى، وتوليها الوظائف المالية والقضائية، والدينية بسيطرتها على أغلب الأماكن المقدسة، وتقدمها على الطوائف الأخرى بإجراء الطقوس الدينية في الحج والأعياد، باعتبارها أقدم الطوائف وجودًا في القدس، ولكثرة أتباعها، ودعم الدولة العثمانية والروسية لها، كما لم تضع الدولة العثمانية عقبات أمام رعاياها من النصارى، بل أتاحت لهم قدرًا كبيرًا من الحرية، حتى إن تعليمات فرض القيود على النصارى في مجال الملبس وركوب المطايا كانت لهجتها أقوى من تطبيقاتها، فكانت القيود الاجتماعية التي فرضت عليهم شكلية في الغالب..

أيضًا حقق الحكم المصري لبلاد الشام (1831 - 1840م) قسطًا من المساواة الاجتماعية، وأتاح للكنائس فرصة للنمو والتطور، ولم يعد بوسع الدولة العثمانية التراجع عما تم في عهد محمد علي باشا، بالإضافة إلى تدخل الدول الأجنبية والقناصل لحماية الطوائف النصرانية، فأصدر السلطان (خط شريف كولخانة) عام 1839م، و(خط التنظيمات الخيرية) عام 1856م، فأكد الخطان المساواة بين رعايا الدولة العثمانية بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية، كما ساهم النصارى في الحياة الاقتصادية، فكان لهم دور واضح في المجال الزراعي، من خلال امتلاكهم مساحات واسعة من الأراضي الزراعية، إلى جانب تخصصاتهم التي أبدعوا فيها..

فأنتجوا كثيرًا من الصناعات المقدسة التي لها شهرة بالغة في الأسواق الداخلية والخارجية، بخاصة صناعة التحف الدينية والصدفيات، والشموع وغيرها، أيضًا ساهم النصارى في أجهزة الحكم والإدارة من خلال عملهم في الجهاز المالي، وفي الجهاز الإداري، كـ(بلدية القدس، ومجلس الشورى، ومجلس إدارة لواء القدس)، وفي الجهاز القضائي من خلال عملهم في محكمة (البداية والتجارة).

كما تمتع النصارى بالحرية الدينية من خلال إنشاء الكنائس والأديرة وترميمها، ووقف الأوقاف الذرية والخيرية على أفرادها وكنائسها، وحج عدد كبير من النصارى للقدس، واحتفلوا بأعيادهم، مع حرص الدولة العثمانية على توفير الأمن للزائرين النصارى في أثناء الاحتفالات الدينية.

كما تميزت العلاقات بين المسلمين والنصارى في القدس بالود أحيانًا من خلال اتفاق الطرفين في مواجهة الحملة الفرنسية على بلاد الشام (1798 - 1801م) وتقديمهم مبلغًا من المال لشراء الأسلحة والذخائر، ولتعمير سور مدينة القدس، وقامت علاقات تجارية بين الطرفين، ودخل بعض النصارى في الإسلام.


الكتاب: نصارى القدس: دراسة في ضوء الوثائق العثمانية
المؤلف: الدكتور أحمد حامد إبراهيم القضاة
الناشر: الهيئة المصرية العامة للكتاب -القاهرة – مصر
الطبعة: الأولى 2009 م
الصفحات: 576 صفحة من القطع المتوسط
عرض: نادية سعد معوض