الأحكام السلطانية للماوردي - (74) الأرفاق (2)
الأرفاق فهو أرفاق بمقاعد الأسواق، وأفنية الشوارع، وحريم الأمصار، ومنازل الأسفار
الباب السادس عشر: في الحمى والأرفاق
الأرفاق (2)
فصل:
وأما الأرفاق فهو أرفاق بمقاعد الأسواق، وأفنية الشوارع، وحريم الأمصار، ومنازل الأسفار، فيقسم ثلاثة أقسام: قسم يختص الارتفاق فيه بالصحارى والفلوات، وقسم يختص الارتفاق فيه بأفنية الأملاك، وقسم يختص بالشوارع والطرق.
فأمَّا القسم الأول: وهو ما اختُصَّ بالصحارى والفلوات فكمنازل الأسفار وحلول المياه، وذلك ضربان:
أحدهما: أن يكون لاجيتاز السابلة واستراحة المسافرين فيه، فلا نظر للسلطان فيه لبعده عنده، وضرورة السابلة إليه، والذي يختص السلطان له من ذلك إصلاح عورته وحفظ مياهه، والتخلية بين الناس وبين نزوله، ويكون السابق إلى المنزل أحقّ بحلوله فيه من المسبوق حتى يرتحل عنه؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: « »[1].
فإن وردوه على سواء وتنازعوا فيه نظر في التعديل بينهم مِمَّا يزيل تنازعهم، وكذلك البادية إذا انتجعوا أرضًا طلبًا للكلأ، وارتفاقًا بالمرعى، وانتقالًا من أرض إلى أخرى، كانوا فيما نزلوه وارتحلوا عنه كالسابلة، لا اعتراض عليهم في تنقلهم ورعيهم.
والضرب الثاني: أن يقصدوا بنزول الأرض الإقامة فيها والاستيطان لها، فللسلطان في نزولهم بها نظر يراعَى فيه الأصلح، فإن كان مضرًّا بالسابلة منعوا منها قبل النزول وبعده، وإن لم يضر بالسابلة راعى الأصلح في نزولهم فيها، أو منعهم منها ونقل غيرهم إليها، كما فعل عمر حين مصَّر البصرة والكوفة؛ نقل إلى كلِّ واحد من المصرين مَنْ رأى المصلحة فيه؛ لئلَّا يجتمع فيه المسافرون، فيكون سببًا لانتشار الفتنة وسفك الدماء، وكما يفعل في إقطاع الموات ما يرى، فإن لم يستأذنوه حتى نزلوه لم يمنعهم منه، كما لا يمنع من أحيا مواتًا بغير إذنه، ودبَّرهم بما يراه صلاحًا لهم، ونهاهم عن إحداث زيادة من بعد إلَّا عن إذنه.
روى كثير بن عبد الله بن عن أبيه عن جده قال: قدمنا مع عمر بن الخطاب في عمرته سنة سبع عشرة، فكلمه أهل المياه في الطريق أن يبنوا بيوتًا فيما بين مكة والمدينة لم تكن قبل ذلك، فأذن لهم واشترط عليهم أنَّ ابن السبيل أحقّ بالماء والظلّ.
وأما القسم الثاني: وهو ما يختص بأفنية الدور والأملاك، فإن كان مضرًّا بأربابها منع المرتفقون منها، إلَّا أن يأذنوا بدخول الضرر عليهم فيمكنوا، وإن كان غير مضر بهم، ففي إباحة ارتفاقهم به من غير إذنهم قولان:
أحدهما: أنَّ لهم الارتفاق بها وإن لم يأذن أربابها؛ لأن الحريم مرفق إذا وصل أهله إلى حقهم منه ساواهم فيما عداه.
والقول الثاني: أنه لا يجوز الارتفاق بحريمهم إلَّا عن إذانهم؛ لأنه تبع لأملاكهم، فكانوا به أحق وبالتصرف فيه أخص، فأمَّا حريم الجوامع والمساجد فإن كان الارتفاق به مضرًّا بأهل المساجد والجوامع منعوا منه، ولم يجز للسلطان أن يأذن لهم فيه؛ لأنَّ المصلين به أحق، وإن لمن يكن مضرًّا أجاز ارتفاقهم بحريمها[2]. وهل يعتبر فيه إذن السلطان لهم على وجهين منَ القولين في حريم الأملاك.
وأمَّا القسم الثالث: وهو ما اختص بأفنية الشوارع والطرق فهو موقوف على نظر السلطان، وفي نظره وجهان:
أحدهما: أن نظره فيه مقصور على كفهم عن التعدي، ومنعهم من الإضرار، والإصلاح بينهم عند التشاجر، وليس له أن يقيم جالسًا، ولا أن يقدّم مؤخرًا، ويكون السابق إلى المكان أحق به من المسبوق[3].
والوجه الثاني: أنَّ نظره فيه نظر مجتهد فيما يراه صلاحًا في إجلاس من يجلسه، ومنع من يمنعه، وتقديم من يقدمه، كما يجتهد في أموال بيت المال وإقطاع الموات، ولا يجعل السابق أحق، وليس له على الوجهين أن يأخذ منهم على الجلوس أجرًا.
وإذا تركهم على التراضي كان السابق منهما إلى المكان أحق به من المسبوق، فإذا انصرف عنه كان هو وغيره من الغد فيه سواء يراعى فيه السابق إليه، وقال مالك: إذا عرف أحدهم بمكان وصار به مشهورًا، كان أحق به من غيره قطعًا للتنازع وحسمًا للتشاجر، واعتبار هذا وإن كان له في المصلحة وجه يخرجه عن حكم الإباحة إلى حكم الملك.
_________
(1) صحيح: (رواه أبو داود في (كتاب المناسك [2019])، والترمذي في (كتاب الحج [881])، وابن ماجه في (كتاب المناسك [3006])، وأحمد [25190]).
(2) قال منصور بن يونس البهوتي من الحنابلة: قال القاضي: حريم الجوامع والمساجد إن كان الارتفاق بها مضرًّا بأهل الجوامع والمساجد منعوا منه، أي: من الارتفاق بها دفعًا للضرر، ولم يجز للسلطان أن يأذن فيه؛ لأن المصلين بها أحق من غيرهم، وإن لم يكن في الارتفاق بها ضرر جاز الارتفاق بحريمها؛ لأن الحق فيها لعامة المسلمين، ولا يعتبر فيه إذن السلطان ولا نائبه للحرج، ولا يجوز إحداث المسجد في المقبرة (كشف القناع: [2/ 374]).
(3) قال أبو إسحاق الشيرازي من الشافعية: ويجوز الارتفاق بما بين العامر من الشوارع والرحاب الواسعة بالقعود للبيع والشراء؛ لاتفاق أهل الأمصار في جميع الأعصار على إقرار الناس على ذلك دون إنكار؛ ولأنه ارتفاق بمباح، فلم يمنع منه كالاجتياز، فإن سبق إليه كان أحق به؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "مِنَى مناخ من سبق"، وله أن يظلل بما لا ضرر به على المارة من بارية وثوب؛ لأنَّ الحاجة تدعو إلى ذلك، وإن أراد أن يبني دكَّة منع منه؛ لأنه يضيق به الطريق ويعثر به الضرير وبالليل البصير فلم يجز (المهذب: [1/ 426]).
الكتاب: الأحكام السلطانية
المؤلف: أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي، الشهير بالماوردي (المتوفى: 450هـ)
الناشر: دار الحديث القاهرة
عدد الأجزاء: 1
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي]
- التصنيف: