الأحكام السلطانية للماوردي - (79) إقطاع المعادن (4)
إقطاع المعادن، وهي البقاع التي أودعها الله تعالى جواهر الأرض، فهي ضربان: ظاهرة وباطنة.
الباب السابع عشر: في أحكام الإقطاع
إقطاع المعادن (4)
فصل:
وأما إقطاع المعادن، وهي البقاع التي أودعها الله تعالى جواهر الأرض، فهي ضربان: ظاهرة وباطنة[1].
فأمَّا الظاهرة: فهي ما كان جوهرها المستودع فيها بارزًا كمعادن الكحل، والملح، والقار، والنفط، وهو كالماء الذي لا يجوز إقطاعه، والناس فيه سواء، يأخذه من ورد إليه، روى ثابت بن سعيد عن أبيه عن جده أنَّ الأبيض بن حَمَّال استقطع رسول الله صلى الله عليه وسلم ملح مأرب فأقطعه، فقال الأقرع بن حابس التميمي: يا رسول الله، إني وردت هذا الملح في الجاهلية، وهو بأرض ليس فيها غيره من وَرَدَه أخذه، وهو مثل الماء العد بالأرض، فاستقال الأبيض في قطيعة الملح، فقال قد أقلتك على أن تجعله مني صدقة، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: « »[2].
قال أبو عبيد: الماء العد هو الذي له مواد تمده مثل العيون والآبار. وقال غيره: هو الماء المتجمع المعد، فإن أقطعت هذه المعادن الظاهرة لم يكن لإقطاعها حكم، وكان المقطع وغيره فيها سواء، وجميع من ورد إليها أسوة مشتركون فيها، فإن منعهم المقطِع منها كان بالمنع متعديًا وكان لما أخذه مالكًا؛ لأنه متعدٍّ بالمنع لا بالأخذ، فكُفَّ عن المنع وصرِفَ عن مداومة العمل؛ لئلَّا يثبته إقطاعًا بالصحة، أو يصير معه كالأملاك المستقر.
وأمَّا المعادن الباطنة: فهي ما كان جوهرها مستكنًا فيها لا يوصل إليه إلَّا بالعمل؛ كمعادن الذهب والفضة والصفر والحديد، فهذه وما أشبهها معادن باطنة، سواء احتاج المأخوذ منها إلى سبك وتخليص أو لم يحتج.
وفي جواز إقطاعها قولان:
أحدهما: لا يجوز كالمعادن الظاهرة، وكل الناس فيها شرع.
والقول الثاني: يجوز إقطاعها؛ لرواية كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني عن أبيه عن جده عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «
»[3].
وفي الجلسي والغوري تأويلان:
أحدهما: إنه أعلاها وأسفلها، وهو قول عبد الله بن وهب.
والثاني: إن الجلسي بلاد نجد، والغوري بلاد تهامة، وهذا قول أبي عبيدة، ومنه قول الشماخ من الطويل:
فمرت على ماء العذيب وعينها*** كوقب الحصى جلسيها قد تغورا
فعلى هذا يكون المقطع أحق بها، وله منع الناس منها.
وفي حكمه قولان:
أحدهما: إنه إقطاع تمليك يصير به المقطع مالكًا لرقبة المعدن كسائر أمواله في حال عمله، وبعد قطعه يجوز له بيعه في حياته، وينتقل إلى ورثته بعد موته.
والقول الثاني: إنه إقطاع إرفاق لا يملك به رقبة المعدن، ويملك به الارتفاق بالعمل فيه مدة مقامه عليه، وليس لأحد أن ينازعه فيه ما أقام على العمل، فإذا تركه زال حكم الإقطاع عنه وعاد إلى حال الإباحة؛ فإذا أحيا مواتًا بإقطاع أو غير إقطاع، فظهر فيه بالإحياء معدن ظاهر أو باطن ملكه المحيي على التأبيد، كما يملك ما استنبطه من العيون واحتفره من الآبار.
__________
(1) قال أبو إسحاق الشيرازي من الشافعية: وأمَّا المعادن فإنَّها إن كانت من المعادن الظاهرة لم يجز إقطاعها؛ لما روى ثابت بن سعيد بن أبيه عن جده أبيض بن حمَّال أنه استقطع النبي صلى الله عليه وسلم ملح المأرب فأقطعه إياه، ثم إنَّ الأقرع بن حابس قال: يا رسول الله، إني قد وردت الملح في الجاهلية وهو بأرض ليس بها ملح ومن وَردَه أخذه، وهو مثل الماء العد بأرض، فاستقال أبيض بن حمَّال فقال أبيض: قد أقلتك فيه على أن تجعله مني صدقة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «
».وإن كانت من المعادن الباطنة فإن قلنا: إنَّها تملك بالإحياء جاز إقطاعه؛ لأنه موات يجوز أن يملك بالإحياء، فجاز إقطاعه كموات الأرض، وإن قلنا: لا تملك بالإحياء، فهل يجوز إقطاعه فيه قولان:
أحدهما: يجوز إقطاعه؛ لأنه يفتقر الانتفاع به إلى المؤن، فجاز إقطاعه كموات الأرض،
والثاني: يجوز؛ لأنه معدن لا يملك بالإحياء، فلم يجز إقطاعه كالمعادن الظاهرة، فإذا قلنا: يجوز إقطاعه لم يجز إلّا ما يقوم به لما ذكرناه في إقطاع الموات (المهذب: [1/ 427]).
(2) حسن: (رواه الترمذي في (كتاب الأحكام [2380])، وابن ماجه في (كتاب الأحكام [2475])، والدارمي في (كتاب البيوع [2608])، وحسَّنَه الشيخ الألباني).
(3) حسن: (رواه مالك في (كتاب الزكاة [582]، وأبو داود في (كتاب الخراج [3062])، وحسَّنَه الشيخ الألباني).
الكتاب: الأحكام السلطانية
المؤلف: أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي، الشهير بالماوردي (المتوفى: 450هـ)
الناشر: دار الحديث القاهرة
عدد الأجزاء: 1
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي]
- التصنيف: