حديثٌ مع يهوديّة في أحد شوارع تل أبيب
كنتُ قد قلتُ سابقًا، بيقينٍ وإيمان، أننا لا نشعر بقيمة النعمة وكبرها، إلا حين التكلّم عنها. وأننا إذ نُسأل عن حالنا وأحوالنا، ونُسهب في الشرح والكلام، نستشعر رحمات الله التي تحفّ أضيق زوايا وتفاصيل حياتنا...
كنتُ قد قلتُ سابقًا، بيقينٍ وإيمان، أننا لا نشعر بقيمة النعمة وكبرها، إلا حين التكلّم عنها. وأننا إذ نُسأل عن حالنا وأحوالنا، ونُسهب في الشرح والكلام، نستشعر رحمات الله التي تحفّ أضيق زوايا وتفاصيل حياتنا...
كان حديثي اليوم نادرًا من نوعه، بل قل: غير مُخطط له ولا مُتوقّع! كُنت في طريقي إلى شقّتي الجديدة التي استأجرتها بجانب الجامعة في مدينة تل أبيب، أو بالفلسطينية: الشيخ مونّس؛ الطريق من الجامعة إلى الشقّة يمتد في شارع طويل، فأخذت أهرول كي أصل قبل غروب الشمس التّام... وفجأة، أسمع صوتًا يخاطبني من خلفي بنبرة مستخفّة مستفّزة مشمئزّة: "تجيدي لي! آت موسليميت؟" أي: قولي لي! أنتِ مسلمة؟
بالله عليكِ يا هذه؟ ألا ترين حجابي؟ نظرت إلى الخلف، فإذا بيهودية تقترب نحوي لتمشي بجانبي، لتكمل الحديث بعد أن رددتُ عليها بِ:نعم!
خفت في بادئ الأمر، ماذا تريد هذه مني؟ مش ناقصني جدالات وحكي ملوش طعمة!
"آز لاما أت كول كاخ مكوساه؟" قالتها بالتشديد على الخاء في كلمة كاخ، وكأنها تقول: كاخخ!
وكول كاخ تعني: لهذه الدرجة أو بالعامية: هلقد، أو هكذا ولكن مع التوكيد ...
وأمّا سؤالها فيعني: إذًا لماذا أنتِ مغطّاة لهذه الدرجة؟!
شعرتُ من نبرتها هذه كأنها تزدري لباسي، وكأن "غطائي" هذا يهينني.. لا أدري، رهبة الموقف أكبر من أن تُفصّل بكلماتٍ على ورق!
أريتها مني حُسنًا، وأوّل ما خطر لي كان قوله تعالى.. {ذَٰلِكَ أَدْنَىٰ أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ} [الأحزاب:59].. وأخذ عقلي يردد: فلا يؤذين يا آية!
وبدأت بالحديث: أعطانا الله جسدنا لنحافظ عليه، فهو أمانة ويجب علينا أن نحميها، وبتغطيتي لجسدي فأنا أحمي نفسي من أذًى قد أتعرض له في حياتي، وبتغطيتي لجسدي أشعر بأمانٍ أكبر، أشعر بأن جسدي لي وحدي، ولا يحق للرائح والغادي أن ينظر إليه..
تطلّعت حولي لأجد جُلّ الأخريات الماشيات حولي في الشارع أنصاف عاريات... وأكملت الحديث: إنني، حتى بخماري المُسدل على صدري، أشعر بأمانٍ كبير، فأنا حين أكلّم أحدهم (أي من الذكور)، أكلّمه بعقلي، لا أحتاج منه ولا يحتاج مني سوى التواصل بين العقول، فلِمَ أكشف من جسدي ما قد يعرّضني للأذى ولا يؤثّر على جودة ما أقول؟ أنا أكلمك رأسًا لرأس، عقلاً لعقل، لا أريد منك سوى أن تفهمني وأفهمك، ولا يحق لك النظر إلى أي جزء منّي!
وهي تهزّ برأسها، وكأنها تقول لي: نعم، نعم، أتفهمك!
قلت لها الكثير الكثير.. أعطيتها بقدر ما فتح الله عليّ.. حتى سألتني: وما بال النسوة اللاتي يغطينّ وجوههن وأيديهن؟ أراهن على التلفاز! ولا أفهم لماذا يرتدون هكذا!
نظرت إليها وقلت: هل عندكِ شيءٌ ضدّهن؟ قالت لي: لا، أنا فقط أسأل!
قلت لها أنهم يرون أن على المرأة المُسلمة أن تغطّي وجهها أيضًا، وتكلّمت عنهن بحبٍ كبير وحاولت إشعارها بذلك... ثم ذكرت لها قصة أحد الملوك الغربيين الذي لم يرد لأي أحد بأن ينظر لزوجته فكان يجبرها على تغطية كل جسدها بما فيه وجهها وعينيها حين الخروج، وقلت لها: تخيّلي، هذا ليس مسلما ولم يرد لأحد أن ينظر لزوجته!
أجابتني بأنه "يوجد منطق" في كلامي.. وقالت أشياء أخرى لم أفهمها بسبب لهجتها الغريبة عليّ، ولكن كان ظاهر القول أنها توافق الكلام، ثم ذكرت لي اسم موقع إلكترونيّ يريدون به إنقاذ النساء أو ما شابه، فظننت أنه أحد المواقع التي تريد أن تنقذ النساء من الحجاب الذي فرضه الإسلام عليهنّ، فسألتها بنبرة حائرة: وعمّ يتكلم هذا الموقع؟ فقالت لي: به كلّ ما قلتيه!
وحينها نظرت إليها بتعجبّ كبير قائلة: يعني أنتِ مُقتنعة بكلّ ما قلت؟ وقبل أن أسمع إجابتها لاحظت لباسها: فستان تحته قميص ذا أكمام طويلة! "نعم، أنا مقتنعة بما قلتيه، وأؤمن أن على المرأة أن تلبس باحتشام وتواضع" قالت لي أن ديانتها هي اليهودية، وفهمت أنها يهوديّة متديّنة.
وصلنا إلى مفترق الطرق بعد مسارٍ دام دقائق معدودة، لكنه منحني الفرصة لأتكلّم فيه عن شرائع ديني بحبٍّ وثقة وفخر، لكن للأسف لم أكتفِ! شكرتني على الإجابة، ابتسمت لها قائلة: "ألقي نظرة على ديننا، ديننا جميل!" هزّت برأسها مُبتسمةً، ذهبَت يسارًا وأكملت أنا الطريق.
سعادتي في تلك اللحظة بالكاد وسعتني، كدتُّ منها أطير! نظرت إلى نفسي وأنا أمشي: خمارٌ مُسدل وجلابيّة فضفاضة... يااه! ما أجمل الستر والاحتشام! ما أجمل الحجاب! ما أرحم ربّي بي إذ أنعمني بنعمة كهذه!
شعرتُ بأسمى معاني الحبّ والامتنان، حتى تذكرّت أمورًا أخرى تحزنني:
من الطبيعيّ أن اليهود يتساءلون عن سرّ حجاب المسلمات هذا، فمنهن من ترتدي البنطال والقميص الضيّق الذي يفصّل كل تفاصيل جسدها، ومنهن من ترتدي الحجاب الشرعيّ الفضفاض، الذي لا يصف ولا يشف، ومنهنّ من ترتديه مع إظهار للرقبة وتبرّجٍ رهيب، ومنهن من ترتديه لكن ليس عندها أدنى مشكلة أن تشمّر عن ساعديها، أو أن تُظهر جزءًا من الشعر، ومنهن من ترتدي الجلباب المفتوح من الأسفل حتّى الركبتين، المفصّل لكل الجسد.. وهكذا.. يتفاوتون!
وتأسفت على حالنا، سبحان الله، كيف لكِ يا أخيّتي بأن تمثلّي الحجاب الذي أمركِ الله بلبسه، بهذه الملابس؟ كيف يفهم غير المسلمون ما يطلبه الحجاب منّا، حين يرون من فتيات المسلمات عجب العجاب؟ كيف؟
قولي لي أنتِ، يهوديّ في الجامعة، يرى مسلمة ترتدي الحجاب والجلباب الفضفاض، وأخرى ترتدي جلبابًا ضيّقا، وأخرى تلبس البنطال، وأخرى لا ترتدي الحجاب، أتراه حينها سيسأل نفسه عن سرّ هذا اللباس؟ أتراه يحاول فكّ عقدة غطاء الرأس وتفاوت ألبسة سائر الجسد؟ أتراه؟ قطعًا لا!
وتخيّلي أخيّتي، لو أننا نرتدي كلّنا الحجاب الشرعيّ المطابق للمواصفات، سيكون جليًّا للجميع حينها، أن الحجاب يصوننا، يحمينا، يميّزنا، يجعلنا نحن مختلفات عن غيرنا! سيصرخ في وجوه الذئاب حينها: لا يحق لأيٍّ كان النظر إليّ، فلستُ أنا التي تهتك سترها وتعرض ما نهاها الله عن كشفه، لستُ أنا التي تتمتع أنتَ بالنظر إليها، كأنّي دُمية لا حُرمة لجسدي ولا ستار!
لستُ أنا التي تمشي وسط الجميع كاشفةً مفاتنها، لستُ أنا!
أنا التي أدّت فرض ربّها وطبّقت شريعة دينها، أنا التي لا أسمح لمخلوق أيًّا كان أن يخدش حيائي ولو بشعرة، أنا التي أمشي بكل فخر واعتزاز بحجابي، مُعلنةً للجميع: اشهدوا إسلامي! أنا التي أسلمت لأمر ربّها، وفهمت مراده منه، فكان الحجاب لها حمايةً من شرور الخلق! تلك أنا، المسلمة الفخورة بإسلامها!
آية سليم
كاتبة إسلامية
- التصنيف:
- المصدر: