الحياة مع الكتب!

منذ 2014-11-06

من مقاعد الدراسة والكتاب قرينٌ لنا.. نحمِله بين أيدينا ويحمِلنا بين دَفَّتيه، يُخاطبنا بما فيه ونردُ عليه بخطٍ رقيق بين سطوره أو كلماتٍ في زواياه، نملُّ ما يستعصي علينا فَهمه ونكره مجالسته، ونحب الذي يُوافِق رغباتنا ونشتاق إليه حتى إذا انتهت حاجتنا منه تحرّكت نوازعنا تجاهه؛ ورأينا أثره في نفوسنا بأثرنا فيه فإهماله والعبث به أو تقديره والمحافظة عليه دليل شعورنا نحوه، نتحدَّث عنها كما لو كُنَّا عِشنا معها.

بسم الله الرحمن الرحيم

يمكننا أن نتصوّر الكتب كالبشر.. أجناسٌ وألوان، صغارٌ وكبار، عقلانيةٌ وعاطفية، معتدلةٌ ومتطرفة، سطحيةٌ ومتعمقة. تجمعنا بها الصدفة ويدفعنا نحوها الفضول، تربطنا بها الحاجة أو الرغبة ردحًا من الزمن ثم تنقطع الصلة! وما إن يخطر أحدها ببالك أو تقع عينك عليه حتى تتذكر أول مرة رأيته فيها، والأيام التي قضيتها معه والحال التي كنت عليها إذ ذاك والأشياء التي أفدتها منه، فمنها ما نُجِلُّه ونُقدِّره ومنها ما نُحبه ومنهما ما نبغضه وآخرٌ لا نعرف شعورنا نحوه لأنه لم يترك في نفوسنا أثر.

من مقاعد الدراسة والكتاب قرينٌ لنا.. نحمِله بين أيدينا ويحمِلنا بين دَفَّتيه، يُخاطبنا بما فيه ونردُ عليه بخطٍ رقيق بين سطوره أو كلماتٍ في زواياه، نمَلُّ ما يستعصي علينا فَهمه ونكره مجالسته، ونحب الذي يُوافِق رغباتنا ونشتاق إليه حتى إذا انتهت حاجتنا منه تحرّكت نوازعنا تجاهه؛ ورأينا أثره في نفوسنا بأثرنا فيه فإهماله والعبث به أو تقديره والمحافظة عليه دليل شعورنا نحوه، نتحدَّث عنها كما لو كُنَّا عِشنا معها.. فذاك مزعجٌ نتجنّب حتى النظر إليه وذلك مُنصِفٌ وإن اختلفنا معه وآخر مُفسِد نحذَره ونُحذِّر الناس منه، تأسرنا بساطة الأسلوب وجمال الفكرة ونكره التكلُّف والتعالي.

نمرُّ على الآلاف منها تشاركنا بيوتنا وأماكن عملنا ومنتدياتنا نرمقها بالنظرات، يدفعنا الفضول للسؤال عنها وتتوق نفوسنا للتعرُّف على بعضها تلفتنا أشكالها وأسمائها في البدايات ثم يصبح المضمون هاجسنا فقد حنّكتنا التجارب؛ فبمجرّد الوقوف على عنوان أحدها أو تقليب صفحاته نخرج بانطباعٍ عنه رسمته الصورة الذهنية التي كوَّناها عبر السنين - من خلال التعامل مع نظرائه فنشعر بالألفة لِما يُشبهنا وننفر من ما يستفزّنا ونقف موقف الشكِّ والحذر مما يُشكَل علينا فهمه.

نكبر وتكبر كُتبنا معنا.. فمِن تلك التي شاركتنا براءة الطفولة وسذاجة البدايات في مسلمات التكوين والتي فُرِضَت علينا دون اختيارٍ مِنَّا حتى تقبّلناها، كما ألفنا أهلينا ومجتمعنا الذي وُجِدنا فيه بغير اختيارنا، نحاكي ما نرى ونسمع. يقودنا الحرف إلى الكلمة والصورة إلى المعنى وتأخذنا قصص ما قبل النوم إلى مدى الأحلام.

وما أن نكبر قليلًا حتى نُغادِر تلك الصحبة إلى قدرٍ من خصوصية الرأي واستقلال الذات؛ فنبحث عمَّا يُشبهنا ويعرف حاجاتنا، فنجد في روايات الغرام وقصص الأبطال والمغامرين متعة التحرُّر من القيود والإنطلاق في الحياة نتقمّص شخوصها ونعيش حالاتها، فنشعر بنشوة الشباب وكأننا بين أقراننا.

ثم تمرُّ بنا سنوات العمر ونصِل إلى مُفترَق الطُرق فقد بلغنا حدَّ الإختيار، وأصبح همّنا ما سنكون لا ما نحن عليه. فنبدأ برسم مَعالِم مستقبلنا ونختار بيئتنا ورفقتنا بناءًا على أهدافنا ولم تعُد غايتنا من الكتاب متعة المجالسة أو قضاء وقت الفراغ؛ وإنما السير الجاد نحو الهدف ولم نعُد نكتفي بالقول الواحد والرأي السائد بل نقابل قول هذا بذاك ورأي السابق باللاحق..

حتى إذا صقلتنا المخالطة ونضجتنا المدارسة صبغتنا كُتبنا بصبغتها وطبعتنا بطابعها، فنجد أنَّا قد بلغنا حدّ التماهي في علاقتنا مع بعض كُتبنا فهي تخصُّنا وتُعنينا، فقد قضينا معها السنين الطوال.. سامرتنا حين نام السُّمّار، روت لنا الأخبار وكاشفتنا الأسرار، كانت رفيقنا في السفر وأنيسنا وقت الضجر أعطتنا بلا مِنَّة، وعاشرتنا بلا هنة فهي لنا الخل الوفي والعشير القريب نُحبها ونخشى عليها وندافع عنها.

بينما نجد أننا نحتفّظ ببعض كُتبنا للحاجة فإذا احتجناها جلسنا إليها ثم تركناها لنعود إليها في وقتٍ آخر؛ فهي بمنزلة المُعلِّم الذي يُفسِّر لنا ما أَشكَل علينا أو يدلنا على ما قد يغيب عنَّا.

من الكتب ما مرَّ علينا مرور الكرام.. كبعض الذين كانوا زملاء وأصحاب جمعتنا بهم التسلية عن الهموم وتضييع أوقات الفراغ ثم طوتهم صفحة الأيام ولم تعُد الذاكرة تُسعِفنا حتى بأسمائهم، مشاعرنا نحوهم فاترة، فقد كانوا مجرّد عابرين في حياتنا لم نستوقفهم ولم يستوقفونا.

وكما أن بعض الذين عرفناهم كان ضَرُّهم أكبر من نفعهم ولم يكن لنا بُدٌ من قطع صِلتنا بهم - خوفًا على ثوابتنا ومبادئنا. فكذلك الكتب فكم ندمنا على ضياع وقتنا في قراءة كتاب لم يزدنا شيئًا وكم خشينا من بعض الكتب أن تكون سببًا في تلويث أفكارنا وفساد سلوكنا.

قِلَّةٌ مِنَّا يُدرِكون أن حياة الفرد مِنَّا بما حَوَتْه من أقوالٍ وأفعالٍ حتى خلجات النفس وخطرات الفِكر مُسطّرٌ بين دَفَّتَي كتاب.. ضمّنَّاه حتى سرائر نفوسنا التي خَفيت، ودقائق أعمالنا، أمليناه بغير إرادتنا ولم تخُطُّه أيدينا. يمكننا أن نُسمِّيه كتاب الأيام لأنه صورةٌ وصفيةٌ لحياتنا بأدق تفاصيلها الظاهرة والباطنة؛ فهو ذاتنا على حقيقتها دون زيفٍ ولا غطاء، وفي يومٍ تنقطع فيه أواصر الصِّلة بين البشر فلا قريبٌ ولا صديقٌ حميمٌ يكون قريبنا الذي لا يفرّ مِنَّا، وصديقنا الذي لا يكذِبنا ورفيقنا إلى حيث نكون.

 

أحمد آل هداف
 

المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام