ومن الناس (1)

منذ 2014-11-13

من العلم النافع، والفقه الدقيق، النظر في أحوال الخلق، بغية التبصر فيها، وفحصها، وتمييز محمودها من مذمومها، وحمل النفوس على معالي الأمور، والحذر من الوقوع في سفسافها والحياة الاجتماعية مرآة صقيلة تنعكس عليها تلكم الطباع، وتتمخض عنها انفعالاتهم، وكثيراً ما تجري الماجريات اليومية، دون رصد أو تفكر، وتتكرر المواقف والأخطاء بسبب عدم الدرس والفقه.


الحمد لله الذي يعلم من خلق. والصلاة والسلام على من علم فرفق، أما بعد:
فإن الله تعالى قد فاوت بين عباده في طباعهم وأخلاقهم، كما فاوت بينهم في خِلقتهم وأرزاقهم.
وذلك التفاوت مستمدٌ من أصل تركيبهم، ومادة وجودهم، فقد روى الترمذي من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض، فجاء بنو آدم على قدر الأرض؛ فجاء منهم الأحمر والأبيض والأسود، وبين ذلك، والسهل، والحزن، والخبيث، والطيب» (قال أبو عيسى هذا حديث حسن صحيح، ورواه أحمد وأبو داود، وقال الألباني: صحيح).

ولمَّا كان الأمر كذلك، كان من العلم النافع، والفقه الدقيق، النظر في أحوال الخلق، بغية التبصر فيها، وفحصها، وتمييز محمودها من مذمومها، وحمل النفوس على معالي الأمور، والحذر من الوقوع في سفسافها والحياة الاجتماعية مرآة صقيلة تنعكس عليها تلكم الطباع، وتتمخض عنها انفعالاتهم، وكثيراً ما تجري الماجريات اليومية، دون رصد أو تفكر، وتتكرر المواقف والأخطاء بسبب عدم الدرس والفقه.

ويلحظ المرء، بشكل جلي طريقة القرآن في توصيف الناس، وتصنيفهم تصنيفاً إيمانياً أو خلقياً، من خلال البادئة القرآنية: (ومن الناس)، أو ما شبهها، أو كان تفريعاً عليها، مثل (ومنهم)، سواء في مقام الحمد، أو الذم.

كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يستعمل هذا الأسلوب بطرق شتى، لا تجبه أصحابها بالمعرة، ولا توقعهم في الحرج، كأن يقول: «ما بال أقوام يفعلون كذا!»، وهذا لون مختلف عما يمارسه بعض الناس من الوقيعة، والتشهير، والأخذ بالظنة، والخوض في الأعراض، واتهام النيات، فبين إدانة الخطأ بوصفه خطأً، وإدانة المخطئ دون روية ونظر في معاذيره بون شاسع، وبين نسائم النصح والشفقة، وفحيح التشفي والانتقام فرق هائل في المبدأ، والمنتهى.

ولمَّا كانت هذه طريقةً قرآنية، ومسلكاً نبوياً في البيان والتربية، كان من المناسب الشروع في سلسلة حلقات بعنوان (ومن الناس)، نستهلها بالمنصوص عليه في كتاب الله، ثم نثنِّي بما مثَّل به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم بما أدركه العلماء الربانيون، الذين سبروا أحوال الخلق، ورأوا بنور الله، ونحاول في الأثناء التماس الصور الواقعية، والممارسات العملية، التي يجترحها الناس، ليتميز الخبيث من الطيب، ويلحق كل فرع بأصله، عسى أن يكون في هذه التأملات ما يجلي الغشاوة، ويزيل الاشتباه، والله المستعان، وهو الهادي إلى سبيل الرشاد.
 

المصدر: مركز المشير للاستشارات التعليمية والتربوية

أحمد بن عبد الرحمن القاضي

أستاذ في قسم العقيدة بجامعة الإمام محمد بن سعود