أسباب السماء

منذ 2014-11-20

لننصر الله استقامة على أمره، ويقيناً بنهجه، وثقة بنصره، وصدقاً في التوكل عليه، ودواماً في الالتجاء والإنابة إليه، فسترون الأبواب وهي تفتح، وسترون السدود وهي تدمر، وسترون أبواب السماء وهي تفتح مرة أخرى، وثانية، وثالثة، فإن سنة الله ماضية في نصر أوليائه المؤمنين: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ‌ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم: من الآية 47] ، فلنأخذ بأسباب الاستقامة، ولندمن دوام الاستعانة، وليكن شعارنا الالتجاء، ولنطرب ألسنتنا بالدعاء، ولنحرص دائماً بالاستعلاء بالإيمان في كل آن وحين.

الخطبة الأولى:

أوصيكم بوصية الله سبحانه وتعالى، في كل آنٍ وحين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102]..

قد تمر بالمرء ظروف عصيبة وأحداث رهيبة، قد يضيق الصدر ويعظم الهم ويكثر الغم، قد توصد في الوجه الأبواب وتغلق نحو الآمال الطرق، قد يجد المرء نفسه مكبلاً بقيود كثير? ومحاطاً بشرور عظيمة، فالمخرج وأين الدواء؟ وكيف السبيل إلى مواجهة الأعاصير والأنواء.

مثل نضربه دائما إنه مثل الماء المتدفق الجاري إن وجد عارضاً التمس طريقاً آخر، إن سده أمامه طريق في سطح الأرض دخل إلى أعماقها، لا يمكن أن يوقفه شيء وتبقى خصائصه كما هي يبقى الماء ماءً بصفائه ونقائه لا يتحول إلى زيت أو إلى أي سائل آخر كدر، وتبقى أيضاً خصائصه التي فيها الرواء، والعطاء، والغذاء، هذا المثل هو الذي نريد أن ننظر إليه في صورة حية، وقدوة عظمى، وأسوة مثلى، {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21].

وسيد الخلق صلى الله عليه وسلم لم تمر ظروف عصيبة في غاية الشدة مثل ما مرت به؛ لكن ماءه المتدفق ظل يلتمس الطرق يمنة ويسرة؛ لكن طهارته، ونقاءه، وسمو أخلاقه، ظلت تشع وتشرق في كل الظروف، وسائر الأحوال لكن عطاءه وخيره وبره وإحسانه ظل موصولاً لكل أحدٍ حتى لو كان من أعدائه وخصومه.

ونحن اليوم تدور علينا دوائر كثيرة على مستوى الفرد والأمة؛ يتسلط الأعداء يحتلون الديار يهينون المسلمين يعتدون على الحرمات يدنسون المقدسات كما نرى في فلسطين، وغير فلسطين.

قد يمر بنا أيضاً تسلط في مجتمعاتنا يكون القول فيها لأهل الباطل، والفسق، والفجور، وتكون كلمة الحق محاصرة، وأصحاب الخير مجرمون؛ كما نرى في صيغ ورسائل وسائل إعلام كثيرة في مجتمعاتنا.

أنقلكم إلى هذه الأحداث التي تعرفونها من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم بعد مسيرة طويلة من الدعوة والجهاد باللسان قبل السنان، وعلى مدى نحو عشر سنوات في مكة المكرمة، وقريش صناديدها معرضون، وبالأذى والكيد يتآمرون، وبكل الأحوال للأصحاب وللمؤمنين يحاربون، أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يلتمس لمائه العذب الرقراق طريقاً آخر. لا يتوقف لا ييأس إذا صدت أبواب الأرض التجأ إلى أبواب السماء مضى إلى الطائف والعجب كيف مضى إليها كيف سافر؛ لو كان سيراً على الأقدام لكان أمراً شاقاً عصيباً؛ ولو كان ركوباً بالدابة فالأمر كذلك اليوم نصعد ونركب السيارات بالطرق المعبدة ومع ذلك نرى أننا وصلنا إلى مكان بعيد عالٍ شاق مضى النبي صلى الله عليه وسلم وحيداً لم يثبت في السيرة أن معه أحداً من أصحابه البتة، مضى إلى الطائف يلتمس قلوباً تقبل على الخير، مضى يريد للحق أنصاراً وأعواناً، والصورة روتها كتب السيرة، وبعض كتب السنة بتفصيلات مختلفة.

في سياق ما ذكره ابن إسحاق أنه صلى الله عليه وسلم لما انتهى إلى الطائف عمد إلى نفر من ثقيف، هم يومئذ أشرافهم وسادتهم وقصد ثلاثة نفر منهم إخوة عبدياليل بن عمر وأخوه مسعود وأخوه حبيب، عرض عليهم الإسلام والإيمان بعد رحلة شاقة في السفر، وبعد مسيرة عشر سنوات من دعوة بذل فيها ما بذل ما الذي وجده صلى الله عليه وسلم؟ أما أحدهم فقال: سأمرط ثوب الكعبة بيدي هاتين إن كنت نبياً...صد باستهزاء، وأما الآخر فقال: مقالة أشد وأشنع أما وجد الله غيرك ليرسله إلى الناس! يقال هذا لسيد الخلق صلى الله عليه وسلم، ويأتي الثالث فيقول: والله لا أكلمك أبداً فإن كنت صادقاً فيما تزعم أنك نبيٌ، فإنك أخطر من أرد عليك، وإن كنت كاذباً فلا أكلم كاذبا.

حزن المصطفى صلى الله عليه وسلم وقال لهم أما وقد قلتم ما قلتم فاكتموا عني؛ أراد ألا يعلم أحدٌ بهذا الموقف لأنه خرج من مكة يأمل أن يجد نصراً، وتأييداً، كيف سيرجع إليها كيف سيلقاه صناديد قريش، بعدها لكنهم لم يفعلوا بل أشاعوا ذلك، وأغروا به سفهاءهم. صاروا يسيرون خلفه صبياناً ورعاعاً يسيئون إليه، ويقذفونه بالحجارة حتى دميت أقدامه صلى الله عليه وسلم كيف ترون الحالة، كيف يمكن أن نصور هذا الهم، والغم، والكرب، والعناء، والصد، والإعراض الذي لقيه النبي صلى الله عليه وسلم. بعد كل هذا الجهد والعناء التجأ إلى حائط يلتقط أنفاسه، ثم التمس طريق الفرج، وبحث عن مفتاح القوة: «اللهم أشكوا إليك ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، إلى من تكلني إلى بعيد يتجهمني، أم إلى عدو ملكته أمري، إن لم يكن بك علي غضبٌ فلا أبالي؛ ولكن عافيتك أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات أن يحل بي غضبك، أو ينزل بي سخطك»، وهنا تبددت الهموم، وانزاحت الغموم، وحل اليقين وانسكب الرضا، وعادت القوة، وترسخ الثبات، وانفتحت أبواب الأمل، وأشرقت أبواب الخير، في وجه المصطفى صلى الله عليه وسلم، وتحقق الأمر وشيكاً فإذا الحائط لابني ربيعة، وقد رأيا في حال النبي صلى الله عليه وسلم ما رق له معه قلبهما فأرسلا مع غلام لهما يقال له عداس شيئاً من عنب ليأكل النبي صلى الله عليه وسلم وفي هذا الموقف لم يكتف النبي صلى الله عليه وسلم بشكر وثناء لأن الماء يشق طريقه إلى هدفه يعطي عطاءه ويقدم رواءه... «من أين أنت؟ من نينوا، «بلد العبد الصالح يونس بن متى، وتعرف يونس بن متى؟ فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إنه نبي وأنا نبي». في بعض الروايات أن عداس أسلم وكان من موقفه ما جعل سيداه يسألانه قال لهم هذا خير أهل الأرض، جاء إلى حائطكم.

التمسوا ذلك، وانظروا إلى مثل خطر بذهني الآن يوسف عليه السلام بعد أن كانت له المواقف المشرفة في العفة جاءت له التهمة الظالمة بالفسق والفجور ثم جاء الحكم الجائر الظالم بإدخاله إلى غياهب السجون، وفي ظلمة السجن يسأل عن الرؤيا فيبدأ بالدعوة إلى الله عز وجل، ويخبر عن ألوهية الله، ووحدانيته قبل أن يتحدث في تأويل الرؤيا لأن هذه الأمور لا ينبغي أن تنال من يقين المؤمن، لا ينبغي أن تطعن في ثقته بربه، ولا أن تؤثر في رضاه بقدر الله، ولا أن تزرع في نفسه اليأس والعياذ بالله.

خذوا مزيداً من ذلك من سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم فإن كتب السيرة تذكر لنا أن هذا العام كانت فيه مثل هذه الملابسات، وكان فيه أمران عظيمان دخل بسببهما إلى نفس النبي صلى الله عليه وسلم حزن شديد: موت أم المؤمنين خديجة بنت خويلد رضي الله عنها، الزوجة الصالحة المساندة التي كانت مصدر من مصادر التثبيت، والتسرية، والتسلية للمصطفى صلى الله عليه وسلم، وموت أبي طالب عمه؛ الذي كان يدافع عنه، ويحميه، فاجترأت قريش، وبالغت في اشتداد الأذى على أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، وبعدها كما تذكر كتب السير جاءت رحلة الطائف، واشتد الأمر، وازداد الكرب وفي بعض كتب التفسير الرواية التي وردت في تفسير قوله جل وعلا: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ} [الأحقاف: 29]. ذكر بعض أهل التفسير أن هذا وقع وقت انصراف النبي صلى الله عليه وسلم من الطائف، وكأن لسان الحال يقول إن أعرض عنك الإنس، فإن الله ساق لك الجن ليستمعوا، وينصتوا، ويصغوا، ويقبلوا، ويسلموا، مع محمد صلى الله عليه وسلم.

وننظر أيضاً إلى كل هذه الأحداث في سياق السيرة، وقد ذكر أكثر أهل السيرة أن هذه الأحداث جاء عقبها التكريم الرباني الأعظم لرسول الهدى صلى الله عليه وسلم برحلة الإسراء والمعراج. بعد أن صدت الأرض طرقها وأوصدت أبوابها، يدعو الحق جل وعلا حبيبه صلى الله عليه وسلم لتفتح له أبواب السماء سماءً إثر سماء ليلقى لقاء اليقين إخوته من الرسل والأنبياء واحداً فواحداً، وليصلي بهم في مسراه صلى الله عليه وسلم إماماً لتأكيد إمامته، وختمه للرسل والأنبياء، فجاء ذلك الفرج الأعظم والنصر الأكبر، والتأييد الرباني لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه كان واثقاً بربه، صادقاً في توكله عليه، واثقاً من يقينه بنصره سبحانه وتعالى، لم يتطرق إلى قلبه ذرة شك، ولا وهن ينال من عظمة إيمانه، ورسوخ يقينه صلى الله عليه وسلم. وفي هذه الرحلة كما تعلمون جاء فرض الصلاة معراج أرواح المؤمنين، إلى ربّ العالمين في كل وقت، و?ن، وحين؛ ليكون الفرج دائماً معنا بفضل الله عز وجل ثم بهذا النبي صلى الله عليه وسلم، وما أكرمه الله به، فكأن الله جل وعلا من خلال هذا الدين العظيم ورسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم قد فتح لنا في كل آنٍ وحين، أبواب الفرج، ومفاتيح الأبواب المغلقة.

وفي ذلك الحديث القدسي الصحيح من رواه أبو هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رب العزة والجلال يقول: «قسمتُ الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، فإذا قال {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} قال الله جل وعلا -ربّ الأرباب ملك الملوك جبار السماوات والأرض يقول لك-: حمدني عبدي، فإذا قال: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} قال: أثنى علي عبدي، وإذا قال العبد: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} قال: مجدني عبدي، حتى إذا قال: {اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ . صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ} قال: سألني عبدي ولعبدي ما سأل»، أية قوة تستطيع أن تقف في وجهك، وأنت تقف كل يوم بين يدي ربك، وهو يجيبك على كل آية من هذه الفاتحة، ويستجيب لدعائك ما أقبلت عليه، وأخلصت له، ووثقت به، وصدقت في توكلك عليه.

ما هذه الدنيا ما الذي فيها من كل ما فيها من المغريات والشهوات إذا انتصبت واقفاً بين يدي رب الأرض والسموات؟

ما كل الهموم، والغموم، والمشكلات، وأنت تسجد، وتلتجئ إلى رب الأرض والسموات؟

ما كل الصعوبات، والمشقات، والعداوات، إذا كنت تستنصر فيها بمن بيده ملكوت السماوات والأرض سبحانه وتعالى؟

لماذا تضيق صدورنا، ولا تنشرح ونحن ندعو الله سبحانه وتعالى في كل آن وحين؟ لماذا تكفهر وجوهنا، ونحن رأينا رسولنا صلى الله عليه وسلم في شدة البرد، وشدة الجوع، وشدة الخوف، وحصار الأعداء، وحفر الخندق، ثم طعن اليهود في بني قريظة ظهر النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين بخيانة العهد وإذ الخبر يأتيه ثم يقول: «الله أكبر الله أكبر أبشروا أبشروا»، يبشر في الوقت الذي كان فيه أهل النفاق يقولون يوم ضرب النبي صلى الله عليه وسلم بمعوله الصخر وبشر بقصور كسرى وقيصر والحيرة، كانوا يقولون: إن أحدنا لا يستطيع أن يذهب ليقضي حاجته من الخوف، وحصار الأعداء، ومحمد يزعم أنكم ستأخذون قصور كسرى وقيصر.

أما المؤمنون من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، ما زادهم إلا إيماناً، وتسليماً، صدقوا، وأيقنوا، وكانوا وراء رسولهم فانكشفت الغمة، ورد الله الذين كفروا بغيضهم لم ينالوا خيرا، وكفى الله المؤمنين القتال وجاءت الفتوحات، والأعطيات الربانية {وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا} [الأحزاب: 27]. كل ذلك يوم استمسكوا واستقاموا، يوم ثبتوا وصمدوا، يوم ظل الماء يجري في طريقه، ويحتفظ بصفاته لا يتغير ولا يتبدل.

عند البخاري وغيره في الصحيح كانت أم المؤمنين عائشة جالسة مع النبي صلى الله عليه وسلم وأخذت تحدثه فسألته سؤالاً عظيماً قالت: "يا رسول الله هل أتى عليك يوم كان أشد عليك من يوم أحد". عائشة كانت صغيرة لم تدرك الأحداث كلها، وسمعت وعرفت، وهي في المدينة عن يوم أحد وعن ما جرى فيه. يوم عصيب استشهد فيه 70 من خُلص أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفقد النبي صلى الله عليه وسلم عمه حمزة بن عبدالمطلب، وكان ما كان من شج النبي صلى الله عليه وسلم، وسيلان الدم، وكسر رباعيته ودخول حلقتي المغفر في وجنتيه، فرأت أن ذلك يوماً شديداً، فاستمعوا إلى ما أجاب به رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لقد لقيتُ من قومك ما لقيت -يعني شيئاً كثيراً- وكان أشد ما لقيتُ منهم يوم العقبة إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلاب فلم يجبني إلا ما أردت، فانطلقت وأنا أهيم على وجهي فلم استفق، إلا وأنا في قرن الثعالب، فرفعت رأسي إلى السماء فإذا غمامة تظللني، وإذا جبريل فيها ويقول: "يا محمد هذا ملك الجبال معي يحدثك، فنطق ملك الجبال، وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله أرسلني إليك لتأمرني في أهل مكة بما شئت فإن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين لفعلت"-جبلا مكة يطبقان عليهما فيهلكون جميعاً- في ذلك الظرف العصيب، والهم الكبير، ظل الماء رقراقاً صافياً نقياً لا يكون الماء إلا للرواء لا يكون لأي غرض آخر لا يمكن أن يكون الماء قاتلاً بل هو سبب الحياة، وهنا نطقت النبوة الحانية، والرحمة العظيمة، والدعوة المصلحة، والخير المتدفق على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم «بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله ويوحده».

هذا هو الماء يلتمس طريقه لا يقف؛ ولكنه يبقى صافياً نقياً، ويبقى للخير لا يتحول عنه. هذه ومضات يسيرة من سيرة عظيمة هي بين أيدينا والآيات القرآنية كل يوم نتلوها وهي مرتبطة بهذه السيرة فما بالنا ضاقت صدورنا، وقست قلوبنا، وجمدت عيوننا، واكفهرت وجوهنا، وضاقت أخلاقنا، وصارت أحوالنا على غير ما ينبغي عليه.

نحن معاشر المؤمنين بالله سبحانه تعالى واثقين، وعليه متوكلين، وإليه ملتجئين، وإليه منيبين، وفي كل حال داعين {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} [النمل: 62]..

الخطبة الثانية:

أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله في كل آنٍ وحين؛ فإنها زاد المؤمنين إلى ربّ العالمين.

في قصة نوح عليه السلام أنه دعا ربه {أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ} [القمر: 10]. كيف كان الجواب؟ {فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ} [القمر: 11]، هذه أبواب السماء مفاتيحها بأيدينا، هذا الدعاء مفتاح السماء، هذا الالتجاء إلى الله سبحانه وتعالى مزيل كل هم، وكاشف كل غم، ويكون بإذنه سبحانه وتعالى من بعده فرج فإن الله جل وعلا قال: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا . إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح: 5-6]. ولن يغلب عسر يسرين كما ورد: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ} [الأنفال: 9]، استغاثة صادقة، ونصر مؤكد أبواب السماء تفتح بما نعرف ولا نعرف من قدرة الله عز وجل ومن جنده الذين لا نعلمهم سبحانه وتعالى.

والله سبحانه وتعالى يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم، وخطابه خطاب لأمته {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} [الزمر: من الآية 36]، كل قوى الأرض، كل دولها العظمى، كل أسلحتها النووية، كل البشرية وما تملك، يعبر عنها القرآن بلفظة واحدة تدل على القلة والذلة والهوان {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ}، كل هؤلاء: دول عظمى، أساطيل، كلهم من دونه،  كلهم لا شيء أمام من أمره بين الكاف والنون سبحانه وتعالى.

أليست قد فتحت أبواب السماء فصار المطر وصار السيل الذي نجى به نوح وغرق به الكفار؟! أليس من قصص وأخبار مؤكدة يقينية نقرأها في كتاب الله عز وجل؟!

لكن واقعنا يقول أحياناً: إن أحوال الدنيا المضطربة، إن القلوب الجزعة، إن العقول الخربة، سرى إليها خلل فلم تعد بصفاء الماء الرقراق، ولم تعد بخاصيته التي تحمل الخير والإصلاح، ولم تعد بقوته التي تستمر في الطريق بلا توقف.

نحتاج إلى أن نراجع أنفسنا: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ} [الزمر: 54]، فلنستسلم لله عز وجل، ولنكثر من الإنابة إليه والالتجاء إليه؛ لنوقن باليقين الذي لقنه سيد الخلق صلى الله عليه وسلم لحبر الأمة، وترجمان القرآن، ابن عمه ابن عباس يوم كان غلاماً أردفه النبي خلفه، وقال له الكلمات الإيمانية اليقينة النورانية العظمى: «يَا غُلاَمُ إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ احْفَظْ اللَّهَ يَحْفَظْكَ احْفَظْ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلْ اللَّهَ وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَاعْلَمْ أَنَّ الأمة لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلاَّ بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلاَّ بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ رُفِعَتْ الْأَقْلاَمُ وَجَفَّتْ الصُّحُفُ» [رواه الترمذي، وأحمد، وصحّحه الألباني].

ولله در الإمام علي بن أبي طالب يوم قال:

 

أي يومي من الموت أفر *** يوم لا قدر، أو يوم قدر
يوم لا قدر، لا أحذره *** ومن المقدور لا ينجو الحذر


لا أخشى الموت؛ لأن هذا اليوم أحد يومين إما لم يقدر فيه الموت، فلو اجتمعت الدنيا كلها فلا أخشى لأن الله لم يكتب هذه الميتة، واليوم الذي يقدر فيه الموت فلا منجى منه: {وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} [النساء: من الآية 78]. كما قال الحق سبحانه وتعالى هذا على مستوى الفرد لكنه كذلك على مستوى الأمة.

اليوم نقول: إننا ضعاف ليست عندنا أسلحة، نقول: إن الواقع اليوم يفرض موازين قوى مختلفة، نقول: إن الوضع العالمي يقتضي منا أن نكون خانعين وأذلاء، نقول، ونقول؛ وكأننا لا نقرأ شيئاً من هذه الآيات؛ وكأننا لم نطّلع على شيء من تلك الروايات؛ وكأننا لم نقف على أي حدث من تلك الأحداث من سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم؛ وكأن رحلة الطائف أو الإسراء والمعراج وما فيها من كل هذه المعاني العظيمة ليست لنا، وليست لنبينا، وليست لأمتنا، وننسى كثيراً من ذلك إن معيار التوجه ليس في الأرض بل في السماء، إن مقاليد النصر ليست هنا بل هناك، والله سبحانه وتع?لى قال: {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [آل عمران: من الآية 126]، وهذا أسلوب حصر وقصر، فاقع لأي معنى ملتبس، فلا نصر إلا منه وحده سبحانه وتعالى، نصرنا على شهواتنا، نصرنا على ضعفنا، نصرنا على اختلافنا وفرقتنا، نصرنا على أعدائنا المتسلطين علينا لا يكون إلا بنصر الله: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ} [الحج: من الآية 40].

فلننصر الله استقامة على أمره، ويقيناً بنهجه، وثقة بنصره، وصدقاً في التوكل عليه، ودواماً في الالتجاء والإنابة إليه، فسترون الأبواب وهي تفتح، وسترون السدود وهي تدمر، وسترون أبواب السماء وهي تفتح مرة أخرى، وثانية، وثالثة، فإن سنة الله ماضية في نصر أوليائه المؤمنين: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ‌ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم: من الآية 47] ، فلنأخذ بأسباب الاستقامة، ولندمن دوام الاستعانة، وليكن شعارنا الالتجاء، ولنطرب ألسنتنا بالدعاء، ولنحرص دائماً بالاستعلاء بالإيمان في كل آن وحين، فإن هذا هو الذي يغير حالنا: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11].

علي بن عمر بادحدح

أستاذ بقسم الدراسات الإسلامية بجامعة الملك عبد العزيز بالسعودية