الأحكام السلطانية للماوردي - (104) الحقوق المشتركة بين حقوق الله تعالى وحقوق الآدميين (10)

منذ 2014-11-25

يمنع أهل الذمة من تعلية أبنيتهم على أبنية المسلمين، فإن ملكوا أبنية عالية أقروا عليها، ومنعوا من الإشراف منها على المسلمين.

الباب العشرون: في أحكام الحسبة

الحقوق المشتركة بين حقوق الله تعالى وحقوق الآدميين (10)

 

فصل:

وأما ما ينكر من الحقوق المشتركة بين حقوق الله تعالى وحقوق الآدميين، فكالمنع من الإشراف على منازل الناس، ولا يلزم من علا بناؤه أن يستر سطحه، وإنما يلزم أن لا يشرف على غيره، ويمنع أهل الذمة من تعلية أبنيتهم على أبنية المسلمين، فإن ملكوا أبنية عالية أقروا عليها، ومنعوا من الإشراف منها على المسلمين، وأهل الذمة بما شرط عليهم في ذمتهم من لبس الغيار، والمخالفة في الهيئة، وترك المجاهرة بقولهم في العزيز والمسيح، ويمنع عنهم من تعرض لهم من المسلمين بسبب أو أذى، ويؤدّب عليه من خالف فيه. وإذا كان في أئمة المساجد السابلة والجوامع الجفلة من يطيل الصلاة حتى يعجز عنها الضعفاء، وينقطع بها ذوو الحاجات، أنكر ذلك عليه كما أنكره رسول الله صلى الله عليه وسلم على معاذ بن جبل حين أطال الصلاة بقومه وقال: «أفتَّان أنت يا معاذ»[1].

فإن أقام على الإطالة ولم يمتنع منها لم يجز أن يؤدبه عليها، ولكن يستبدل به من يخففها.

وإذا كان في القضاء من يجيب الخصوم إذا قصدوه، ويمتنع من النظر بينهم إذا تحاكموا إليه حتى تقف الأحكام ويستضر الخصوم، فللمحتسب أن يأخذه مع ارتفاع الأعذار بما ندب له من النظر بين المتحاكمين، وفصل القضاء بين المتنازعين، ولا يمنع علوّ رتبته من إنكار ما قصر فيه.

قد مر إبراهيم بن بطحاء والي الحسبة بجانبي بغداد بدار أبي عمر بن حماد، وهو يومئذ قاضي القضاة، فرأى الخصوم جلوسًا على بابه ينتظرون جلوسه للنظر بينهم، وقد تعالى النهار وهجرت الشمس، فوقف واستدعى حاجبه وقال: تقول لقاضي القضاة: الخصوم جلوس على الباب وقد بلغتهم الشمس وتأذّوا بالانتظار، فإما جلست لهم أو عرّفتهم عذرك فينصرفوا ويعودوا. وإذا كان في سادة العبيد من يستعملهم فيما لا يطيقون الدوام عليه كان منعهم، والإنكار عليهم موقوفًا على استعداء العبيد على وجه الإنكار والعظة، فإذا استعدوه منع حينئذ وزجر.

وإذا كان من أرباب المواشي من يستعملها فيما لا يطيق الدوام عليه أنكره المحتسب عليه ومنعه منه، وإن لم يكن فيه مستعد إليه، فإن ادَّعى المالك احتمال البهيمة لما يستعملها فيه جاز للمحتسب أن ينظر فيه؛ لأنه وإن افتقر إلى اجتهاد فهو عرفي يرجع فيه إلى عرف الناس وعاداتهم، وليس باجتهاد شرعي، والمحتسب لا يمنع من اجتهاد العرف.

وإن امتنع من اجتهاد الشرع. وإذا استعداه العبد في امتناع سيده من كسوته ونفقته جاز أن يأمره بهما ويأخذه بالتزامهما، ولو استعداه من تقصير سيده فيهما لم يكن له في ذلك نظر، ولا إلزام؛ لأنه في التقدير يحتاج إلى اجتهاد شرعي، ولا يحتاج في التزام الأصل إلى اجتهاد شرعي؛ لأن التقدير منصوص عليه ولزومه غير منصوص عليه.

وللمحتسب أن يمنع أرباب السفن من حمل ما لا تسعه ويخاف منه غرقها، وكذلك يمنعهم من المسير عند اشتداد الريح، وإذا حمل فيها الرجال والنساء حجز بينهم بحائل.

وإذا اتسعت السفن نصب للنساء مخارج للبراز؛ لئلَّا يتبرجن عند الحاجة.

وإذا كان في أسهل الأسواق من يختص بمعاملة النساء راعى المحتسب سيرته وأمانته، فإذا تحققها منه أقره على معاملتهن، وإن ظهرت منه الريبة وبان عليه الفجور منعه من معاملتهن، وأدبه على التعرض لهن؛ وقد قيل: إن الحماة وولاة المعاون أخص بإنكار هذا والمنع منه من ولاة الحسبة؛ لأنه من توابع الزنا.

وينظرون إلى الحسبة في مقاعد الأسواق، فيقر منها ما لا ضرر فيه على المارة، ويمنع ما استضر به المارة؛ ولا يقف منعه على الاستعداء إليه، وجعله أبو حنيفة موقوفًا على الاستعداء إليه.

وإذا بني قوم في طريق سابل منع منه، وإن اتسع الطريق يأخذهم بهدم ما بنوه ولو كان المبني مسجدًا؛ لأن مرافق للسلوك للأبنية.

وإذا وضع الناس الأمتعة وآلات الأبنية في مسالك الشوارع والأسواق ارتفاقًا؛ لينقلوه حالًا بعد حال مكنوا منه، وان لم يستضر به المارة؛ ومنعوا منه إن استضروا به، وهذا القول في إخراج الأجنحة والأسبطة، ومجاري المياه، وآبار الحشوش يقر ما لا يضر ويمنع ما ضر، ويجتهد المحتسب رأيه فيما ضر، وما لم يضر؛ لأنه من الاجتهاد العرفي دون الشرعي.

والفرق بين الاجتهادين أنَّ الاجتهاد الشرعي ما روعي فيه أصل ثبت حكمه بالشرع، والاجتهاد العرفي ما روعي فيه أصل ثبت حكمه بالعرف، ويوضح الفرق بينهما بتمييز ما يسوغ فيه اجتهاد المحتسب مما هو ممنوع الاجتهاد فيه. ولوالي الحسبة أن يمنع من نقل الموتى من قبورهم إذا دفنوا في ملك أو مباح، إلا في أرض مغصوبة، فيكون لمالكها أن يأخذ من دفنه فيها بنقله منها، واختلف في جواز نقلهم من أرض قد لحقها سيل أو ندى، فجوزه الزبيري وأباه غيره.

ويمنع من خصاء الآدميين والبهائم، ويؤدب عليه، وإن استحق فيه قودًا أو دية استوفاه لمستحقه ما لم يكن فيه تناكر وتنازع.

ويمنع من خضاب الشيب بالسواد، إلا للمجاهدة في سبيل الله، ويؤدب من يصبغ به للنساء، ولا يمتنع من الخضاب بالحناء والكتم، فيمنع من التكسب بالكهانة واللهو، ويؤدب عليه الآخذ والمعطي. وهذا فصل يطول أن يبسط؛ لأن المنكرات لا ينحصر عددها فتستوفى، وفيما ذكرناه من شواهدنا دليل على ما أغفلناه.

والحسبة من قواعد الأمور الدينية، وقد كان أئمة الصدر الأول يباشرونها بأنفسهم؛ لعموم صلاحها وجزيل ثوابها؛ ولكن لما أعرض عنها السلطان، وندب لها من هان، وصارت عرضة للتكسب وقبول الرشا لان أمرها وهان على الناس خطرها، وليس إذا وقع الإخلال بقاعدة سقط حكمها، وقد أغفل الفقهاء عن بيان أحكامها ما لم يجز الإخلال به، وإن كان أكثر كتابنا هذا يشتمل على ما قد أغفله الفقهاء أو قصروا فيه، فذكرنا ما أغفلوه، واستوفينا ما قصروا فيه.

وأنا أسأل الله توفيقًا لما توخيناه، وعونًا على ما نويناه بمنِّه ومشيئته؛ وهو حسبي ونعم الوكيل.

__________

(1) صحيح: (رواه البخاري في (كتاب الأذان [705])، ومسلم في (كتاب الصلاة [465]).

 

الكتاب: الأحكام السلطانية

المؤلف: أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي، الشهير بالماوردي (المتوفى: 450هـ)

الناشر: دار الحديث  القاهرة

عدد الأجزاء: 1

[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي]

المصدر: المكتبة الشاملة
المقال السابق
(103) حقوق الآدميين (9)
المقال التالي
(105) فهرس المحتويات