الحرية الغربية؛ مقاربة عقدية!

منذ 2014-12-08

تحظى قضية الحرية بأهمية متزايدة في الوقت الراهن؛ نظرًا لموقع هذه القضية من فلسفة حقوق الإنسان التي تُعد واحدة من أهم المكاسب الإنسانية التي أنجزتها البشرية في العصر الحديث ولو على المستوى النظري.

تحظى قضية الحرية بأهمية متزايدة في الوقت الراهن؛ نظرًا لموقع هذه القضية من فلسفة حقوق الإنسان التي تُعد واحدة من أهم المكاسب الإنسانية التي أنجزتها البشرية في العصر الحديث ولو على المستوى النظري.

إلا أن هذه القضية تحديدًا، تم استغلالها من قبل المنظمات العالمية الأممية أصحاب الفكر التنويري الغربي، وتلقفها بنو علمان وبنو ليبرال ليتوسع ويتمدّد معها هذا المفهوم من ناحية، ويتم الضغط بهذه القضية لإحداث شبكة من التشريعات التي تُهدِّد كيان المجتمع والأسرة من ناحيةٍ أخرى.

إلا أنه وفي خِضم تعقب ذلك المفهوم الغربي الذي لم يُسلّط الضوء عليه بالشكل الكافي، والذي عانت منه المجتمعات الإسلامية وما تزال نجد التشريع الإسلامي اشتمل على كثيرٍ من الإجراءات الوقائية والحلول بتفاصيل دقيقة لها.

وفي هذه المقالة سنتعرّض لإبعاد هذه القضية بنظرة عقدية من خلال مقاربة ما جاء في المواثيق الدولية مع ما هو حادث الآن من تطبيقات عملية داخل المجتمعات الإسلامية، ولذلك يتحتم علينا ذكر جملة من الاتفاقيات والإعلانات الدولية والإقليمية بشكلٍ عام، وتأثيرها على العقيدة الإسلامية، فمن ذلك:

● الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر سنة 1948م عن الجمعية العامة للأمم المتحدة.

● الميثاق الدولي المُتعلِّق بالحقوق المدنية والسياسية المعتمد من قبل الجمعية العامة سنة 1966م.

● المعاهدة الأوروبية لحقوق الإنسان المعتمدة في 4 نوفمبر 1950م والمعمول بها في 3 سبتمبر 1958م.

● الاتفاقية الدولية لحقوق الإنسان المدنية والسياسية الصادرة سنة 1966م.

● قائمة الحقوق التي صدرت في المملكة المتحدة التي نصّت على الحريات الفردية.

● الإعلان الفرنسي.

● الاتفاقية الخاصة بحريةٍ الإعلام المعروضة على الجمعية العمومية بقرارها: ([360] د -7 في 1952م).

● المعاهدة الدولية حول إلغاء كل أشكال التمييز العنصري.

● الميثاق الإفريقي لحقوق الإنسان والشعوب المعتمد في 26 يونيو 1981م.

● الاتفاقية الأمريكية لحقوق الإنسان في 1969م.

فالملاحظ في هذه الاتفاقيات أن المفهوم الغربي للحرية قد اكتسح هذه الوثائق دون اعتبار الشعوب والأمم الأخرى، فلم يشغل الرأي العام العالمي بالحرية بمثل ما شغلت به في وقتنا الحاضر، ولعل تاريخ البشر لم يعرف حشدًا للجهود وإعدادًا للوسائل ودعوة لملاحقة ما سطر في تلك الوثائق والمواثيق كما حشد اليوم؛ فلقد بذلت أموال وأهدرت دماء بسبب الحرية بمفهومها الغربي الذي اجتاح العالم بدوله ومنظماته؛ فقامت القوى العالمية بفرض السيطرة على باقي الأمم والشعوب بأديانها وثقافاتها، وعولمتها على وقف النموذج الغربي في فرض حرية مطلقة لإسقاطها على الثوابت الإسلامية التي أدّت إلى الخروج بتأويلاتٍ من شانها إحداث الفتنة والبلبلة بين المسلمين، وإضفاء الشرعية على أطروحات كنسية وعلمانية، وبالتالي فإننا نجد أن مضامين مصطلح الحرية المنصوص عليها في الاتفاقيات المذكورة تصطدم مع العقيدة الإسلامية وكلياتها القطعية، والتي منها:

أ‌- الحرية في الاتفاقيات الدولية لا تقبل التجزئة، والمرجعية الدولية للقوانين الوضعية وليس للشرائع السماوية؛ فهي لا تجعل المرجعية مرنة بحيث تتباين باختلاف المكان وتحترم خصوصيات الشرائع السماوية، فبالتالي تتفرد بمرجعيتها الوضعية، والمرجعية الإسلامية في الحريات إن قبلها المجتمع الغربي فهو يقبلها كتابعةٍ لرؤيته وذلك للاستحسان فقط.

ب‌- حرية العقيدة والحق في تغيير المعتقد كحقٍ من حقوق الإنسان، فقد أثر ذلك على سلامة البنيان العقدي للمجتمع المسلم؛ فهو يُهدِّد سلامة البنيان العقدي للمجتمع الإسلامي عند تطبيقه في مجتمعاتنا، والدليل العملي على ذلك أن تلك البنود هي ما ينطلق من خلالها كثير من الشيعة والمُنصِّرين في المغرب في المطالبة بحقهم في إظهار هويتهم ومعتقداتهم ونشرها داخل المجتمعات السنية.
 
ج- دعوة الدول والأمم لاتخاذ التدابير وسن التشريعات التي تضمن حماية حرية اختيار الأفراد للأديان والمعتقدات والانتقال بينها تبعًا لهواهم، وفي ذات الوقت العمل على إلغاء أية تشريعات مهما كان مصدرها طالما تتعارض مع الحرية الغربية، وإذا اصطدمت هذه الحرية مع الشريعة الإسلامية تقدم رؤية الحرية الغربية وتُنحّى الشريعة الإسلامية.
 
هـ- الضغط لإعادة قراءة الإسلام في تصوره للحرية وفق النظرة الغربية لها؛ وذلك تشكيكًا منهم في أن الاختلافات بين الرؤية الإسلامية للحرية والرؤية الغربية لها راجع إلى ما يطلقون عليه التشدُّد في التفسيرات والرؤى! وليس إلى اختلاف المنطلقات بين الإسلام والغرب، والتهاون في هذا من شانه أن يؤدي إلى اغتراب معاني التوحيد والعقيدة الإسلامية؛ ومن ثم القبول بالوضع الاستسلامي الانهزامي الراهن الذي تشهده ديار المسلمين.

و- الحرية الغربية وأثرها على الحدود الشرعية؛ فنجد مثلًا أن هذه الاتفاقيات والإعلانات الدولية تسعى إلى إلغاء عقوبة القصاص على مستوى العالم دون الالتفات إلى قيمة مثل هذه الأحكام في عقائدنا وشرائعنا ونظمنا التي أثمرت استقرارًا من خلال تجربة قاربت ألفًا ونصف من الأعوام، أو حتى أخذ خصوصيات الدول الإسلامية في الحسبان.

ز- تبني تلك المواثيق لحرية الرأي المطلقة والقفز فوق كافة الحدود، وعدم الاكتراث بأية اعتبارات دينية؛ إذ نجد تحت يافطة حرية الرأي المطلقة الغربية التطاول على الذات الإلهية المقدسة، وسب الأنبياء والرسل والاستهزاء بهم، هذا في الوقت الذي يشنع فيه على المسلمين إن جهروا ببعض الحق مرة باسم معاداة السامية، ومرة باسم الحفاظ على حق الأقليات وإن أهدر حق الأغلبية؛ فلحرية الرأي ضوابطها الشرعية التي تحفظ المجتمع من التطاول على المقدسات والثوابت.

ح- الحرية الغربية والدفاع عن تقنين الانحلال الإباحي من شذوذٍ وغيره؛ إذ تسعى هذه الحرية لإسقاط كل الضوابط التي من شانها منع نموذج الحرية المضبوطة في المجتمعات الإسلامية التي تمنع من مثل هذه الحريات؛ فتهاجم هذه الدول، ويدعون أن في ذلك ازدراء لحقوق الخصوصية وانتهاك للحرية.

ونظرًا للصبغة الغربية للحرية والتي تتقاطع مع ما الذي تشهده الكثير من المجتمعات الإسلامية من القمع وتغييب للشريعة؛ فقد رأى الكثير مِن مَن مورس ويمارس عليه هذا القمع والاستبداد المخرج والملجأ والتملص من تلك القيود المشدّدة عليهم من الحكومات والأنظمة المستبِّدة في هذه الحرية، وهذا الأمر فيه شيء من الصحة إلا أنه ينبغي أن لا يأتي على حساب أصل الشريعة أو تابعًا لها، فهناك أوجه كثيرة يمكن الاستفادة منها في الحرية يفرضها فقه المرحلة والاستضعاف، لكن لا بد من مراعاة الالتباس الذي يمكن أن يحصل جراء إطلاق هذا المصطلح دون استحضار السياق المرجعي والفكري للأمة الإسلامية، لأن ذلك قد يكسب لمفهوم الحرية حصانة فكرية ممانعة تخلخل مفاهيم وثوابت إسلامية فيلتبس الحق بالباطل.