ثقافة التلبيس - قولهم بـ(نسبية الحقيقة)!

منذ 2014-12-10

من يردد هذه الفكرة إما أن يكون مسلمًا أو غير مسلم. وغير المسلم إما أن يكون ملحدًا أو غير ملحد.

تتردد كثيرًا في كتابات المعارضين والمخالفين لشريعة الإسلام عندما يُلزمون بأحكامها عبارات خطيرة؛ مثل: "الحق المطلق لا يملكه أحد"، أو "لا أحد يدعي امتلاك الحقيقة"، أو "الحق نسبي"... وغيرها من العبارات المشابهة التي اتخذها هؤلاء حلا سريعًا يلجؤون إليه عندما يريدون التملص والتخلص من التزام الحق الذي جاءت به الشريعة؛ حيث تكون الأمور فوضى لا ضابط لها، ولا حقيقة ثابتة يعرفها الناس ويتحاكمون إليها! بل أنت تعتقد أن هذا الأمر (حقيقة)، وغيرك يعتقد خلافه (حقيقة)، وكلاكما على صواب، ولا يُنكر أحد على أحد..! فتُمرر جميع أنواع الكفر أو الشبهات أو الشهوات على احتمال أن تكون هي الحقيقة المنشودة!!

وقد أحببتُ في هذه الحلقة أن أكشف وجوه التلبيس في هذه العبارات، وبيان خطورتها على قائلها، مقدمًا بذكر نماذج لمن يقول بها، ثم تعريف بأول من قال بها، مع بيان كيفية الرد عليها؛ والله الموفق:

 

نماذج من أقوال المرددين لهذه العبارات الخطيرة:

- "لا أحد يملك الحقيقة الملكية المطلقة" (الممنوع والممتنع، علي حرب، ص180) (وانظر أيضًا: كتابه: نقد الحقيقة، ص 2).

- "يجب أن يكون واضحًا في غاية الوضوح: أن المطلق مطلق، ولكن الفهم البشري والتفسير البشري لأي جانب من جوانب المطلق هو فهم نسبي" (تجديد النهضة باكتشاف الذات ونقدها، د. محمد جابر الأنصاري، ص83).

- "ينبني الدين على حقيقة مطلقة كلية هي الوحي ولما كانت الفلسفة تضع في اعتبارها تعددية المواقف والآراء، ونسبية الحقيقة -أي كونها موزعة من حيث الاحتمال المفتوح بين الناس جميعًا- فإن التصادم بينهما قائم لا محالة" (آفاق فلسفية عربية معاصرة، طيب تيزيني، ص 167)

- "ما بعد الحداثة هو عالم صيرورة كاملة، كل الأمور فيه متغيرة، ولذا لا يمكن أن يوجد فيه هدف أو غاية، وقد حلت ما بعد الحداثة مشكلة غياب الهدف والغاية والمعنى بقبول التبعثر باعتباره أمرًا نهائيًا طبيعيًا، وتعبيرًا عن التعددية والنسبية والانفتاح، وقبلت التغير الكامل والدائم" (السابق، ص 322).

- "النسبية: هي الرأي الذي يقول بأن الحقيقة نسبية وتختلف من فرد إلى آخر، ومن جماعة إلى أخرى، ومن وقت إلى آخر" (السابق، ص 329).

- "ارتكزت التعددية بمعناها المعرفي على الفكرة القائلة بأن لا أحد يملك الحقيقة كلها، وبالتالي ليس من حق أحد مصادرة آراء وأفكار الآخرين" (إشكالية مفهوم المجتمع المدني، د. كريم أبو حلاوة، ص 42).

- (لن تكون متقدمًا أو صاحب أمل في التقدم؛ إذا قبلت الرأي على أنه حقيقة، والحقيقة على أنها مطلقة وليست نسبية" (من هنا يبدأ التغيير، تركي الحمد، ص 347).

- "إن المنطلق الأول للبحث عن الحقيقة هو القناعة بنسبيتها" (البحث عن الحقيقة، عبد الله بن حمد المعجل، ص 13).

- جون ستيوارت مل "يرى أن التسامح يمتنع معه الاعتقاد في حقيقة مطلقة" (ملاك الحقيقة المطلقة، مراد وهبة، ص 193).

- "العلمانية من حيث هي التفكير في النسبي بما هو نسبي، وليس بما هو مطلق" (السابق، ص 228).

- "كل مجتمع لا يعترف بالتعددية العقائدية والسياسية هو مجتمع تنقصه الأنسنة إلى حد كبير. لماذا؟ لأن الاختلاف والتنوع في الرأي والفكر شرط من شروط تحرر الذهن من التحجر والانغلاق" (هاشم صالح، معارك من أجل الأنسنة، محمد أركون، ص 16).

- "إن اعتماد الشك في التفكير الفلسفي، والأخذ بنسبية الحقيقة: هو التسامح بعينه" (محمد عابد الجابري، قضايا الفكر المعاصر، ص20).

- "إن فكرة الحقيقة المطلقة تؤسس لدى حاملها شرعية امتشاق السلاح دفاعًا عنها، ليس هذا السلاح قطعا هو الفكر؛ فمالك الحقيقة لا يجادل" (عبد الإله بلقزيز، نهاية الداعية، ص 70).

- ويقول شاكر النابلسي معددًا مواصفات المجتمع المدني الذي يطمح إليه!: "إن القيم في المجتمع المدني نسبية، وهذه النسبية تجعل القيم متغيرة غير ثابتة. لا احتكار للحقيقة في المجتمع المدني، وعدم الاحتكار يقود المجتمع المدني إلى التسامح لا إلى التعصب، وإلى الانفتاح لا إلى الانغلاق" (صعود المجتمع العسكري، ص 205-206).

- وانظر: (الفكر الإسلامي والتطور) لفتحي عثمان؛ (ص 15-16). ومقال: (ملاك الحقيقة وتصنيف الناس) لمحمد بن عبد اللطيف آل الشيخ، جريدة الجزيرة، 26/8/1425. وانظر أيضًا: (التطور والنسبية في الأخلاق) للدكتور حسام الألوسي. (وهو متطرف في الأخذ بهذا المبدأ الخطير!).

 

أول من قال بـ(نسبية الحقيقة):

أول من قال بها هم السوفسطائيون -وعلى رأسهم كبيرهم الفيلسوف بروتاغوراس- الذين ظهروا في اليونان ما بين القرنين الرابع والخامس قبل الميلاد؛ حيث كانت اليونان تموج بمجموعة من الأفكار والمذاهب المتباينة المتنوعة؛ فلجؤوا لهذا القول في تأييد الآراء المتناقضة؛ إما شكًا في الجميع، أو للتخلص من جهد طلب الحقيقة.

يقول الدكتور علي سامي النشار: "نسبية كل شيء قال بها بروتاغوراس السوفسطائي حين أراد أن ينقد أصول المعرفة "إن الإنسان هو مقياس وجود ما يوجد منها ومقياس وجود ما لا يوجد" ثم أخذ بهذا الشُكاك بعد، فطبقوها على الحد كما طبقوها على نواحي العلم كله، فلم تعد حقيقة من حقائق العلم ثابتة أو مستقرة، بل كل شيء –كما يقول هرقليطس- في تغير مستمر" (مناهج البحث عند مفكري الإسلام، ص 191).

ويقول الدكتور عمر الطباع عن السوفسطائيين: "وكانت هذه الجماعة تنكر وجود حقائق ثابتة، وتدعي أن الحقيقة نسبية". (السلم في علم المنطق للأخضري، ص7).

- "لقد عبر بروتاغوراس زعيم السوفسطائيين عن فكرهم في كتابه (عن الحقيقة) الذي فُقد ولم تصلنا منه إلا شذرات قليلة يبدأها بقوله: "إن الإنسان معيار أو مقياس الأشياء جميعًا" وفي هذه العبارة القصيرة تكمن الثورة الفكرية للسوفسطائيين في مختلف ميادين الفكر. إنها تعني بالنسبة لنظرية المعرفة أن الإنسان الفرد هو مقياس أو معيار الوجود، فإن قال عن شيء إنه موجود فهو موجود بالنسبة له، وإن قال عن شيء إنه غير موجود فهو غير موجود بالنسبة له أيضاً، فالمعرفة هنا نسبية، أي تختلف من شخص إلى آخر بحسب ما يقع في خبرة الإنسان الفرد الحسية، فما أراه بحواسي فقط يكون هو الموجود بالنسبة لي، وما تراه أنت بحواسك يكون هو الموجود بالنسبة لك، وهكذا" (مدخل لقراءة الفكر الفلسفي عند اليونان، للدكتور مصطفى النشار، ص70 -71).

فتعاليمهم -كما يقول مؤلفا (قصة الفلسفة اليونانية)- "تعاليم هدامة لكل نظام اجتماعي؛ للدين، للأخلاق، لكل نظم الدولة" (ص 69).

وللزيادة عن السوفسطائيين؛ انظر: (تاريخ الفلسفة اليونانية) ليوسف كرم، و(الفلسفة اليونانية: تاريخها ومشكلاتها) لأميرة مطر (ص 115 ومابعدها)، و(تاريخ الفلسفة اليونانية) لماجد فخري، و(التعريفات) للجرجاني، و(قصة الإيمان) لنديم الجسر (ص 36-37)، و(فلسفة الأخلاق) للدكتور توفيق الطويل (ص 47-49)، و(مختصر تاريخ الفلسفة) للمختار بنعبد لاوي (ص 13-14)، و(الموسوعة الفلسفية) للدكتور عبد المنعم الحفني (482 وما بعدها)، و(المعجم الفلسفي) للدكتور مراد وهبة (ص 444 وما بعدها)، و(ربيع الفكر اليوناني) لبدوي (165-180)، و(قصة الفلسفة اليونانية) (ص 62-72)، و مقال (السوفسطائيون) لزكي نجيب محمود، مجلة الرسالة، صفر، 1353.

 

وفي العصر الحديث:

تلقف أصحاب المذهب البراجماتي هذه الفلسفة؛ لأنها تناسب مذهبهم النفعي المصلحي المتلون:

- (ليس من شك لدى أحد الآن أن بروتاجوراس هو الجد الأول للبراجماتيين المعاصرين؛ سواء على المستوى الفلسفي، أو على المستوى الحياتي؛ إذ لا يمكن فهم أقوال هؤلاء البراجماتيين معزولة عن آراء جدهم الأكبر، فحينما يقول وليم جميس: "إن الحقيقي ليس سوى النافع الموافق المطلوب في سبيل تفكيرنا تماماً، كما أن الصواب ليس سوى الموافق النافع المطلوب في سبيل مسلكنا" و"أن المطلق ليس صحيحاً على أي نحو". فهل يمكن أن نشك لحظة في أنه وأقرانه يمثلون بروتاغوراس العصر الحالي؟! لقد كان شيللر –وهو أحد كبار الفلاسفة البراجماتيين- على حق حينما كتب كتاب " why protagoras not plato معلناً أن بروتاغوراس هو جدهم الأول). (فلاسفة أيقظوا العالم، د. مصطفى النشار، ص 77).

- (إن المذهب البراجماتي حين يقرر أن مقياس صحة الأفكار يتوقف على نتائجها، فهو بذلك يجعل الحقيقة نسبية غير ثابتة، أي تتغير وفقاً للظروف وأحوال الأفراد والمجتمعات). (تطور الفكر الغربي، لمجموعة من الباحثين، ص 424).

- البراجماتية (تعيد إلى ذاكرة التاريخ نسبية السوفسطائية التي تزعم أن الفرد مقياس كل شيء). (أعلام الفلسفة الحديثة، د. رفقي زاهر، ص 171).

- (الفلسفة البراجماتية تتلخص اليوم في أفكار موجزة؛ من أشهرها:.. الحقائق نسبية، ولا يمكن الوصول إلى حقيقة مطلقة). (مقال: الطريق إلى العقلية الأمريكية، محمد فالح الجهني، مجلة المعرفة، شوال 1425). (وانظر: قصة الفلسفة اليونانية، ص 71).

 

أقوال علماء الإسلام في السوفسطائية:

لقد عرف علماء الإسلام خطورة هذه الفكرة السفسطائية التي تخلط الحق بالباطل، وتُشكك المسلمين في دينهم، وتساوي بينه وبين الديانات المحرفة والباطلة بدعوى التماس الحقيقة!، لا سيما وهناك من المنحرفين من يُغذي هذه الفكرة وينشرها؛ وعلى رأسهم غلاة المتصوفة أهل وحدة الوجود، ممن يقول قائلهم؛ وهو ابن عربي: "فإياك أن تتقيد بعقد مخصوص وتكفر بما سواه فيفوتك خير كثير، بل يفوتك الأمر على ما هو عليه، فكن في نفسك هيولى لصور المعتقدات كلها؛ فإن الله تعالى أوسع وأعظم من أن يحصره عقد دون عقد" (ابن عربي، سميح الزين، ص 101).

لقد قسم علماء الإسلام السوفسطائيين -كما يقول الشيخ أحمد شاهين- ثلاثة أقسام: (العِندية، والعنادية، واللاأدرية: فالعندية ترى أن حقائق الأشياء تابعة لعقائد المؤمنين بها؛ لأنهم أقيسة الحقائق. والعنادية تجزم بأن لاحقائق في الكون؛ لا في ذاتها ولابالقياس إلى المؤمنين بها. وأما اللاأدرية فهي التي تتوقف عن الحكم في كل شيئ؛ فهي لا تجزم بوجود ولا بعدم). (السوفسطائيون في نظر العرب) مقال في مجلة الأزهر، م 21، ص 760-763).

ويقول الشيخ عبد القادر بدران في حاشيته على (روضة الناظر) (ص 246-247): (وهم فرقٌ ثلاث: إحداهن اللاأدرية؛ سموا بذلك لأنهم يقولون لا نعرف ثبوت شيء من الموجودات ولا انتفاءه بل نحن متوقفون في ذلك. الثانية: تسمي العنادية نسبة إلى العناد؛ لأنهم عاندوا فقالوا لا موجود أصلاً وعمدتهم ضرب المذاهب بعضها ببعض والقدح في كل مذهب بالاشكالات المتجهة عليه من غير أهله. الثالثة: تسمى العندية نسبة إلى لفظ (عند)؛ لأنهم يقولون أحكام الأشياء تابعة لاعتقادات الناس، فكل من اعتقد شيئاً فهو في الحقيقة كما هو عنده وفي اعتقاده). (وانظر: شرح المواقف للجرجاني؛ ص 42-43).

1 - وقد رد عليهم جميعًا ابن حزم في كتابه (الفِصل في الملل والأهواء والنِحل) (1/44-45)؛ ويهمنا رده على فرقة العِندية التي يُقلدها دعاة النسبية. قال رحمه الله: "ويقال وبالله التوفيق لمن قال هي حق عند من هي عنده حق، وهي باطل عند من هي عنده باطل: إن الشيء لا يكون باعتقاد من اعتقد أنه حق، كما أنه لا يبطل باعتقاد من اعتقد أنه باطل، وإنما يكون الشيء حقًا بكونه موجودًا ثابتًا، سواء اعتُقد أنه حق أو اعتُقِد أنه باطل. ولو كان غير هذا لكان معدومًا موجودًا في حال واحد في ذاته، وهذا عين المحال.

وإذا أقروا بأن الأشياء حق عند من هي عنده حق، فمن جملة تلك الأشياء التي تُعتَقد أنها حق عند من يعتقد أن الأشياء حق بطلانُ قولِ من قال إن الحقائق باطلة، وهم قد أقروا أن الأشياء حق عند من هي عنده حق. وبطلان قولهم من جملة تلك الأشياء، فقد أقروا بأن بطلان قولهم حق!! مع أن هذه الأقوال لا سبيل إلى أن يعتقدها ذو عقل ألبتة، إذ حسُّه يشهد بخلافها. وإنما يمكن أن يلجأ إليها بعض المُتَنَطِّعين على سبيل الشغب. وبالله تعالى التوفيق".

2- ورد عليهم أيضًا ابن الجوزي في (تلبيس إبليس:ص 41)؛ قائلا: "قال النوبختي: قد زعمت فرقة من المتجاهلين أنه ليس للأشياء حقيقة واحدة في نفسها، بل حقيقتها عند كل قوم على حسب ما يعتقد فيها، فإن العسل يجده صاحب المرة الصفراء مراً، ويجده غيره حلواً. قالوا وكذلك العالم هو قديم عند من اعتقد قدمه، محدث عند من اعتقد حدوثه، واللون جسم عند من اعتقده جسماً، وعرض عند من اعتقده عرضاً. وهؤلاء من جنس السوفسطائية؛ فيقال لهم: أقولكم صحيح؟ فسيقولون: هو صحيح عندنا، باطل عند خصمنا. قلنا: دعواكم صحة قولكم مردودة، وإقراركم بأن مذهبكم عند خصمكم باطل شاهد عليكم! ومن شهد على قوله بالبطلان من وجه فقد كفى خصمه بتبيين فساد مذهبه".

3- وقال ابن قدامة رادًا على من نُقل عنه مثل هذا القول من علماء المسلمين: (وقول العنبري: كل مجتهد مصيب. إن أراد أن ما اعتقده فهو على ما اعتقده، فمحال؛ إذ كيف يكون قدم العالم وحدوثه حقاً، وتصديق الرسول وتكذيبه، ووجود الشيء ونفيه، وهذه أمور ذاتية لا تتبع الاعتقاد، بل الاعتقاد يتبعها. فهذا شر من مذهب الجاحظ، بل شر من مذهب السوفسطائية؛ فإنهم نفوا حقائق الأشياء، وهذا أثبتها وجعلها تابعة للمعتقدات). (روضة الناظر 20/419-420).

 

وقال أيضًا: (قال بعض أهل العلم: هذا المذهب أوله سفسطة، وآخره زندقة؛ لأنه في الابتداء يجعل الشيء ونقيضه حقاً، وبالآخرة يخير المجتهدين بين النقيضين عند تعارض الدليلين، ويختار من المذاهب ما يروق لهواه). (روضة الناظر، 2/425)، (وانظر: المسائل المشتركة بين أصول الفقه وأصول الدين، ص314).

4- وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: (حكي عن بعض السفسطائية أنه جعل جميع العقائد هي المؤثرة في الاعتقادات، ولم يجعل للأشياء حقائق ثابتة في نفسها يوافقها الاعتقاد تارة ويخالفها أخرى، بل جعل الحق في كل شيء ما اعتقده المعتقد، وجعل الحقائق تابعة للعقائد. وهذا القول على إطلاقه وعمومه لا يقوله عاقل سليم العقل). (الفتاوى 19/ 135).

وقال عنه أيضًا: "هذا المذهب أوله سفسطة وآخره زندقة؛ يعني: أن السفسطة جعل الحقائق تتبع العقائد كما قدمناه... وأما كون آخره زندقة فلأنه يرفع الأمر والنهي والإيجاب والتحريم والوعيد في هذه الأحكام، ويبقى الإنسان إن شاء أن يوجب وإن شاء أن يحرم، وتستوي الاعتقادات والأفعال؛ وهذا كفر وزندقة" (الفتاوى 19/144 -145).

 

بعض أقوال المعاصرين في مقولات أهل السفسطة:

1- يقول الأستاذ بسطامي سعيد: "هل حقائق الدين نسبية؟.. إذا قيل إن الفكرة إما خاطئة أو صائبة بغض النظر عن الزمان الذي شهد ظهورها، قالت العصرانية ولكن إدراك حقائق الدين مسألة نسبية، فليس هناك صواب مطلق و"إن الحقيقة الثابتة تختلف الأنظار إليها باختلاف زاوية سقوط الشعاع الفكري".

والكاتب الذي قرأت له هذا القول لا يقدم دليلاً أو حجة، بل يكتفي بالإشارة إلى أن نظرة الإنسان إلى الأشياء نظرة جزئية، وليست نظرة شاملة كاملة وإن هذه النظرة هي بحسب معارف المرء وثقافته، وبحسب اهتماماته والزاوية التي ينظر منها.

وقضية النسبية Relativism في الحق truith أو في الأخلاق ethich قضية فلسفية، تتناحر حولها الفلسفة منذ أن عرف الإنسان الفلسفة، وكعادة الفلاسفة في مناقشة القضايا تتعقد وتتشابك الآراء، والفلاسفة وحدهم هم الجديرون بأن يغرقوا في مثل هذه المباحث، وهل استطاعت الفلسفة يوماً ما أن تحل لغزاً؟!

وفي بساطة نتساءل ما المقصود بأن الحقيقة نسبية؟ إذا كان المقصود أن معرفة الإنسان قاصرة وعمله قليل، وأنى له بالعقل الذي يدرك الأشياء إدراكاً شاملاً، فهذا ليس موضع اختلاف، والبشرية بما فيها من عجز وقصور مؤهلة لإدراك قدر من المعارف تكفيها لأداء مهامها في هذا الفترة القصيرة من عمرها على الأرض.

وإذا كان المقصود أن الإنسان لا يصل إلى حقيقة، وكل ما عنده من حقائق لا يمكن القطع والجزم بها، ولا يمكن الاتفاق حولها، فأول ما يواجه هذا القول من نقد أن يُسأل ما الدليل على أن هذا القول صادق؟ فإذا قُدمت الأدلة على صدقه وأثبتت أنه حقيقة، فهو اعتراف بأن لدينا على الأقل حقيقة نطمئن إليها، وهو اعتراف ينقض ما قُدمت الأدلة لإثباته، وإذا كان القول بأن الحقيقة نسبية أمر نسبي أيضاً ولا يمكن القطع والجزم به، فكيف يؤخذ به؟ ثم كيف يفسر من يقول إن الحقيقة نسبية ذلك القدر المشترك من الحقائق بين أفراد النوع البشري على اختلاف بيئاتهم وظروفهم وعصورهم؟!

الأهم من ذلك أن يُسأل: هل هناك منهج صحيح للوصول إلى حقائق الدين، أم أن الدين كما هي النظرة الغربية له، لا معايير ولا مقاييس لتحديد حقائقه، بل هو مثل مسائل الآداب والفن مسألة ذوق، لا تقوم على منهج علمي محدد، أو معايير منضبطة؟.

إن مصادر حقائق الدين ثلاثة أشياء: النصوص الموحاة، ومعاني هذه النصوص، والاستنباط منها، ولكل واحد من هذه الأقسام منهج علمي محدد مضبوط، فهناك منهج علمي لتوثيق النصوص، ومنهج لطريقة فهمها، ومنهج للاستنباط منها، وما يتوصل إليه عن طريق هذه المناهج حقائق لا شك في ذلك.

قد يحدث تغيير أو تبديل للنصوص، أو قد يحدث خطأً في الفهم، أو يحدث خطأ في الاستنباط، ولكن هذه مسألة أخرى ومعالجتها تكون بإثبات ما حدث من تحريف بالدليل والبرهان، أما إطلاق العموميات والقول بأن حقائق الدين مسألة نسبية يدركها كلٌ على حسب المعرفة المتاحة، ويراد من وراء ذلك رفض فكر العصور الماضية! فقول لا تسنده حجة ولا يمكن قبوله). (مفهوم تجديد الدين، ص 214-215).

2- ويقول الأستاذ غازي التوبة: "نسبية الحقيقة إحدى الركائز التي تقوم عليها الثقافة الغربية منذ نهضة أوروبا الحديثة، ويربط المفكرون الغربيون بين تلك الركيزة وتغير الظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية المحيطة بالمجتمع، ويعتقدون أن تغير الحقائق الحياتية يقتضي نسبية الحقيقة، غير أن تكوّن تلك الركيزة في الثقافة الغربية يعود إلى فترة أبعد من العصور الحديثة ويرتبط بالعصور الوسطى.

فمن المعروف أن الكنيسة كانت تنطلق آنذاك في حكمها لأوروبا من نص الإنجيل المقدس الذي كان ثابتًا والذي كانت تحتكر الكنيسة تفسيره، وعندما قامت حقائق علمية وكونية متعددة تناقض النص الثابت، وتناقض تفسير رجال الكنيسة له وقع التصادم المريع بين الدين (المحرف) والعلم، وكانت النتيجة اضطهاد رجال العلم بحجة مخالفة النص المقدس الثابت، ولكن الكنيسة انهزمت أمام الثورة عليها وأمام حقائق العلم، واعتبرت الثورة رجال الدين عقبة في طريق العلم والتقدم، وصار الربط منذئذ بين النص المقدس وثبات الحقيقة، وكذا بين العلم ونسبية الحقيقة.

ومنذ أن بدأ التفاعل بين الثقافتين: الغربية والإسلامية، كان أبرز صور التصادم بين نسبية الحقيقة في الثقافة الغربية وبين النص القطعي الثبوت القطعي الدلالة في الثقافة الإسلامية" (مجلة المجتمع، العدد 1337.

3- ويقول الدكتور أحمد عبد الرحمن: "الفلسفة النسبية هي السند الفكري الأخير والمرجع النهائي، لكل التيارات المناوئة لمبدأ (الثبات الإسلامي) في العقيدة والشريعة والأخلاق والنظم، سواء كانت وضعية منطقية، أو ماركسية، أو وجودية أو براجماتية. فالنسبية فلسفة تزعم أن الحقائق العلمية، والقيم الخلقية، والمبادئ التشريعية، والنظم الاجتماعية والسياسية، كلها تتبدل وتتغير بتغير الزمان والمكان، فما كان حقاً بالأمس لابد أن ينقلب باطلاً اليوم أو غدًا، وما كان عدلاً لدى اليونان قبل قرون من الزمان يستحيل أن يظل كذلك إلى اليوم، لا فرق في ذلك بين قانون وضعي وشريعة دينية، وبهذا التصور الشامل للفلسفة النسبية يقرر أنصار التجديد أن الشعر المقفى، واللغة الفصحى، والعمارة الإسلامية، والشريعة الإسلامية، والعقيدة الإسلامية إلخ إلخ، كانت صالحة لعصر النبوة والراشدين، ولكنها لا يمكن أن تصلح لنا اليوم، ولا مفر أمامنا من أحد أمرين: إما نقل نظائرها الأوروبية العصرية، وإما التخلف عن العصر والفناء تبعاً لذلك!

وأحسب أن فلسفة بهذا الوصف وهذا الامتداد والتشعب في حياتنا الدينية والفكرية والتشريعية والثقافية لجديرة بأن ندرسها، ونتفهمها، ونقومها: وهذا هو ما أرجو أن أنجزه في هذه الكلمة بأقصى ما يسعني من الإيجاز.

لقد ولدت النسبية في حجر السوفسطائيين، الذين صاغوها في العبارة المشهورة (الإنسان معيار كل شيء) بمعنى أنه هو الذي يحدد الحقائق العلمية، والقيم الخلقية، وبوسعه أن يعدلها، أو يلغيها، أو يستبدل بها غيرها، وقد تصدى لهم سقراط، مدافعًا عن موضوعية الحقيقة والقيمة واستقلالهما عن إرادة الإنسان وشهواته.

وماتت النسبية دهرًا طويلاً، ثم بعثت من جديد وشاعت في الفكر الفلسفي الأوروبي الحديث..." (أساطير المعاصرين، ص 169 – 170).

 

كيف ترد على من يردد هذه السفسطة؟!

من يردد هذه الفكرة إما أن يكون مسلمًا أو غير مسلم. وغير المسلم إما أن يكون ملحدًا أو غير ملحد. فالملحد تُقام عليه الأدلة البينة الدالة على وجود الله؛ ثم إذا آمن بذلك أقيمت عليه وعلى غير الملحد من الكفار الأدلة الدالة على صدق نبينا محمد صلى الله عليه وسلم؛ (وتراجع في ذلك الكتب المختصة بهذا) فإذا آمن به لزمه أن يؤمن بكل ما جاء به من عند الله؛ ومن ذلك أن الإسلام هو خاتم الأديان، وهو الحق الذي لايقبل الله غيره. ثم يُلحق بالمسلم كما سيأتي.

وأما إن كان من يُردد هذه الفكرة أحد من يُظهر الإسلام؛ فإنه يُقال له: هل تعني بهذه العبارات أن الحق قد يكون في الإسلام وقد يكون في غيره من الديانات المحرفة أو الباطلة؟! فإن قال: نعم! قيل له: هذه ردة صريحة وكفر بدين الله؛ القائل: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران:82]، والمخبر بأن الإسلام هو الحق في عدة آيات؛ منها قوله: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} [البقرة:119]، وقوله: {وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ} [الأنعام:66]، وقوله: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ} [التوبة:29]، وقوله: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ} [التوبة:33]، وقوله: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ} [يونس:108]، وقوله: {وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ} [الرعد:1]، وقوله: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ} [الكهف:29]، وقوله: {وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ} [فاطر:31].

فإن قال: معاذ الله أن أقول بهذا؟! ولكني أعني: أن لا أحد يدعي امتلاك الحق من المسلمين. فيقال له: ولكن هذا يناقض الفكرة التي ترددها! لأنك حصرت الحقيقة في أهل الإسلام! فهذا يدل على بطلان ما تُردد. ولكن تنزلا معك يقال: هل تعني بذلك أن الحق قد يكون عند أهل السنة وقد يكون عند غيرهم من أهل البدع؛ كالصوفية والرافضة والمعتزلة... إلخ. فإن قال: نعم. قيل له: سبق أنك أقررت بأن الحق هو الإسلام؛ فلننظر أي هؤلاء يسير على الإسلام الذي أرسل لأجله محمد صلى الله عليه وسلم دون تحريف؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أخبر بأن أهل الإسلام يفترقون إلى ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة. فلما سئل: من هي؟ قال: «من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي»، وقال: «من أحدث في أمرنا هذا ماليس منه فهو رد». وما كان عليه صلى الله عليه وسلم وأصحابه معروف معلوم؛ قد جاءت به نصوص الكتاب والسنة وآثار الصحابة، وما حدثت هذه الفرق إلا بعدهم باتفاق الجميع.

فإن قال: بل أنا أعني أن الحق داخل إطار أهل السنة؛ ولكنه يختلف باختلاف أهل العلم والأشخاص. فيقال: يكفينا هذا منك! فلماذا لا تعلنه عندما تردد تلك العبارات الموهمة؟!

ثم الواحد من أهل السنة إن كان عاميًا سأل العلماء الثقات. وإن كان عالمًا أو طالب علم مميز بين الأدلة رجح ما يدل عليه الكتاب والسنة. مع ملاحظة الفرق بين المسائل الاجتهادية التي لم يتبين فيها الدليل فلا حرج من الاختلاف فيها مع نية طلب الحق لا التشهي، وبين المسائل الخلافية التي تبين فيها الدليل ووضح الحق فلا عبرة بالمخالف؛ مع حفظ مكانته إن كان من أهل الفضل. (ويُراجع في هذا الكتب والرسائل المصنفة في الاختلاف؛ كرسالة (الاختلاف وما إليه) للشيخ بازمول).

أسأل الله الهداية والتوفيق للمسلمين، وأن يُجنبنا الحيرة والشك وحال أهل الريب.

المقال السابق
(8) مصطلح: الإسلام السياسي
المقال التالي
مصطلح (الآخر)!!