الرحلات العائلية الصيفية .. كيف نستثمرها في تربية الأبناء؟

منذ 2014-12-22

هرولت منيرة إلى أمها، ورزمت معها الوسائد والأغطية، قبل أن تحمل بيدها عدة (القهوة) وتأخذ مكانها في السيارة وتنتظر أن ينتهي الجميع من أعمالهم ويتخذون أماكنهم، لتنطلق بهم السيارة في إجازة عائلية ستستمر شهراً كاملاً.

وقفت منيرة ترقب أمها وهي تعد آخر الأغراض الضرورية، فيما كان أبوها وإخوتها الثلاثة يتساعدون في حمل الأغراض إلى السيارة التي بدأت تنوء بأحمالها.

- تعالي ساعديني.. ألا ترين حاجتي للمساعدة.

- حسناً يا أمي.. أنا قادمة.

هرولت منيرة إلى أمها، ورزمت معها الوسائد والأغطية، قبل أن تحمل بيدها عدة (القهوة) وتأخذ مكانها في السيارة وتنتظر أن ينتهي الجميع من أعمالهم ويتخذون أماكنهم، لتنطلق بهم السيارة في إجازة عائلية ستستمر شهراً كاملاً.

في الطريق استمعت العائلة إلى بعض الأشرطة الدينية، ثم فتح الأب (الراديو) على محطة إذاعية، ومن قبيل الصدفة، كان الموضوع يتمحور حول العطلات الصيفية وأفضل السبل للاستمتاع بها والابتعاد عن السلبيات.

- هذه البرامج لا تنتهي.. كلما فتحت المذياع أو التلفاز أو الإنترنت؛ طالعتني هذه النصائح والإحصائيات، كأننا نفعل جرماً.

- كلا يا بني (أجاب الأب على تذمر ابنه) الإجازة موسم، وفي المواسم تركز معظم وسائل الإعلام على الحدث الأهم، والعبرة ليست في كثرة المواضيع والنصائح وكثرة الاستماع إليها، وإنما في تطبيق ذلك والاستفادة بالقدر المطلوب.

كانت منيرة لا تعي كثيراً مما يقوله الجميع حول السفر والعطلات، ولكن شيئاً كان قد حدث في نفسها حين وصلوا إلى مكان قضاء الإجازة بعد سفر طويل وممل.

كانت مدة الإجازة كافية لأن تلاحظ وتتعلم الشيء الكثير من هذه المدينة الغريبة والجديدة عليها، فقد كانت سنوات عمرها الثمانية كفيلة بأن تعلمها وتساعدها في حفظ الأشياء والاهتمام بها.

 

سلاح ذو حدين:

مثلها مثل الكثير من الأمور الأخرى، ذات الحدين الإيجابي والسلبي، تعد الرحلات العائلية في العطلات الصيفية ظاهرة ذات بعدين، حيث يمكن أن تتحول الرحلة إلى نقطة سوداء في حياة معظم أفراد العائلة، وتترك لديهم آثاراً وانطباعات سلبية، وتولد لديهم رغبات وتصرفات غير أخلاقية، كما يمكن أن تتحول درساً من دروس الأدب والأخلاق والالتزام والحشمة واللباقة وغيرها.

المسألة هي أولاً وآخراً بيد قائدي سفينة العائلة، والراعين لها، والمستأمنين عليها.

وفيما تكثر التحذيرات من الأخطاء التي قد تقع فيها العائلة خلال السفر والإجازات والعطلات، تقل المواضيع التي تخبرنا بالطريقة المثلى للاستفادة من الإجازة.

ورب حال البعض يقول: " لقد استمعنا للكثير من السلبيات في الإجازة، واستمعنا إلى جملة (لا تفعل كذا فهذا خطأ) إذن ماذا يمكننا أن نفعل في الإجازة".

علي محمد، متزوج وله طفل واحد عمره (3 سنوات)، ممن تعود على زيارة بعض الدول العربية القريبة كل سنة يقول: " كنت أسافر إلى بعض الدول العربية خلال الإجازات الصيفية قبل أن أتزوج، وكنت أحرص على الكثير من الأمور الصالحة، فأنا ممن أعيش الالتزام في كل مكان، ولكن بعد أن تزوجت، أصبحت حريصاً أكثر على وجهة سفري وتصرفاتي، أنا متزوج منذ نحو أربع سنوات، ولم أسافر إلى الخارج سوى مرة واحدة"

وعن سبب عدوله عن السفر إلى الخارج، يقول: " بكل صراحة فأنا أخاف على زوجتي من الفتنة، زوجتي صالحة وتخاف الله، وعندما سافرنا إلى الخارج كانت حريصة على لبس الحجاب، وسأعترف أنني عرضت عليها أن تخلع حجاب الوجه هناك، (من باب الامتحان) إلا أنها -والحمد لله- أكد نظرتي لها، برفضها هذا الأمر، وقالت لي: " إننا جئنا للاستمتاع بالعطلة، وليس لإغضاب الله - عز وجل -"، وكانت هذه الجملة هي التي جعلتني أعيد التفكير في مسألة السفر، وقررت منذ ذلك اليوم أن أقضي الإجازة في مكان داخل السعودية".

وأضاف: "إن ابني يكبر بسرعة، ويتعلم كل ما حوله، وأنا لا أريد أن أجعله يواجه بعض الأخطاء في بعض الدول التي أزورها، لذلك قررت التمتع بالإجازة الصيفية في بيئة تلائم ابني وزوجتي، وتساعدنا في تقوى الله لا في إغضابه".

 

في الرحلة العائلية عرفت والدي:

تروي إحدى الأخوات (م. ك) والطالبة في الصف الأول الثانوي، قصة حدثت معها في مدينة جدة خلال العطلة الصيفية قبل الأخيرة، فتقول: " طوال الأعوام الفائتة، كنت لا أعرف أبي عن قرب بشكل كبير، كان بالنسبة لنا رب الأسرة، يدخل في أوقات معينة، ويقوم بأعمال روتينية واعتيادية كل يوم تقريباً، إلا أنني عرفته لأول مرة أكثر خلال رحلة عائلية لنا زرنا فيها إحدى المدن الداخلية السنة قبل الماضية".

وتتابع الأخت بالقول: " والدي إنسان فاضل، كبير القلب، ويخشى الله في كل أموره، ويتقيه مخافة العقاب، وأملاً بالثواب، فخلال الأسبوعين الذين قضيناهما في الرحلة، تعرفت عليه بشكل أكثر قرباً، حيث كنا نقضي معظم أوقات اليوم في جو عائلي يجمعنا كلنا، فعرفت فيه خصالاً كثيرة لم أكن لأشاهدها في بقية الأيام".

ومثال على ما رأته من والدها بسبب قربها منه، تقول الأخت م: " على سبيل المثال، كنت أعد والدي صارماً في عدة أمور، منها: عمل المنزل، إلا أنني تفاجأت بدخول والدي إلى المطبخ أكثر من خمس مرات، لتجهيز وجبة الغذاء للعائلة، كما أنه كان يكثر من الاستماع في المنزل وفي طريق السفر الطويل لآيات قرآنية معينة، كررها طوال مدة سفرنا في السيارة، لدرجة أنني حفظت قسماً كبيراً من السورة، وعندما عدنا تفاجأت به يقول لي: " راجعي سورة الأحزاب، وستحفظينها -إن شاء الله- خلال وقت قياسي"، فعرفت أنه تقصّد تكرار سماع السورة من أجل أن نحفظها بسهولة".

القصة التي ترويها الأخت (م. ك) تنبه إلى نقطة مهمة وضرورية في سير تعلم الأبناء من آبائهم أثناء العطلات والرحلات العائلية.

حيث تصبح الرحلة العائلية فرصة نادرة لدى البعض (وسط الانشغال الدائم للأب) كي يتم الاحتكاك بشكل مباشر وكبير بين أفراد العائلة مع بعضها البعض، فربما تمر الأيام والأشهر والسنوات على بعض العائلات، دون أن يتمكنوا من فرصة قضاء 48 ساعة مع بعضهم البعض في مكان واحد.

وتأتي الرحلات العائلية هنا لتقدم هذه الفرصة للبعض، ما يتيح للأولاد الاحتكاك المباشر والطويل مع والديهم (وخاصة الأب) فيعرفون طباعه جيداً، ويتعلمون منه أشياء لم يكونوا يروها من قبل

وطالما أنه يعتبر (المثل الأعلى) لهم، فإن حسن تصرف الأب، والتزامه بتعاليم الدين الحنيف، والمواظبة على أداء الفرائض بالمساجد، وذكر الله في كل الأحوال، وعدم الاختلاط، وغيرها من الأمور الأخرى، سيكرس هذه المفاهيم لدى أبناءه، وهو ما ينطبق أيضاً على الأم.

 

آيات الله في الأرض:

تقول الدكتورة أسماء الحسين، (أستاذة الصحة النفسية المساعد بكلية التربية بالرياض): " يتفق المربون مع ما يقره الواقع أن أفضل وسائل التربية هي التي تنبع من خلال الواقع أو الاستفادة من الأحداث والمشاهد الحياتية التي يدركها ويتعايش معها الأطفال، بالإضافة إلى وجود القدوة الطيبة المصاحبة.

وعندما يصحب الأبوان أبناءهما في رحلات الصيف وبعد عناء عام دراسي طويل، وبعد أداء امتحان نهاية العام الدراسي فإن ذلك يكون فرصة لهم لتنمية مداركهم واتساع فرص التربية والتعلم أو الخبرات المفيدة، ولكن للأسف كثير من الناس ينشد السفر لغرض الترفيه الوقتي.. أو بدافع محاكاة الآخرين.. وقليل منهم من يجعل من السفر رحلة تربية وتعليم، وفائدة أو فرصة للتغيير الإيجابي واكتساب عدد من الفوائد، وهي عديدة لمن يبحث عنها أو يوليها اهتماماً.. ".

وتورد الدكتورة أسماء أمثلة عملية قد يغفل عنها الكثيرون أثناء الإجازات والرحلات، فتقول: " فعلى سبيل المثال يمكن للأبوين لفت انتباه أبنائهما إلى كثير من نعم الله -تعالى- علينا، والإشارة إلى عظمة صنع الله -تعالى- وإتقانه لكل شيء.

كذلك في زيارة الحدائق العامة أو المنتزهات الطبيعية يمكنهما لفت انتباه الأبناء إلى ضرورة النظافة، والنظام..

وتأمل سلوكيات الآخرين الجميلة أو السلبية والتعليق عليها، وجعل الأبناء يستشعرون ما يرونه ويتخيلونه صورة تنطبق عليهم أنفسهم، يمكن اصطحاب الأبناء إلى الأماكن المقدسة وجعلهم يساهمون في أعمال الخير أو توزيع بعض الكتيبات والنشرات المفيدة، نعلمهم معنى مساعدة الآخرين، والإحسان إلى المحتاجين.. "

وتتابع الأمثلة الخيّرة على حسن الاستفادة والتربية للأبناء أثناء الرحلات الصيفية: " ونعلمهم مناسك العمرة أو الزيارة للمسجد النبوي، وقراءة القرآن والصلاة مع الجماعة، ندربهم على أداء المناسك، ونقص عليهم قصة إبراهيم وولده إسماعيل - عليه السلام - وقصة بناء الكعبة، نوجه الأطفال أثناء الرحلات للتعود على أنفسهم من خلال توزيع الأدوار والمهام أو الواجبات في كل رحلة أو يوم.

نعلمهم شكر النعم وعدم الإسراف، يمكن اصطحابهم كذلك إلى بعض المناطق أو الحارات الفقيرة والمساكن المتواضعة، ونجعلهم يقارنون بين حالهم وأحوال أقرانهم من الأطفال الآخرين الفقراء ليدركوا الفرق ويحمدوا الله على نعمه، أو يتعلمون منهم القناعة والرضا، كذلك من خلال زيارة الأماكن الأثرية لأخذ العبرة والفائدة.

نشجعهم على سماع الأشرطة الدينية المفيدة في الطريق أثناء ركوب السيارة أو الحافلة، ويمكن أن نعمل لهم بعض المسابقات المشوقة وذات الأهداف الطيبة".

 

برامج عملية لرحلة صيفية هادفة:

أما الأستاذة إيمان السعدون، (المدرسة بكلية التربية الاجتماعية)، فتقول: "إن الاستفادة من الرحلات العائلية تكمن في مصداقية طلب الأسرة لذلك؛ لأن من كانت عنده نية صادقة وهمة عالية في الانتفاع بالأوقات وعمارتها على كل حال بما يرضي الله - عز وجل - من الأقوال والأفعال لنحقق له ذلك -بإذن الله تعالى-؛ لأنه من المعلوم أنه ما تعامل أحد مع الله إلا وكسب منه ".

وبحسب الأستاذة إيمان، فإن الرحلات الصيفية العائلية تنقسم قسمين رئيسين، تفرق بينهما، لتضع لكل منهما مكانتها والطريقة المثلى في التعامل معها، فتقول: الرحلات العائلية على نوعين:

1 القصيرة: وهي ما كانت يوماً واحداً أو ساعات قليلة من الممكن الانتفاع بها بالمسابقات السريعة الهادئة التربوية.

مع إيقاظ حسن التفكير والتدبر في الأحوال الخلوية والبرية والترويحية الخارجة عن نمط الحياة اليومية المنزلية المعتادة.

2 الطويلة: وهذه تمتد من أسبوع إلى أكثر، ولا بد لها من دراسة جيدة وتخطيط سليم ممكن أن يقوم به أحد قيادات الأسرة الأب أو الأم على حسب القدرة والمسؤولية مع المشاركة مع الأبناء حتى تكون البرامج نابعة من رغباتهم فلا يصابون بالملل والسأم والتمرد على ذلك".

ولتقديم استفادة أكبر وأشمل، وفقاً للتطبيق العملي، تورد الأستاذة إيمان بعض الخطوات الفعالة العملية، التي يمكن أن تعد نموذجاً للأسرة، فتقول: " تحتاج الخطة الأسرية للاستفادة من الرحلات العائلية الصيفية إلى عدة خطوات، منها:

- جمع أفراد الأسرة وتذكيرهم بحق الله عليهم في كل حال من الأحوال، ومنها ما هم بصدده من التنعم بفضله بهذه الرحلات وأنه يجب أن نشكره ولا نكفره وأن نذكره ولا ننساه، وأن هذه القلوب لا يجمل بها أن تنقطع في حال من الأحوال عن التعبد له باستشعار فضله والإحساس بقربه.

- ثم يحدد من خلال هذه المقدمة الأهداف التي يحتاج أن تنفذ، مثل:

- مراجعة للقرآن الكريم.

- محافظة على السنن والآداب.

- قراءة من كتاب.

- سماع للأشرطة النافعة بالتنقل بالسيارة.

- مناقشة مواضيع هامة وفق ضوابط الحوار النافع.

- الترفيه البريء".

وتختم الأستاذة أيمان حديثها بالقول: " أخيراً وفي كلا الحالتين، فإن الأمر يحتاج إلى أبوين محتسبي الأجر في تربية الأبناء وفق ما يرضي الله - عز وجل - متزينين بآداب المربين الفاضلين ومتزودين بالعلم الشرعي والدعاء الصادق الجازم المُلح على الله والحري بأن يستجاب له مع القدوة الصالحة على كل حال".

مؤكدة على أن بعض هذه التجارب قد تؤتي ثمارها بنسبة 100%، ومنهم من يحقق 50%، ومنهم 30%، ومنهم 10%، وتقول: " ولكن هذا كله أفضل من الضياع الكلي للأعمار والأوقات، ثم لعله في المرات القادمة تكون النتائج أفضل".

 

آفاق تربوية في الرحلات العائلية:

الأستاذة حورية قاضي، (المشرفة التربوية بمكتب الإشراف التربوي بجنوب الرياض)، تؤكد على أهمية الرحلات العائلية الصيفية في تربية الأبناء، وتحويلها إلى درس عملي يقدمه الأهل لأبنائهم بصورة جديدة ومختلفة.

وتذكر الأستاذة حورية بعض المجالات الواسعة التي تتمتع بها الرحلات العائلية الصيفية، باعتبارها نموذجاً عملياً لهذه الدروس التربوية، فتقول: " الرحلات العائلية الصيفية مجال واسع لتربية الأبناء من وجوه عديدة منها:

1 ترسيخ مفهوم إمتاع النفس المباح بصوره المختلفة من حيث:

اختيار الأماكن التي يجوز السفر إليها من غيرها ومناقشة أسباب تحريم المحرم منها.

البرامج التي سيقوم بها أفراد الأسرة للتسلية فمنها الممتع المسلي الذي يزيل ألم النفس ويقوي البدن كالرياضة والسباحة وغرس احتساب الأجر عند الله أن يكون كل ذلك لتجديد النشاط للعبادة.

2- مشاركة الأبناء في اختيار المكان ومناقشة ذلك معهم، وحصول الاتفاق بين أفراد الأسرة يعطي الأبناء ثقة في النفس، كما ينشر جواً من الألفة على الأسرة.

وممكن إتاحة الفرصة لكل فرد في الأسرة في اختيار مكان الرحلة لمرة واحدة، والمرة القادمة لغيره... وهكذا.

فذلك يعودهم على الشجاعة في إبداء الرأي وقبول رأي الآخر.

3- مشاركة الأبناء في الإعداد للرحلة، ووضع برنامج لها ينمي روح التعاون بين أفرادها ويعودهم على التخطيط والترتيب في جميع الأمور.

4- مناقشة الإيجابيات والسلبيات بعد إتمام الرحلة يُعلم الأبناء مفهوم تصحيح الأخطاء مستقبلاً.

5- الحرص على الصلاة خلال الرحلات وأداؤها في جماعة يعلم الأبناء عدم التهاون بها وأن النزهة وتحقيق المتعة لا يعني إهمال أمور الآخرة".