الرحلات

منذ 2014-12-22

النفس البشريَّة من طبيعتها السآمةُ والملل، فإذا استمرَّت على أمر ربَّما سئمت هذا الأمر، ومالت إلى طلب التجديد والتغيير، والشارع الحكيم راعى هذه الجِبلَّةَ في بني آدم، وهذا ظاهر، فحين التأمُّل في النصوص الشرعيَّة نجد الشارع جعل في العبادات المتكرِّرة تنوعًّا، فليستْ على صفة واحدة لحِكمٍ.

الخطبة الأولى
إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله مِن شُرور أنفسنا وسيِّئات أعمالنا، مَن يهدِه الله فلا مضلَّ له، ومَن يُضلل فلا هاديَ له، وأشهدُ أن لا إلهَ إلاَّ الله وحدَه لا شريكَ له، وأشهد أنَّ محمَّدًا عبدُه ورسوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 70 - 71].
أمَّا بعدُ:
النفس البشريَّة من طبيعتها السآمةُ والملل، فإذا استمرَّت على أمر ربَّما سئمت هذا الأمر، ومالت إلى طلب التجديد والتغيير، والشارع الحكيم راعى هذه الجِبلَّةَ في بني آدم، وهذا ظاهر، فحين التأمُّل في النصوص الشرعيَّة نجد الشارع جعل في العبادات المتكرِّرة تنوعًّا، فليستْ على صفة واحدة لحِكمٍ؛ منها:
مراعاةُ هذا الجانب والله أعلم، فمثلاً نجد التنوُّع في أذكار الصلاة، وفي صفتها، وفي صلاة التطوُّع، وهكذا في العبادات المتكرِّرة، وفي باب الوعْظ والتذكير راعى الشارع عدمَ السآمة على الناس، وذلك بعدم المداومة على الوعظ؛ فعن شقيقٍ أبي وائل الأسديِّ، قال: كان عبد الله بن مسعود يُذكِّرنا كلَّ يوم خميس، فقال له رجل: يا أبا عبد الرحمن، إنَّا نحبُّ حديثك ونشتهيه، ولوددنا أنَّك حدثتَنا كلَّ يوم، فقال: ما يمنعني أن أُحدِّثكم إلاَّ كراهية أن أُمِلَّكُم، إنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يتخوَّلُنا بالموعظة في الأيَّام؛ كراهيةَ السآمة علينا"؛ رواه مسلم (2821).
وأرشد النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أن تُعطى النفس حقَّها من الميل إلى الراحة والاستجمام، وأقرَّ أصحابَه على ذلك؛ فعن حنظلة الأسيدي، قال: لقيني أبو بكر، فقال: كيف أنت يا حنظلة، قال: قلت: نافق حنظلة، قال: سبحان الله! ما تقول؟ قال: قلت: نكون عندَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُذكِّرنا بالنار والجنَّة، حتى كَأَنَّا رَأْيُ عَيْنٍ، فإذا خرجْنا من عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عافسْنا الأزواجَ والأولاد والضَّيْعات، فنسينا كثيرًا، قال أبو بكر: فوالله، إِنَّا لنلْقَى مثلَ هذا، فانطلقت أنا وأبو بكر، حتى دخلْنا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قلت: نافق حنظلة يا رسول الله، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((وما ذاك؟ قلت: يا رسول الله، نكون عندَك، تُذكِّرنا بالنار والجنة، حتى كَأَنَّا رَأْيُ عَيْنٍ، فإذا خرجْنا من عندك عافسْنا الأزواج والأولاد والضَّيْعات، نسينا كثيرًا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: والذي نفسي بيده، إِن لَوْ تَدومونَ على ما تَكونون عندي، وفي الذِّكْر، لَصافَحَتْكُم الملائِكَةُ على فُرُشِكم، وفي طُرُقِكم، ولكن يا حنظلة، ساعةً وساعةً - ثلاث مرات)) رواه مسلم (2750).
فإعطاءُ النفس حظَّها من المتعة بالرَّحلات، أو غير ذلك من المباحات - ليس منهيًّا عنه مطلقًا، إنَّما يُنهى عن الإكثار مِن ذلك حتى يؤدِّيَ إلى الغفلة، وترْك الجُمُع والجماعات، وتَعلُّقِ القلب باللهو والغفلة، بحيث تفسد على الرَّجل دنياه وآخرته، فعن ابن عبَّاس- رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((مَن سكن البادية جفَا، ومن اتَّبَعَ الصَّيْد غفل، ومَن أتى السلطان افتُتن))؛ رواه الإمام أحمد (3353) بإسناد صحيح.
ولا يظنُّ أنَّ خروج الناس للنزهة، وقطعهم المسافاتِ الطويلةَ للنزهة والترويح عن النفس، أنَّه مِن عمل أهل هذا العصر، بسبب توفُّر وسائل الموصلات، ووجود الإجازات، مع الغِنى والبسط في الرِّزق، بل كان ذلك عندَ مَن تقدَّمنا، لذا نجد في كتب الفقه أحكامًا في الطهارة والصلاة والزَّكاة تخصُّ مَن خرج مسافرًا للفُرْجة والتنزُّه، وأبوابًا خاصَّة بالصيد.
عباد الله:
الذَّهاب بالأهل والتنزه بهم، وإدخال السُّرور عليهم في الإجازات وغيرها - مِن العبادات التي يُؤجَر عليها الولِيُّ، فإدخال السُّرور وتفريح المسلمين يُؤجر عليه المسلم، فإذا كان الواحدُ يُؤجر على تفريح الأباعد مِن المسلمين، فالأهل أولى بأنْ يُؤجرَ إذا فرَّحهم وطرد السآمةَ عنهم، فعن عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -: أنَّ رجلاً جاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، أيُّ الناس أحبُّ إلى الله؟ فقال: ((أحبُّ الناس إلى الله أنفعُهم للناس، وأحبُّ الأعمال إلى الله - عز وجل - سرورٌ تُدخله على مسلم، تكشف عنه كُربة، أو تقضي عنه دَينًا، أو تطرد عنه جُوعًا، ولأنْ أمشيَ مع أخٍ في حاجة أحبُّ إليَّ مِن أن أعتكف في هذا المسجد - يعني: مسجد المدينة - شهرًا))؛ رواه الأصبهاني، وحسَّنه الألباني في صحيح الترغيب.
لكنَّ الأجرَ مترتِّبٌ على مَن اتقى الله في تنزُّهه، فابتعد وأَبعدَ أهلَه عن الحرام، فلم يُعرِّض نساءَه إلى التبرج ونَظرِ الرِّجال الأجانب لهنَّ، ولم يشهد منكرًا، فإذا كان فاعلاً أو شاهدًا للمُنكر هو أو أهلُه، آبَ بالوِزر لا بالأجر، فاتقوا الله في رَحلاتكم.
إخوتي:
البَرُّ مظنَّة الهوام والشياطين، فما تحصَّن متحصِّنٌ بمثل ذِكر الله، فهو حصنٌ يتحصَّن به المسلم ممَّا يؤذيه، وما لا يستطيع دفْعَ أذاها، فلنحافظْ على الأذكار عامَّة، والأذكار الخاصَّة، ومن ذلك: ((أعوذ بكلماتِ الله التامَّات من شرِّ ما خلق))، فعن خولةَ بنت حكيم، قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((مَن نزل منزلاً، ثم قال: أعوذ بكلماتِ الله التامَّاتِ مِن شرِّ ما خلق، لم يُضرَّه شيءٌ حتى يرتحلَ مِن منزله ذلك)) رواه مسلم (2708).
الخطبة الثانية
الحمد لله ربِّ العالَمين، والصلاة والسلام على نبيِّنا محمَّد، وعلى آله الطيِّبين الطاهرين، وعلى سائر أصحابه البَرَرة، ومَن اقتفى أثرَهم إلى يوم الدِّين.
وبعد:
من الخطأ الذي يقع به البعضُ حالَ رحلته: جمْعُ الصلاة من غير حاجة، ولم يُنقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حديثٌ صحيح صريحٌ أنَّه جمع وهو نازلٌ، إلاَّ أن يكون محتاجًا للجمع، فيجمع وهو نازل، كما جَمَع في عرفةَ، إنَّما كان يجمع النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا كان يَسيرُ، فإنْ وقع الجمعُ في السَّفر من غير حاجة، فهو خلافُ الأوْلى، والصلاة صحيحة، وإن كان في غير سفرٍ وكان نازلاً - كمَن يذهب للنزهة مسافةً قصيرة في أثناء النَّهار ويرجع آخرَه - فيجمع وهو نازلٌ من غير حاجة، فهذا الجمع محرَّم؛ لعدم الحاجة، ولم يُرخَّص للمقيم أن يجمع إلاَّ للحاجة، والواجب أن تُصلَّى الصلاة في وقتها، فَمَن قدَّمها عن وقتها أو أخَّرها عنه بغير عذرٍ لم تُقبل منه، ولم تبرأْ ذِمَّتُه.
إخوتي:
البعض يعرِّض نفسه ومَن معه للخطر، وذلك باستعراضه بسيارته على الرِّمال، وسيره في أماكنَ خطرة، وقيادة السيارة والحالة هذه معصية، فيحرُم أن يُعرِّض الشخص نفسَه لِمَا يتسبَّب في الموت، أو التعرُّض للإصابة في خاصَّة نفسه أو مَن معه، أو في تعريض سيارته للضرر أو التلف، فالنفس التي بين جنبيك لا تتصرَّف فيها إلاَّ وَفق أمر الله، لذا فمَن تسبَّب في قتْل نفسه، فهو مِن أهل الوعيد الشديد، فالنفوس والأموال ليست مِلكًا لنا، بل المالك الحقيقي هو الخالق الرازق، إنَّما البشر لهم ملك الانتفاع بها وَفْق أوامر ونواهي مالكِ المُلك - عز وجل -فاتَّق الله - أخي الشاب - في نفسك، وفيمَن معك، وفي سيارتك، فكم مِن قتيل لهذه التصرُّفات الطائشة! وكم من طريح الفراش قد لازمتْه إعاقةٌ دائمة أو مؤقَّته! فالعاقل مَن اتعظ بغيره، وعلينا - معاشرَ الآباء والمربِّين - واجبُ بذل الوُسع في التربية والتوجيه أوَّلاً، وفي إصلاح الخطأ بعد وقوعه ثانيًا؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لاَ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) [التحريم: 6].
إخوتي:
البعض لا يأكل البصل ونحوَه حينما يكون مقيمًا؛ لأنَّه يعلم بنهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، وأنَّه يحرُم عليه حضورُ الصلاة في المساجد ما دامتْ رائحة البصل ونحوه باقيةً، لكنَّه ورفقتَه يأكلون البصل أو الكُرَّاث، أو الثَّوم في البَرِّ؛ ظنًّا منهم أنَّ النهي مختصٌّ بالمساجد فقط، وهذا الظنُّ خطأ، فالنهي ليس خاصًّا بالمساجد فقط، بل عامٌّ في الجماعات، كانت في المسجد، أو في غيره، فالجماعات تحضرها الملائكة؛ فلذلك حَرُم أكل البصل النِّيء ونحوه، حتى لا تتأذَّى الملائكة بذلك، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن أكْل الثوم في غزوة خيبر، ولم يكن بخيبر مسجدٌ بُني للنبي - صلى الله عليه وسلم - إنَّما كان يُصلِّي بالناس في موضع نزوله منها؛فعن ابن عمرَ: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في غزوة خيبر: ((مَن أَكَل مِن هذه الشَّجرة - يعني: الثَّوم - فلا يأتينَّ المساجد)) رواه البخاري (853) ومسلم (561).
قال النوويُّ في شرح مسلم (5/68): "فيه نهيُ مَن أكل الثَّوم ونحوَه عن حضور مَجْمع المصلِّين، وإن كانوا في غير مسجد، ويؤخذ منه النهيُ عن سائر مجامع العبادات".
وقال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (2/340):"القول المذكور صدرٌ منه - صلى الله عليه وسلم - عقبَ فتح خيبر، فعلى هذا فقوله: ((مسجدنا)) يُريد به المكانَ الذي أَعدَّ ليصليَ فيه مدَّة إقامته هناك، أو المراد بالمسجد: الجِنس.

أحمد الزومان