لفتات من قصة ذي القرنين

منذ 2014-12-27

نستطيع أن نخرج من قصة ذي القرنين بسنة إلهية محكمة، وهي أن تغيير الواقع أمر لا عسر فيه إذا كان هناك جيل قادر على الأخذ بزمام المبادرة مع تقدير الأمور قدرها في ضوء المعطيات والأدوات المتاحة، وليس بعد ذلك إلا عون الله وتوفيقه طالما أن نية الإصلاح متحققة.

بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه أجمعين.

اللفتة الأولى:
القرآن حين يحدثنا عن ذي القرنين، فإن حديثه مليء بالحركة الدائبة والنشاط المتجدد، المتمثل في الحركة الدعوية التي قام بها، والرحلات الجهادية التي جاب من خلالها الأرض شرقًا وغربًا، ففي ثلاثة مقاطع تتابعت فيها الحركة تتابعًا يوحي أن رحلاته الدعوية لا يحدّها مكان، ولا تنتهي بنهاية، ونلاحظ ظاهرة في المقطع الأول {حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ..} [الكهف:86]، والمقطع الثاني:{حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ..} [الكهف:90]، والمقطع الثالث {حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ} [الكهف:93]، وهي أن المقاطع الثلاثة، يجمع بينها شيء واحد، وهو أن نقطة الانطلاق غير معلومة..

وهذا شيء طبيعي من رجل رحالة لا يمكن أن تعرف له نقطة انطلاق؛ لأن هذه النقطة تكون نهاية لنقطة سبقتها، وهذه النقطة بدورها نهاية لنقطة أخرى قبلها، ولا غرو في ذلك؛ فهذه سمة مطردة لرحلات ذي القرنين الدعوية، وليس أدل على ذلك من تكرار الفعل {بَلَغَ} ثلاث مرات، وهو فعل يشي بنهاية حركة دائبة تصل إلى مقصودها الدعوي مستعينة بوسائل التمكين المعطاة لذي القرنين.

اللفتة الثانية:
قوله تعالى: {قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا} [الكهف:87].
وقال تعالى: {وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا} [الكهف:88].

نلاحظ أن ذا القرنين قدم في الآية الأولى العقوبة الدنيوية على العقوبة الأخروية، وفي الآية الثانية، قدم الجزاء الأخروي على الجزاء الدنيوي، ولعل في ذلك مغزًى وإشارة لها معناها، فالآية الأولى التي جاءت في معرض تقرير مبدأ العقاب، تشير إلى الفرصة أو المهلة التي يعطيها لهؤلاء القوم؛ لأنه مكلّف بنشر دعوة، من استجاب لها فله جزاء الحسنى في الآخرة، ومن لم يستجب لها فليس له منه إلا العذاب والنكير حتى يكون عبرة لمن يعتبر.

كما أنها تقرر العقوبة الدنيوية التي يملكها الحاكم؛ لأنه إذا لم يضرب بيد من حديد على المنحرفين والظالمين، ستهتز دعائم ملكه وتنهار أركان حكمه؛ ولأن هؤلاء الظالمين سادرون في غيهم ومتمادون في ظلمهم وانحرافهم، فلا بد من إيقاظهم من غفلتهم وردهم إلى رشدهم، لأنهم يستبطؤون العذاب الأخروي، وغيرهم يقلدونهم ويسيرون على طريقهم طالما أنه ليس هناك رادع يردعهم أو زاجر يزجرهم، سواء كان هذا الرادع سلطة ضمير أو قوة حاكم وأمير، وهذه العقوبة الدنيوية التي يشرعها تحفظ ميزان حكمه فلا يميل ولا يضطرب، وتقوّم المعوج فيستقيم الجميع على الجادة ويرتدع من لا تنفع معه الموعظة، وبهذا تحفظ دعائم حكمه وتثبت أركان ملكه.

أما الآية الثانية فجاءت في معرض تقرير مبدأ الثواب، فهي تقدم الجزاء الأخروي على الجزاء الدنيوي؛ لأن أهل الإيمان والصلاح ليس في مقدور أحد أن يجازيهم على إيمانهم وصلاحهم إلا الله سبحانه وتعالى، فهو الأعلم بما يجازي به عباده المؤمنين الصالحين، وجزاء هذا الإيمان إنما يكون الجنة والنعيم في الآخرة، والثناء الحسن والتيسير في الأمور في الدنيا، فلا بد أن يأتي الجزاء الإلهي أولاً.

أما الجزاء الذي يمنحه الحاكم لهؤلاء فهو مجرد أثر من آثار رضا الله عليهم، وتعجيل لبعض ما ينتظرهم في الآخرة من الجزاء الأوفى، فقدّم ذو القرنين الجزاء الأخروي وكأنه يقول لهم إنني بما مكنني الله فيه لا أقدر على أن أوفيكم أجركم كاملاً غير منقوص؛ لأن الحق جل وعلا هو القادر على ذلك، وكأنه يستقطبهم ليعضدوا ملكه ويدعموا هذا السلطان القائم على الإيمان والإصلاح، كما يحفزهم ويشجعهم ليبذلوا المزيد والمزيد من الصلاح والخير، ويدفعهم إلى مواصلة الإنتاج والتعمير، وحتى لا ييأسوا ويشعروا أنهم يفعلون الفعل الحسن ولا يلقون في مقابله جزاءً أو شكورًا، ومن ثم تضعف روحهم وتُثنى عزائمهم، ويتكاسلون عن الإعمار والبناء، فيكونوا أول من يقوضون دعائم الملك والسلطان.

ولعل هذين المبدأين هما أساس نهضة الأمم؛ لأن مجتمعًا لا يقوم على هذه السياسة الرشيدة تعمه الفوضى ويشل حركته الفساد؛ فأصحاب الأساليب الملتوية وذوي النفاق والتملق هم المقدّمون، أما أصحاب الكفاءات المخلصون الجادون مغيبون لا مكان لهم في ظل هذا السياسة المجحفة.

اللفتة الثالثة:
هناك قولان في عودة الضمير في قوله تعالى: {...وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْمًا...} [الكهف:86].
القول الأول: "أنه عائد إلى الشمس، ويكون التأنيث للشمس؛ لأن الإنسان لما تخيل أن الشمس تغرب هناك كان سكان هذا الموضع كأنهم سكنوا بالقرب من الشمس"، القول الثاني: "أن يكون الضمير عائدًا إلى العين الحامية".

اللفتة الرابعة:
كان ذو القرنين حكيمًا في ما اختاره لهؤلاء القوم، عندما أرادوا أن يحميهم من شر يأجوج ومأجوج، فهم قد طلبوا منه أن يجعل لهم سدًّا، وهو أراد أن يبني لهم ردمًا، وفي اختياره الردم وتفضيله إياه على السد حكمة عظيمة توحي بحكمة ذي القرنين وبلوغه شأوًا بعيدًا علية في الصناعة والعمران.

يقول الشيخ الشعراوي: "لم يقل سدًّا؛ لأن السد الأصم يعيبه أنه إذا حصلت رجة مثلاً في ناحية منه ترجّ الناحية الأخرى؛ لذلك أقام لهم ردمًا، أي: يبني حائطًا من الأمام وآخر من الخلف ثم يجعل بينهما ردمًا من التراب ليكون السد مرنًا، لا يتأثر إذا ما طرأت عليه هزة أرضية مثلاً، فيكون به التراب مثل (السُّوست) التي تمتص الصدمات، والردم أن تضع طبقات التراب فوق بعضها حتى تردم حفرة مثلاً وتسوّيها بالأرض، وهذا البناء يشبه ما يفعله الآن المهندسون في المعمار بالحديد والخرسانة، لكنه استخدم الحديد وسد ما بينه من فجوات بالنحاس المذاب ليكون أكثر صلابة، فلا يتمكن الأعداء من خرقه، وليكون أملس ناعمًا فلا يتسلقونه، ويعلون عليه". (تفسير الشعراوي، مج 14، ص8990، 8991، بتصرف).

ويقول سيد قطب: "استخدمت هذه الطريقة حديثاً في تقوية الحديد؛ فوجد أن إضافة نسبة من النحاس إليه تضاعف مقاومته وصلابته. وكان هذا الذي هدى الله إليه ذا القرنين، وسجله في كتابه الخالد سبقاً للعلم البشري الحديث بقرون لا يعلم عددها إلا الله".

اللفتة الخامسة:
نستطيع أن نخرج من قصة ذي القرنين بسنة إلهية محكمة، وهي أن تغيير الواقع أمر لا عسر فيه إذا كان هناك جيل قادر على الأخذ بزمام المبادرة مع تقدير الأمور قدرها في ضوء المعطيات والأدوات المتاحة، وليس بعد ذلك إلا عون الله وتوفيقه طالما أن نية الإصلاح متحققة.

فهؤلاء القوم المستضعفون الذين كانوا دون السدين، لم يقدروا على تغيير واقعهم المرير، الذي ذاقوا فيه الويل والثبور على يد يأجوج ومأجوج، فقد ظل ينتظرون المخلص لهم من شرهم، حتى جاءهم ذو القرنين، وأغلب الظن أن الأوامر التي وجهها ذو القرنين لهؤلاء القوم (فأعينوني، آتوني زبر الحديد، انفخوا، آتوني أفرغ عليه قطرًا) كانت بمثابة تحريك لهمهم وتحفيزًا وإشراكهم في تغيير هذا الواقع؛ ليعلموا أن هذا التغيير كان بمقدورهم وبين أيديهم مقوماته، بيد أنهم لم يلتفتوا إليها، وظلوا ينتظرون من يلفتهم إليها ويشعرهم بوجودها، مع أنها موجودة كل يوم..

وأغلب الظن أن هذه الأوامر تحمل في طياتها نعيًا عليهم؛ لأنهم ظلوا قابعين تحت وطأة هذا الواقع، ولم يحاولوا أن يغيروه بما في أيديهم من وسائل وإمكانات، بيد أننا نقول أن هذا ظنًّا من الظنون لا يقوم دليل عليه، ونستطيع أن نقول إنهم لو التفتوا إلى هذا كله يبق لهم المحرك وهو الإيمان الذي أتى به ذو القرنين، والذي صنع مع بقية المقومات هذا التغيير المرجو.

ونخلص من هذا كله أن فكرة المخلص ما زالت تسيطر على مجتمعاتنا الإسلامية، كما سيطرت على هؤلاء القوم المستضعفين، فالكل يرنو إلى المخلص، مع أن كل واحد منهم مخلص في موقعه إذا صلح وأصلح.

والله تعالى أعلى وأعلم والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه أجمعين.


محمد خيري رمضان يوسف