إسرائيل وسفن الحرية .. جريمة تليق بمرتكبيها
إن جريمة اليوم تؤكد أن تصاعد الضغوط يجبر إسرائيل على اقتراف الأخطاء الفادحة، فما حدث ضد نشطاء السلام يعد خطأً فادحًا ستدفع إسرائيل جراءه ثمنًا باهظًا من سمعتها على الساحة الدولية، مع الأخذ في الاعتبار أن الضرر الذي ألحقته حرب غزة بصورة إسرائيل مازال عالقًا في الأذهان حتى الآن، ويفاقم من الضرر هذه المرة أن الهجوم وقع في المياه الدولية واستهدف نشطاء سلام عزل، ينتمون إلى نحو 40 جنسية، وهو ما يفتح جبهات عدة يجب على الاحتلال الإسرائيلي التعامل معها.
ما زال الغموض يحيط بكثير من تفاصيل وملابسات الهجوم الإسرائيلي الإجرامي الذي استهدف صباح يوم الاثنين سفن "أسطول الحرية"، مما أسفر عن مقتل وإصابة العشرات من نشطاء السلام الذين استهدفوا كسر الحصار الإسرائيلي على قطاع غزة، الأمر الذي تسبب في إطلاق موجة واسعة من الانتقادات والإدانات شملت العديد من عواصم العالم، كما يتوقع أن تشهد الأيام المقبلة عدّة تحركات عبر المؤسسات الإقليمية والدولية المعنية بالأمر؛ لاتخاذ مواقف جماعية تجاه ما حدث، خاصة أن الهجوم وقع في المياه الدولية، واستهدف رعايا ينتمون إلى 40 دولة، ومن بينهم برلمانيون ونشطاء سلام دوليون.
وفي الإجمال، فإن هذه التحركات، ورغم ما قد يصاحب بعضها من صياغات إنشائية رنانة وقوية، تعدّ مجرد "إبراء ذمة" من جانب أصحابها، خاصة في أوروبا؛ إذ أنه ليس هناك مَن هو على استعداد لمحاسبة إسرائيل وفقًا لحجم الجريمة التي اقترفتها، وربما تكون تركيا هي الاستثناء الوحيد، حيث تشير التقارير الأولية إلى أن معظم الضحايا من مواطنيها، كما أن بعض سفن الأسطول كانت تحمل العلم التركي، فضلاً عن أن الشارع التركي معبأ بشدة ضد إسرائيل منذ العدوان على غزة نهاية عام 2008، وهو أمر لا تستطيع حكومة الطيب أرودغان تجاهله وهي تصوغ ردّ فعلها تجاه الجريمة الإسرائيلية، وإن كان عليه في نفس الوقت أن توازن بين ذلك وبين حسابات البراجماتية السياسية، المتعلقة بنفوذ اللوبي الصهيوني في أمريكا وأوروبا، ومدى قدرته على إلحاق الضرر بمصالح تركيا عبر العالم.
مؤشرات أساسية:
وبشكل عام، فإن المواقف وردود الفعل الأولى على الهجوم يمكن أن نستشفَّ منها عدة مؤشرات قد تساعدنا على فهم ما حدث، والتنبؤ بمسارات الأفعال والتحركات المتوقعة خلال الساعات والأيام المقبلة، وذلك على النحو الآتي:
أولاً: أنّ تركيا باتت اللاعب الرئيس فيما يتعلق بالملف الفلسطيني شعبيًا، حيث تعتبر مواقف أنقرة هي الأكثر قربًا من نبض الشارع العربي والإسلامي، ولذا فإنّ أنظار المواطنين العرب، وحتى المراقبين والمحللين، توجهت فور وقوع الجريمة الإسرائيلية صوب أنقرة، وليس تجاه أي عاصمة عربية، حيث يتوقع الجميع أن يكون موقف تركيا هو الأقوى، ومن اللافت أنّ إسرائيل باتت تدرك هذه الحقيقة حيث سارع مسئولوها لفتح قنوات اتصال عاجلة مع المسئولين الأتراك؛ لاحتواء الموقف قدر الإمكان، وحتى الآن، فإنّ ردود الفعل التركية شملت استدعاء سفيرها في تل أبيب، واستدعاء سفير إسرائيل في أنقرة؛ لنقل رسالة احتجاج شديدة إليه، كما سافر وزير الخارجية التركي إلى نيويورك للدعوة إلى اجتماع طارئ للجمعية العامة للأمم المتحدة، ويتوقع أن يكون هناك مزيد من الخطوات الانتقامية التركية.
ثانيًا: إن جريمة اليوم تؤكد أن تصاعد الضغوط يجبر إسرائيل على اقتراف الأخطاء الفادحة، فما حدث ضد نشطاء السلام يعد خطأً فادحًا ستدفع إسرائيل جراءه ثمنًا باهظًا من سمعتها على الساحة الدولية، مع الأخذ في الاعتبار أن الضرر الذي ألحقته حرب غزة بصورة إسرائيل مازال عالقًا في الأذهان حتى الآن، ويفاقم من الضرر هذه المرة أن الهجوم وقع في المياه الدولية واستهدف نشطاء سلام عزل، ينتمون إلى نحو 40 جنسية، وهو ما يفتح جبهات عدة يجب على الاحتلال الإسرائيلي التعامل معها، وقد أقدمت حتى الآن- كل من اليونان، وإسبانيا، والسويد، والنرويج، والدنمرك، ومصر، والأردن على استدعاء السفير الإسرائيلي لديها؛ لإبلاغه احتجاجها، ولذا فإن الدرس الأول المستفاد من تلك الجريمة هو: ضرورة تصعيد الضغوط ضد إسرائيل، وعدم الاستخفاف بتأثير أي خطوة تلحق الضرر بصورة إسرائيل في العالم مهما بلغت رمزيتها؛ لأن التأثير التراكمي لهذه التحركات أمام بالغ الأهمية.
سمعة زائفة:
ثالثًا: إنّ السمعة الأخلاقية لجيش الاحتلال الإسرائيلي أصبحت "مزحة ثقيلة"، لا يجرؤ حتى الإسرائيليين أنفسهم على التلويح بها، والفضل في ذلك يعود للمقاومة الفلسطينية واللبنانية، التي أجبرت جنود الاحتلال على خوض معارك حقيقية، وليس مجرد نزهة لاستعراض العضلات كما كان يحدث في السابق، وقد أدّى ذلك إلى أن الجندي الإسرائيلي أصبح أقل ثقة في نفسه، مما يجعله أكثر ميلًا للاستخدام المفرط لكل ما يحمله من أسلحة فتاكة بغض النظر عن حجم وطبيعة الهدف الذي يواجهه.
ولذا فإنّ هؤلاء الجنود عندما رفض نشطاء السلام على متن سفن الحرية الاستسلام لهم، قاموا بإطلاق النار عليهم رغم أنّهم عزل من أي سلاح، ويتوقع أن يكون لهذا المسلك عواقب وخيمة على جيش الاحتلال في أي مواجهة مسلحة قادمة؛ لأن الجيش الذي لا يتحكم جنوده في أفعالهم يتحول إلى مجرد عصابات للقتل، وهناك شكوك جدية في قدرته على تحقيق انتصار عسكري منظم.
رابعًا: أنه لم يَعُد هناك من يراهن على موقف عربي فاعل ضد إسرائيل، بل إن هناك من العرب من باتَ يدير علاقته مع إسرائيل بمعزل تمام عن الملف الفلسطيني، بمعنى: أن هذه العلاقة لا تتأثر بما تفعله إسرائيل بالفلسطينيين، ومن المفارقة هنا أن قطر التي سارعت بالتنديد بالجريمة الإسرائيلية بعبارات رنانة، كانت تستضيف في ذات الوقت وزير الصناعة الإسرائيلي بنيامين بن إليعازر للمشاركة في مؤتمر اقتصادي بالدوحة، رغم سجل الرجل الدموي ومجازره الشهيرة ضد الأسرى المصريين في حرب يونيو 67، ولذا فإنه يتوقع في الأيام المقبلة أن يلتحق العرب بالمواقف التركية، دون أن تكون لديهم رؤية مستقلة للتحرك أو الفعل، وليس هناك من يتوقع أو يراهن على سحب سفراء أو قطع العلاقات مع إسرائيل.
خامسًا: إنّه في ظل الاختلال الرهيب في موازين القوة بين الفلسطينيين والاحتلال الإسرائيلي، والتخاذل العربي عن اتخاذ موقف تضامني فعال، يجب على الفلسطينيين ومناصريهم التحرك بقوة في الأوساط الشعبية العالمية، لجذب المؤيدين وفضح جرائم الاحتلال الإسرائيلي، فورقة الرأي العام العالمي أصبحت في غاية الأهمية، ليس طبعًا لتحرير الأرض، وإنّما في توضيح الحقائق وحرمان الإسرائيليين من احتكار الحديث لوسائل الإعلام والنخب في العالم، خاصة أن إسرائيل تشهد في السنوات الأخيرة صعودًا قويًا لقوى اليمين المتطرفة، ما يسهل كثيرًا من مهمة الفلسطينيين ومناصريهم.
مصطفى عياط
- التصنيف:
- المصدر: