التقليد

منذ 2015-01-16

ولقد ظننت حين أقدمت على قبول كتابة هذا الباب من الرسالة أن انبعاثي للكتابة وطول وممارستي لمادتها كفيلان بنهنهة النفس عن بعض ثورتها، ولكني أخطأت، فإن أكثر ما حملت نفسي على قراءته يكاد يؤرِّث النار كلما خبت، ويعيدها جَذَعة كلما طفئت، ويدفعني إلى مثل الحريق من الألم والحسرة والغضب للأدب العربي أن يكون إلى مثل هذا الضعف والفساد والقبح مصيره وعقباه.

لم أكد أفرغ من قراءة ما تيسر لي أن أقرأه في هذا اليوم، وما قبله، حتى عاودني الفكر في أصول ما قرأت من كلام الكتاب والشعراء، ووقفت أستعيد في نفسي تلك التيارات الكثيرة التي تموج بنفوسهم من تحت اللفظ والعبارة والمعنى والغرض.

ولقد ظننت حين أقدمت على قبول كتابة هذا الباب من الرسالة أن انبعاثي للكتابة وطول وممارستي لمادتها كفيلان بنهنهة النفس عن بعض ثورتها، ولكني أخطأت، فإن أكثر ما حملت نفسي على قراءته يكاد يؤرِّث النار كلما خبت، ويعيدها جَذَعة كلما طفئت، ويدفعني إلى مثل الحريق من الألم والحسرة والغضب للأدب العربي أن يكون إلى مثل هذا الضعف والفساد والقبح مصيره وعقباه.

إنَّ أصحاب هذا اللسان العربي والناطقين به قد أصابتهم في عصور متتابعة مصائب الجهل والغفلة والضعف، فتحطَّمت عروش الدولة في بلادهم كلِّها، وعدا عليها كلُّ عاد من ذؤبان الأمم، فاستذلُّوهم، وأخذوهم وفتكوا بهم، وقَضْقَضوا أوصالهم بالعنف والاستبداد تارة، وبالرفق والسياسة المتدجِّية تارة أخرى. ثم جاءت أيام بعثت من تحت الليل جمرات تفرَّقت ثم اجتمعت، ثم استطار شرارها، فرمى في كلِّ هامدة بعض الحياة، وكذلك ثارت أحلام النائمين بتحاسينها وتخاريجها وفنونها، فانتفضوا يطلبون تحقيق أنوار لياليهم في سواد أيامهم، ولكنهم قاموا وهبُّوا على غير نظام ولا تدبير ولا تعبئة، فانتشرت القوى الجديدة وتمزَّقت، فضعفت وأخفقت، ولم يكن منها ما كان يرجى لها من الغلبة والظفر والسيادة، وبقي الضعف في هذه الأمم العربية هو عمادها، وعماد أعمالها في عصر من القوة الأوربية الطاغية، يمتدُّ ويتراحب وينساح في الأرض كلِّها متدافعًا متدفقًا، لا يقف ولا يفتر.

ومن بلاء الأمم الضعيفة بنفسها أنَّ انبعاثها إلى التقليد -تقليد القوي- أشدُّ من انبعاثها لتجديد تاريخها بأسباب القوة التي تدفع في أعصابها عنفوان الحياة، والضعف يجعل محاكاة القوي أصلًا في كلِّ أعماله، فلما فسدت قيادة أصحاب الرأي عند هذه الأمم الضعيفة، وكان لا بدَّ للمستيقظ من أن يعمل، كان عمل الأفراد متفرقين منسحبًا على أصلين: ضعف أورثهم إياه ضياع كيان الدولة السياسي، وضعف كرثهم به -أي أضعفهم وشق عليهم- تفرُّق القيادة، وشتات الأغراض، فلا جرم أن يكون كلُّ عمل موسومًا بسمة مِن ضعفٍ مُظَاهر بضعف صاحبه، ولا جرم أن يكون أعظم أعمالنا هو تقليد أعمال الناس على الهوى والجهل والدهشة المتصرفة بغير عقل.

هذا كلُّ شيء تحت أعيننا وبأيدينا: بيوتنا، مدارسنا، أبناؤها، رجالنا، نساؤنا، علمنا، أدبنا، فنُّنا، أخلاقنا... كلُّ ذلك على الجملة والتفصيل قد وُسم بميسم الضعف والتفرُّق، وانعدام التشاكل بين أجزائه، التي يتكوَّن من مجموعها معنى الأُمَّة، وكلُّها تقليد قد تفرَّقت في جمعه أهواء أصحابه من هنا وهنا.

والتقليد بطبيعته لا يتناول من الأشياء إلا ظاهرها، فكلُّ مآخذنا من أجل ذلك ليست إلا مظهرًا. هذه المرأة -وهي فنُّ الحياة الذي يَشْتهي أبدًا أن يبدع حتى في الأذى ما تكاد تراها عندنا إلا دُمية ملفَّقة من الحضارات وبدعها... ثيابها، زينتها، حليها، تطريتها -أي مكياجها- شعرها، تطريف بنانها -أي المانوكير- مشيتها، منطقها... كلُّ ذلك أجنبيٌّ عنها، متكلَّف، منتزع من مظاهر غانيات باريس، وعابثات هوليوود، ليس له من جنسها ولا أصلها شبهٌ تنزع إليه، وأسمجه أنَّه ملفَّق لا يتشاكل تشاكل المصدر الذي اجتلب منه بالتقليد.

وهذا الكتاب وهذا الشاعر وهما فنُّ الحياة الذي يعمل أبدًا في تجديد معانيها بالتأثير والبيان لا تجد فيما يكتب أكثرهم إلا المعاني الميتة، التي نقلت من مكانها بالاعتناف والقسر، فوُضعت في جوٍّ غير جوِّها، فاختنقت فمات ما كان حيًّا من بيانها في الأصل الذي انتُزعت منه.

وهكذا... هكذا كلُّ شيء تأخذه العين، أو يناله الفكر، إنما هو دعوى ملفَّقة، وتقليد مستجلب، وبلاء من البلاء. ولا نزال مقلدين حتى يستطيع الأحرار وهم قلة مشرَّدة ضائعة أن يبسطوا سلطانهم على الحياة الاجتماعية كلِّها، ويردوا إلى الأحياء بعض القلق الروحي العنيف، الذي يدفع الحيَّ إلى الاستقلال بنفسه، والاعتداد بشخصيته، والحرص على تجديد المواريث التي تلقَّاها من تاريخه، ويغامر في الحضارة الحديثة بروح المجدِّد، لا بضعف المقلِّد، فعندئذ ينتزع من الحضارة الأسباب التي تنشأ بقوتها الحضارات، ولا يكون موقفه منها موقف المسكين الذليل المطرود من المائدة... ينتظر وفي عينيه الجوع؛ ليتقحم من فتاتها.

المصدر: كتاب (جمهرة مقالات الأستاذ محمود محمد شاكر)، مكتبة الخانجي بالقاهرة، ط1، 2003م، (1/65) بتصرف

محمود محمد شاكر

اللأديب الناقد المحقق الشهير العلم إمام العربية وحامي حماها الشيخ أبو فهر محمود محمد شاكر ابن الشيخ محمد شاكر قاضي القضاة الشرعيين في مصر وأخو الشيخ العلامة محدث الديار المصرية أحمد محمد شاكر رحمهم ال