السفر
قال أبو إسحاق الشيرازي: "ولا يجوز القصر إلا في مسيرة يومين، وهو أربعة بُرد، كل بريد: أربعة فراسخ، فذلك ستة عشر فرسخاً، لما روي أن ابن عمر وابن عباس كانا يصليان ركعتين ويفطران في أربعة بُرد... قال مالك: بين مكة والطائف، وجدة وعسفان أربعة بُرد... قال الشافعي:... وأحبّ أن لا يقصر في أقلّ من ثلاثة أيام".
أولا: حقيقة السفر اللغوية:
أصل السفر في اللغة: الظهور والبروز، ومنه: أسفر الصباحُ إذا لمع.
وسمي السفر سفراً لأنه يبرِز أخلاقَ الرجال، ويظهر أحوالهم.
ومنه: سفرت المرأة عن وجهها إذا أبرزته وأظهرته، ومنه سميت المكنسة: مسفرة؛ لأنها تبرز وجه الأرض بكشف التراب عنه.
ويقال: رجل سافِر، وقوم سَفْر جمع سافِر، كراكب وركْب .
ثانيا: حقيقة السفر الشرعية:
اختلف أهل العلم في الحد الذي يصير به البارز عن بلده مسافراً يترخص برخص السفر على أقوال:
القول الأول: قول من قال بتحديده بمسيرة ثلاثة أيام بلياليها، وهو قول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
قال المرغيناني: "السفر الذي يتغير به الأحكام أن يقصد الإنسان مسيرة ثلاثة أيام ولياليهن سير الإبل ومشي الأقدام، لقوله عليه الصلاة والسلام: ((يمسح المقيم كمال يوم وليلة، والمسافر ثلاثة أيام ولياليهن))" .
القول الثاني: قول من حدده بأربعة بُرَد، وهو مروي عن ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهما، فقد أخرج الطبري عن ابن عمر أنه كان يقصر الصلاة في مسيرة ليلتين .
وأخرج الشافعي عن ابن عباس قال: (تقصر الصلاة إلى عسفان، وإلى الطائف، وإلى جدة، وهذه الحلَّة، من مكة على أربعة بُرد، ونحو ذلك). وإليه ذهبت المالكية والشافعية والحنابلة.
قال أبو إسحاق الشيرازي: "ولا يجوز القصر إلا في مسيرة يومين، وهو أربعة بُرد، كل بريد: أربعة فراسخ، فذلك ستة عشر فرسخاً، لما روي أن ابن عمر وابن عباس كانا يصليان ركعتين ويفطران في أربعة بُرد... قال مالك: بين مكة والطائف، وجدة وعسفان أربعة بُرد... قال الشافعي:... وأحبّ أن لا يقصر في أقلّ من ثلاثة أيام".
قال أبو إسحاق: "وإنّما استحب ذلك ليخرج من الخلاف؛ لأن أبا حنيفة لا يُبيح القصر إلا في ثلاثة أيام".
قال الأثرم: "قيل لأبي عبد الله: في كم تُقصر الصلاة؟ قال: في أربعة برد. قيل له: مسيرة يومٍ تامٍ؟ قال: لا، أربعة برد، ستة عشر فرسخاً، ومسيرة يومين".
القول الثالث: قول من لم يحدد ذلك بمسافة، وأرجع ذلك إلى العُرف، وما يعتبر فيه من التزود لذلك، والبروز للصحراء، وهو قول جمع من المحققين كابن قدامة وابن تيمية، مستندين على عمل عدد من الصحابة.
فقد أخرج ابن أبي شيبة عن النزّال أن علياً خرج إلى النميلة فصلى بهم الظهر ركعتين ثم رجع من يومه فقال: أردت أن أعلمكم سنة نبيّكم.
وكان الأوزاعيُّ يقول: كان أنس بن مالك يقصر الصلاة فيما بينه وبين خمسة فراسخ.
وعن جبير بن نفير قال: خرجت مع شرحبيل بن السّمط إلى قرية على رأس سبعة عشر ميلاً، أو ثمانية عشر ميلاً، فصلّى ركعتين، فقلت له، فقال: رأيت عمر بن الخطاب يصلي بالحليفة ركعتين، وقال: إنما أفعل كما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يفعل.
قال ابن قدامة: "التقدير بابه التوقيف، فلا يجوز المصير إليه برأي مجرد، سيما وليس له أصل يُرد إليه، ولا نظير يقاس عليه، والحجّة مع من أباح القصر لكل مسافر، إلا أن ينعقد الإجماع على خلافه".
قال ابن تيمية: "ولكن لا بد أن يكون ذلك مما يعد في العرف سفراً، مثل أن يتزوّد له، ويبرز للصحراء".
وقال: "ولا قدَّر النبي صلى الله عليه وسلم الأرض لا بأميال ولا فراسخ، والرجل قد يخرج من القرية إلى صحراء لحطب يأتي به فيغيب اليومين والثلاثة فيكون مسافراً، وإن كانت المسافة أقل من ميل، بخلاف من يذهب ويرجع من يومه، فإنه لا يكون في ذلك مسافراً؛ فإن الأول يأخذ الزاد والمزاد بخلاف الثاني. فالمسافة القريبة في المدة الطويلة تكون سفراً، والمسافة البعيدة في المدة القليلة لا تكون سفراً ".
وبيَّن ذلك بإيضاح في قوله: "وعلى هذا فالمسافر لم يكن مسافرا لقطعه مسافة محدودة، ولا لقطعه أياما محدودة، بل كان مسافرا لجنس العمل الذي هو سفر، وقد يكون مسافرا من مسافة قريبة، ولا يكون مسافرا من أبعد منها، مثل أن يركب فرسًا سابقا ويسير مسافةَ بريد ثم يرجع من ساعته إلى بلده، فهذا ليس مسافرا. وإن قطع هذه المسافة في يوم وليلة، ويحتاج في ذلك إلى حمل زاد ومزاد كان مسافرا، كما كان سفر أهل مكة إلى عرفة، ولو ركب رجل فرسا سابقا إلى عرفة ثم رجع من يومه إلى مكة لم يكن مسافرا " .
وهذا القول هو الذي رجّحه واختاره الشيخ ابن عثيمين رحمه الله .
ومما يدل على رُجحانه ما جاء عن يحيى بن زيد الهنائي، قال: سألت أنس بن مالك عن قصر الصلاة، فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال، أو ثلاثة فراسخ صلّى ركعتين .
ثالثا: متى يترخص المسافر برخص السفر؟
لا يترخص المسافر برخص السفر إلا إذا تحقق فيه الشروط التالية:
1- القصد:
وهو محل اتفاق بين الفقهاء، فلا قصر ولا فطر لهائم على وجهه لا يدري أين يتوجه، ولا لتائهٍ ضال عن الطريق، ولا لصياد يتبع الطريد.
2- مفارقة محل الإقامة:
يشترط مفارقة بيوت المصر، فلا يصير مسافراً ولا يحل له القصر قبل المفارقة.
قال سحنون: "وقال الإمام مالك في الرجل يريد سفراً أنه يُتم الصلاة حتى يبرز عن بيوت القرية أو قربها".
قال ابن المنذر: "أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم أن للذي يريد السفر أن يقصر الصلاة إذا خرج من بيوت القرية التي يخرج منها" .
مسألة: اختلف الفقهاء في فطر المسافر قبل الشروع في السفر:
فذهب جمهور أهل العلم إلى أن المسافر الذي عقد العزم على السفر وتأهب أهبته ليس له أن يفطر في نهار رمضان قبل أن يفارق البنيان.
وذهب أحمد في الرواية الصحيحة عنه إلى أن للمسافر الذي عقد العزم وتأهب للسفر أهبتَه أن يفطر قبل أن يفارق البنيان.
واستدل على ذلك بالحديث الذي أخرجه في مسنده عن عبيد بن حنين قال: ركبت مع أبي بصرة الغفاري صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفينة من الفسطاط في رمضان، فدفع، ثم قرّب غداءه، ثم قال: اقترب، فقلت: ألست ترى البيوت؟! فقال أبو بُصرة: أرغبت عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!
والحديث صحيح صححه الألباني وغيره .
وفي الباب حديث آخر أخرجه الترمذي عن محمد بن كعب قال: أتيت أنس بن مالك في رمضان وهو يريد سفراً، وقد رُحِّلت له راحلته، ولبس ثياب السفر، فدعا بطعام فأكل، فقلت له: سنة؟ قال: سنة .
لكن في سنده عبد الله بن جعفر والد علي بن المديني وهو ضعيف .
قال الترمذي: "وقد ذهب بعض أهل العلم إلى هذا الحديث، وقالوا: للمسافر أن يفطر في بيته قبل أن يخرج، وليس له أن يقصر الصلاة حتى يخرج من جدار المدينة أو القرية، وهو قول إسحاق بن إبراهيم الحنظلي".
قال ابن العربي: "ولم يقل به إلا أحمد. أما علماؤنا فمنعوا منه، لكن اختلفوا إذا أكل هل عليه كفارة، فقال مالك: لا، وقال أشهب: هو متأوّل، وقال غيرهما: يكفّر".
قال ابن العربي: "ونحبُّ أن لا يكفر لصحة الحديث، ولقول أحمد .
وقد خالفت الحنابلة مذهب إمامهم، قال ابن قدامة: "لقوله تعالى: فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ [البقرة:185]، قال: وهذا شاهد، ولا يوصف بكونه مسافراً حتى يخرج من البلد، ومهما كان في البلد فله أحكام الحاضرين، ولذلك لا يقصر الصلاة .
والذي يترجح ـ والعلم عند الله ـ هو قول الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه، لصحة الحديث، وقوة دلالته التي لا تحتمل التأويل، كما قال الشوكاني: "والحق أن قول الصحابي: (من السنة) ينصرف إلى سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد صرّح هذان الصحابيان بأن الإفطار للمسافر قبل مجاوزة البيوت من السنة .
لكن الأحوط للمسافر أن لا يترخص بالإفطار حتى يفارق بيوت بلدته، لأن صيامه والحالة هذه صحيح باتفاق، وإفطاره مختلف فيه، فمنعه قوم وأوجب فيه بعضهم الكفارة، ولأنه لا يندب في حقه الفطر ما دام لم يغادر البلد، ثم هو حتى لو غادر فليس المستحب في حقه الإفطار مطلقاً، بل الأفضل في حقه هو الأيسر له ما بين الإفطار أو الصيام على رأي المحققين والله أعلم.
3- أن يكون سفراً مباحاً:
اتفق الفقهاء على أن من ارتكب معصية في سفره المباح له أن يترخص برخص السفر؛ لأنه لم يقصد السفر للمعصية، ولأن سبب الترخص ـ وهو السفر ـ مباح قبل المعصية وبعدها.
ولكنهم اختلفوا فيمن أنشأ سفره للمعصية أو سافر سفراً مباحاً، ثم قصد سفراً محرماً، هل يترخص برخص السفر أم لا؟
القول الأول: أن عليه أن يتم، وليس له أن يقصر ما دام في سفره. وهو قول الشافعي وأحمد
قال الشافعي: "وذلك في مثل أن يخرج باغياً على مسلم أو معاهد، أو يقطع طريقاً، أو لما في هذا المعنى، قال: ولا يمسح على الخفين، ولا يجمع الصلاة، ولا يصلي نافلة إلى غير القبلة مسافراً في معصيته" .
قال ابن قدامة: "نصّ عليه أحمد" .
والدليل قوله تعالى: فمن اضطر غير باغٍ ولا عادٍ فلا إثم عليه.
قال ابن عباس: (غير باغٍ على المسلمين، مفارق لجماعتهم، يخيف السبيل، ولا عادٍ عليهم) .
وقال مجاهد: (غير قاطع سبيل، ولا مفارقٍ جماعة، ولا خارج في معصية الله، فله الرخصة) .
القول الثاني: ذهب الثوري والأوزاعي وحكي عن أبي حنيفة الترخص في السفر في حلالٍ كان، أو في حرام .
لعموم قول الله تعالى: ﴿وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِى ٱلأرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ ٱلصَّلوٰةِ﴾ [النساء:100].
وقوله تعالى: وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ [المائدة:6].
ولقول عائشة رضي الله عنها: (إن الصلاة أول ما فرضت ركعتان، فأقرت صلاة السفر، وأتمت صلاة الحضر) .
والذي يترجح ـ والله أعلم ـ مذهب الأحناف؛ لعموم إطلاقات النصوص، ولا مقيّد لهذه الإطلاقات، ولأن نفس السفر ليس بمعصية، وإنما المعصية ما يكون بعده أو يجاوره، فهو صالح لأن تتعلق به الرخصة.
أما الآية فالصحيح في تفسيرها أن المراد بالباغي والعادي ما قاله قتادة: "غير باغٍ في أكله، ولا عادٍ أن يتعدى حلالاً إلى حرام وهو يجد عنه مندوحة" .
والواجب على الباغي على الناس وقاطع الطريق وغيره التوبة، ويحرم عليه أن يقتل نفسه، فيزداد بذلك إثماً إلى آثامه، بل يترخص.
رابعا: حكم السفر:
يختلف حكم السفر باختلاف الغرض الذي أنشئ السفر من أجله، ولذلك تعتوره الأحكام الخمسة:
1- الوجوب، فيكون السفر واجباً على مَن وجب عليه أداء واجب لا يتحصل إلا به، كأداء حق لله، كفريضة الحج على المكلف القادر المستطيع.
2- الاستحباب، فيكون السفر مستحباً مثلاً لمن تيسر له أداء الحج الواجب، فأراد أن يؤدي نفله، أو من سافر إلى بلد فيه فقراء بقصد الإحسان إليهم بما يجلبه لهم.
3- الحرمة، فيكون السفر حراماً مثلاً لمن يقطع السبيل، ويفسد في الأرض، ويطلب الحرام.
4- الكراهة، فيكون السفر مكروهاً مثلاً لمن خرج من أرضٍ وقع فيها الطاعون إذا لم يكن فراراً من القدر.
5- الإباحة، فيكون السفر مباحاً للتنزه والاستجمام وغيره.
- التصنيف:
- المصدر: