السفر منح ومحن

منذ 2015-01-19

فإن هذه الحياة لا تخلو من المنغِّصات، ولا تصفو من المكدِّرات، ولكن هذه المنغِّصات والمكدِّرات قليلة جدًّا إذا ما قُورِنتْ بالفوائد والمنافع والمِنَح التي جعلها في هذه الحياة، والشواهد والأمثلة على ذلك كثيرة جدًّا؛ فمن ذلك: السفر؛ فإنه محفوفٌ بالمنغِّصات والمكدِّرات، ولكنها قليلة جدًّا إذا قورنت بما فيه من الفوائد والمنافع والمنح.

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه.
أما بعد: فإن هذه الحياة لا تخلو من المنغِّصات، ولا تصفو من المكدِّرات، ولكن هذه المنغِّصات والمكدِّرات قليلة جدًّا إذا ما قُورِنتْ بالفوائد والمنافع والمِنَح التي جعلها في هذه الحياة.

والشواهد والأمثلة على ذلك كثيرة جدًّا؛ فمن ذلك: السفر؛ فإنه محفوفٌ بالمنغِّصات والمكدِّرات، ولكنها قليلة جدًّا إذا قورنت بما فيه من الفوائد والمنافع والمنح.

وقبل أن نَلِجَ في الحديث عن منحِ السفر ومحنِه، نُشِير إلى أن المقصود بالسفر الذي يكون فيه هذه المنح والمحن، هو السفر لأمرٍ مباح؛ كالسفر لطلب الرزق الحلال، أو للنزهة، وما أشبه ذلك، أو لأمر حثَّت الشريعة عليه وندبت إليه؛ كالسفر للحج أو العمرة لمن حج واعتمر من قبل، أو لأمر أوجبتْه الشريعة وفرضتْه؛ كالسفر للحج أو العمرة لمن لم يحجَّ أو يعتمر من قبل، أو السفر لصلة الأرحام والأقارب.

وأما إذا كان السفر لمعصيةٍ - والعياذ بالله - كالسفرِ للسرقة، أو للعهر والفجور، أو ما أشبه ذلك؛ فهذا السفر محرَّم، وكله محنٌ لا منحةَ فيه على الإطلاق، وعليه فلا ينطبق عليه ما سنذكره من منح السفر ومحنه.

ونبتدئ الآن بذكر منح السفر، فمنها:

أولاً: التأمل والتفكر في مخلوقات الله العظيمة، وبديع صنعه:

فإذا سافر الإنسانُ رأى في أرض الله مخلوقاتٍ عجيبة، وأشياءَ فريدة، يرى الجبال الشامخة، والنباتات الزاهية، والأشجار اليانعة، والألوان المختلفة، والوِدْيان الواسعة، والبِحار العميقة، والطيور الصادحة، والأنهار السارحة، وما أشبه ذلك من الآيات الباهرة التي تدل على بديع صنع الله.

فإذا تأمَّل الإنسان في ذلك، قَوِي إيمانُه، وازداد يقينه، وذلك من فضائل السفر؛ كما يقول الثعالبي: "من فضائل السفر: أن صاحبه يرى من عجائب الأمصار، ومن بدائع الأقطار، ومحاسن الآثار - ما يزيده علمًا بقدرة الله تعالى".

ومن قصيدة لأحمد شوقي نقتطف:

تِلْكَ الطَّبِيعَةُ قُمْ بِنَا يَا سَارِي *** حَتَّى أُرِيكَ بَدِيعَ صُنْعِ البَارِي

فَالأَرْضُ حَوْلَكَ وَالسَّمَاءُ اهْتَزَّتَا *** لِرَوَائِعِ الْآيَاتِ وَالآثَارِ

ثانيًا: أخذ العظة والعبرة:

فإذا سافر الإنسان، تذكَّر أنه راحلٌ عن هذه الدنيا، وأيقنَ أنها دارُ ممرٍّ لا دارُ مقرٍّ، ودارُ فناء لا دارُ بقاء، وإذا كانتْ كذلك، فإنها تصغر في عينيه، وهذا ما أرشد إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - الصحابيَّ الجليل عبدالله بن عمر - رضي الله عنهما - فقال مخاطبًا إيَّاه: ((كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل)) [رواه البخاري].

 ثالثًا: اكتشاف أخلاق الناس:

ففيه تظهر معادنُ الناس، ويَظهرون على حقيقتهم، وقد قيل: السفر يُسفِر عن أخلاق صاحبه!

رابعًا: التعبد لله بأحكامه الشرعية التي لم تشرع إلا في السفر، ومنها:

1- الأخذ برخصه الشرعية التي رخَّصها للمسافر؛ فهو - سبحانه - يحب أن تؤتَى رخصه كما تؤتى عزائمه؛ ومن هذه الرخص:

أ- قصر الصلاة الرباعية إلى ركعتين.

ب- الجمع بين صلاة الظهر والعصر، وصلاة المغرب والعشاء.

ج- الفطر لمن كان صائمًا.

د- زيادة مدَّة المسح على الخفين، فقد رخص للمقيم يومًا وليلة، وللمسافر ثلاثة أيام بلياليهن.

هـ- سقوط فرضية الجمعة، وعليه أن يصلي الظهر.

و- التنفُّل على الراحلة، وعدم استقبال القبلة.

فهذه بعض الرخص التي رخِّصتْ للمسافر، وهناك رخص أخرى للمسافر لا يتسع المجال لذكرها، وإذا عَلِم الإنسان بهذه الرخص، وأخذ بها، كان ذلك مَدْعَاة له إلى الطمأنينة بهذا الدين القويم، دين اليسر والسهولة.

2- ذكر الله بأذكار السفر التي لم تشرعْ إلا في السفر، وذكر الله مشروعٌ في جميع الأحوال والأوقات، ولكنه في حال السفر آكدُ.

وقد شرع للمسافر أن يذكر الله في المواضع التالية:

الموضع الأول: عند ركوبه الدابَّة، أو ما يقوم مقامَها من وسائل النقل الحديثة؛ كالسيارة، أو الطائرة، أو الباخرة، وما أشبه ذلك، فيقول: ((الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر ( سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ * وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ ) [الزخرف: 13، 14]، اللهم إنا نسألُك في سفرنا هذا البرَّ والتقوى، ومن العمل ما ترضى، اللهم هوِّن علينا سفرَنا هذا واطوِ عنا بُعْده، اللهم أنتَ الصاحب في السفر، والخليفة في الأهل، اللهم إني أعوذ بك من وعثاءِ السفر، وكآبةِ المنظر، وسوء المنقَلب في المال والأهل))، وإذا رجع قالَهن وزاد فيهن: ((آيبون، تائبون، عابدون، لربنا حامدون))؛ [رواه مسلم].

الموضع الثاني: التكبير والتسبيح أثناء السير:

قال جابر - رضي الله عنه -: "كنَّا إذا صَعِدنا كبَّرنا، وإذا نزلنا سبَّحنا"؛ [رواه البخاري].

الموضع الثالث: إذا أسحر، فيقول: ((سَمِع سامع بحمد الله، وحُسن بلائه علينا، ربَّنا صاحِبْنا، وأفضلْ علينا، عائذًا بالله من النار))؛ [رواه مسلم].

الموضع الرابع: إذا نزل منزلاً، فيقول: ((أعوذ بكلمات الله التامَّات من شر ما خلق))؛ [رواه مسلم].

الموضع الخامس: عند الرجوع من السفر، يكبِّر الله على كلِّ شرَفٍ ثلاث تكبيرات، ثم يقول: ((لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، آيبون، تائبون، عابدون، لربنا حامدون، صدق الله وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده))؛ فقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول ذلك إذا رجع من غزو أو حج؛ كما في البخاري ومسلم.

3- دعاء المسافر للمقيم، ودعاء المقيم للمسافر: فهذه الأدعية خاصة بذلك؛ فمن أدعية المسافر للمقيم: ((أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه))[1].

ومن أدعية المقيم للمسافر:

((أستودعُ الله دينَك، وأمانتك، وخواتيم عملك))[2]، و((زوَّدك الله التقوى، وغفر ذنبك، ويسَّر لك الخير حيث ما كنت))[3].

 4- السفر لأداء فريضتي الحج والعمرة، فلا يمكن للإنسان القيام بهاتين الفريضتين العظيمتين إلا بالسفر.

5- السفر للدعوة إلى الله، وحث الناس على الفضائل، وتحذيرهم من الرذائل، وما إلى ذلك.

6- السفر لصلة الأرحام والأقارب، وخاصة الوالدين.

خامسًا: أنه مظنة استجابة الدعاء:

لِمَا جاء في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ثلاث دعوات مستجابات لا شك فيهن: دعوة الوالد، ودعوة المسافر، ودعوة المظلوم))[4].

فالسفر مظنة لاستجابة الدعاء، وخاصة إذا كان السفر طويلاً، كما جاء في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - الذي فيه: ((ثم ذكر الرجل يُطِيل السفر، أشعثَ أغبر، يمدُّ يديه إلى السماء: يا رب يا رب، ومطعمُه حرام، ومَشرَبُه حرام، ومَلبَسه حرام، وغُذِي بالحرام، فأنَّى يستجاب لذلك؟))؛ [رواه مسلم].

قال ابن رجب: "ومتى طال السفر كان أقرب إلى إجابة الدعاء؛ لأنه مظنة حصولِ انكسارِ النفس بطول الغربة عن الأوطان، وتحملُ المشاقِّ والانكسارُ من أعظم أسباب إجابة الدعاء"[5].

فالسفر مظنة استجابة الدعاء، ما لم يكن هناك مانع من موانع استجابته، كما أشار إلى ذلك الحديث السابق.

سادسًا: أن الله -- تبارك وتعالى -- يكتبُ للعبد أجرَ ما كان يعمل من أعمال صالحة في حال إقامته كاملاً:

لِمَا جاء في حديث أبي بُرْدَة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا مَرِض العبد أو سافر، كُتِب له مثل ما كان يعمل مقيمًا صحيحًا))؛ [رواه البخاري]، وذلك فيما يقوم به الإنسان من نوافل العبادات.

فعلى سبيل المثال:

مَن كان يقوم الليل بإحدى عشرة ركعة في حال إقامته، وكان ذلك عادة له، ثم قدَّر الله عليه أن يَمرَض أو يسافر، فإن الله يتفضَّل عليه بكتابةِ أجرِ قيام الليل بإحدى عشرة ركعة كاملة وإن لم يصلِّها، وهكذا مَن اعتاد في حال إقامته على صيام الاثنين والخميس من كل أسبوع، أو الثلاثة الأيام البيض من كل شهر، ثم مَرِض أو سافر، كتب الله له أجر صيام تلك الأيام كاملة، وإن لم يصمْها! وعلى هذا فَقِسْ.

سابعًا: تجديد النشاط، ورفع الكآبة والملل:

وهذا شيءٌ معروف للجميع، فإنك إذا ما سألتَ مسافرًا عن سبب سفره؛ فإنه سيُجِيبك بكل بديهة: نعيد الحيوية إلى حياتنا، ونجدِّد النشاط، ونزيل الكآبة والملل الذي أصابنا، ونخفِّف الهموم التي جثمتْ على رقابنا، وذلك أن من المعلوم لدى الجميع أن مَن أقام في مكان واحد مدَّة طويلة أصيب بالكآبة والسآمة والرتابة، فإذا ما سافر أزال ذلك عن نفسه، أو خففه.

وهذا ما نصح به الأطبَّاء النفسيون، فقد نَصَحوا مَن أصيب بذلك أن يسافر، وقد قيل:

لَا يُصْلِحُ النَّفْسَ إِذْ كَانَتْ مُدَبِّرَةً *** إِلاَّ التَّنَقُّلُ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالِ

وقد عبَّر عن هذه المعاني الرائعة الإمام الشافعي - رحمه الله - فقال:

سَافِرْ تَجِدْ عِوَضًا عَمَّنْ تُصَاحِبُهُ *** وَانْصَبْ فَإِنَّ لَذِيذَ العَيْشِ فِي النَّصَبِ

إِنِّي رَأَيْتُ وُقُوفَ المَاءِ يُفْسِدُهُ **** إِنْ سَالَ طَابَ وَإِنْ لَمْ يَجْرِ لَمْ يَطِبِ

ثامنًا: اكتساب المعيشة:

فمَن ضاق عليه رزقه في بلده، فلا حرجَ عليه في السفر إلى بلدٍ أخرى؛ سعيًا للرزق وطلبًا له، فقد أرشد الله عباده إلى ذلك، فقال ممتنًّا عليهم: ( هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ ) [الملك: 15].

قال ابن كثير - رحمه الله -: "أي: فسافروا حيث شئتُم من أقطارها، وتردَّدوا في أقاليمها وأرجائها، في أنواع المكاسب والتجارات"[6].

وقد شاهدنا أناسًا كثرًا كانتْ أرزاقهم مضيَّقة عليهم في بلدانهم، فلما سافروا لطلب الرزق الحلال، فتح الله عليهم من خزائنه الملأى، وأغدق عليهم من فضله الجزيل.

وقد يواجه المسافرُ لطلب الرزق في غير بلده بعضَ المضايقات، ويلاقي بعض الصعوبات المنغِّصات، فعليه أن يصبر ويتحمَّل؛ فإن الدنيا جبلت على ذلك.

تاسعًا: طلب العلم وتحصيله وجمعه:

فقد سافر وارتحل لهذا الغرضِ أنبياءُ الله - عز وجل - فهذا كليمُ الله موسى - عليه السلام - سافر لهذا الغرض؛ كما قصَّ الله ذلك في سورة الكهف.

وكذلك سافر الصحابة الكرام، وقطعوا لهذا الغرض الفيافِي والقِفَار؛ حتى إن الواحدَ منهم كان يقطع المسافات الطويلة ليسمع حديثًا واحدًا من أحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهذا جابر بن عبدالله - رضي الله عنه - رحل مسيرةَ شهرٍ إلى عبدالله بن أُنَيس في حديثٍ واحد؛ كما روى البخاري في "الأدب المفرد" أن جابر بن عبدالله قال: "بلغنِي حديثٌ عن رجلٍ من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فابتعتُ بعيرًا، فشددتُ إليه رَحْلي شهرًا، حتى قدمتُ الشام، فإذا عبدالله بن أُنَيس، فبعثتُ إليه أن جابرًا بالباب، فرجع الرسول، فقال: جابر بن عبدالله؟! فقلت: نعم، فخرج فاعتنقنِي، قلتُ: حديثٌ بلغنِي لم أسمعْه خشيتُ أن أموت أو تموت... فذكر الحديث..

وهذا عُقْبة بن الحارث سافر من مكة إلى المدينة ليلقى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسألُه عن مسألة رضاعٍ وقعتْ له؛ فعن عقبة بن الحارث أنه تزوَّج ابنةً لأبي إهاب بن عزيز، فأتتْه امرأةٌ فقالت: إني قد أرضعتُ عقبة والتي تزوَّج، فقال لها عقبةُ: ما أعلمُ أنك أرضعتِني، ولا أخبرتِني، فرَكِب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة فسأله، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((كيف وقد قيل؟!))، ففارقها عقبة، ونكحتْ زوجًا غيره.

وهكذا سافر التابعون وتابعوهم، ورحلوا لطلب العلم وتحصيله، قال الإمام الشعبي: "لو سافر رجلٌ من الشام إلى أقصى اليمن في كلمةٍ تدلُّه على هدًى، أو تردُّه عن رَدى (هلاك)، ما كان سفرُه ضائعًا".

ولما سُئِل الشعبي عن هذا العلم الغزير الذي وهبه الله: من أين لك هذا العلم؟ قال: "بنفي الاعتماد، والسير في البلاد (يعني السفر في طلب العلم)، وصبر كصبر الجماد، وبكورٍ كبكور الغراب"[7].

ولم يزلِ العلماء يسافرون لطلب العلم وتحصيله، ولن يزالوا كذلك ما بقيت الحياة.

عاشرًا: تحصيل الآداب:

وهذا أيضًا شيء مشاهد ومجرَّب، فكم من إنسانٍ سافر من بلده إلى بلدٍ أخرى، فحصَّل آدابًا مفيدة، واكتسب أخلاقًا حسنة؛ بسماعه للأدباء، ومجالسته للفضلاء.

وهذه المنحة ليس كلُّ مَن سافر حازها، وإنما يحوزُها مَن وفَّقه الله، وأراد به خيرًا، وإلا فإن البعض ربما يُسَافِر فتسوء أخلاقه، ويقل أدبه؛ وذلك بمجالسته لأهل السوء.

الحادي عشر: صحبة الأمجاد:

فكم من إنسانٍ سافر، فخالط أماجدَ الناس، وأهل الكرم والجود؛ فتحلَّى بأخلاقهم الحسنة، وصفاتهم النبيلة.

وقد نظم هذه المِنَحَ الأخيرة الإمامُ الشافعي - رحمه الله - فقال:

تَغَرَّبْ عَنِ الأَوْطَانِ فِي طَلَبِ العُلَا *** وَسَافِرْ فَفِي الأَسْفَارِ خَمْسُ فَوَائِدِ

تَفَرُّجُ هَمٍّ، وَاكْتِسَابُ مَعِيشَةٍ *** وَعِلْمٌ، وَآدَابٌ، وَصُحْبَةُ مَاجِدِ

الثاني عشر: زيارة الأحباب من أقارب وأرحام وأصحاب:

وذلك من أفضل الطاعات، وأجلِّ القربات؛ لِمَا جاء عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أن رجلاً زار أخًا له في قريةٍ أخرى، فأرصد الله له على مَدْرَجتِه ملكًا، فلما أتى عليه قال: أين تريد؟ قال: أريد أخًا لي في هذه القرية، قال: هل لك عليه من نعمة تَرُبُّها؟ قال: لا، غيرَ أني أحببتُه في الله - عز وجل - قال: فإني رسول الله إليك بأن الله قد أحبَّك كما أحببتَه فيه))؛ [رواه مسلم].

الثالث عشر: نَيْل المنزلة الرفيعة، والمكانة العالية، وخاصة إذا كان المسافرُ صاحبَ دين وعلم، وكان مقيمًا بين قوم لئام:

لا يعرفون له حقًّا، ولا يقيمون له وزناً؛ فإذا ما سافر إلى بلد أخرى ونزل على أهلها الكرماء، فإنهم سينزلونه المنزلة الرفيعة التي أنزله الله إياها: ( يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ )[المجادلة: 11].

وفي هذا المعنى يقول أحد الشعراء الحكماء:

ارْحَلْ بِنَفْسِكَ مِنْ أَرْضٍ تُضَامُ بِهَا *** وَلَا تَكُنْ مِنْ فِرَاقِ الْأَهْلِ فِي حَرَقِ

مَنْ ذَلَّ بَيْنَ أَهَالِيهِ بِبَلْدَتِهِ *** فَالِاغْتِرَابُ لَهُ مِنْ أَحْسَنِ الْخُلُقِ

فَالعَنْبَرُ الخَامُ رَوْثٌ فِي مَوَاطِنِهِ *** وَفِي التَّغَرُّبِ مَحْمُولٌ عَلَى العُنُقِ

وَالكُحْلُ نَوْعٌ مِنَ الأَحْجَارِ تَنْظُرُهُ *** فِي أَرْضِهِ وَهْوَ مَرْمِيٌّ عَلَى الطُّرُقِ

لَمَّا تَغَرَّبَ حَازَ الفَضْلَ أَجْمَعَهُ *** فَصَارَ يُحْمَلُ بَيْنَ الجَفْنِ وَالحَدَقِ

وقال آخر:

إِذَا مَا ضَاقَ صَدْرُكَ مِنْ بِلَادٍ *** تَرَحَّلْ طَالِبًا أَرْضًا سِوَاهَا

عَجِبْتُ لِمَنْ يُقِيمُ بِدَارِ ذُلٍّ *** وَأَرْضُ اللهِ وَاسِعَةٌ فَضَاهَا

وقال ثالث:

وَإِذَا البِلَادُ تَغَيَّرَتْ عَنْ حَالِهَا *** فَدَعِ المُقَامَ وَبَادِرِ التَّحْوِيلَا

لَيْسَ المُقَامُ عَلَيْكَ فَرْضًا وَاجِبًا *** فِي بَلْدَةٍ تَدَعُو العَزِيزَ ذَلِيلَا[8]

وغير ذلك من المنح التي يمنحها الله لعباده في سفرهم.

ثانيًا: محن السفر:

أما محنُ السفر، فهي قليلة إذا ما قورنت بمنحِه، ومن هذه المحن:

أولاً: مفارقة الأهل والأصحاب والأوطان:

ومفارقة الإنسان لهذه الأشياء صعبةٌ على النفس؛ لأن الإنسان قد أَلِف العيشَ معها، ففراقُها صعبٌ جدًّا، فكم من دمعةٍ تُسكَب عند وداعِها، وكم من حسرةٍ تُصِيب الإنسانَ عند فراقها؛ ولذلك لَمَّا خرج - عليه الصلاة والسلام - من مكة تحسَّر على ذلك، فقال: ((ما أطيبَك من بلد وأحبك إليَّ! ولولا أن قومي أخرجوني منكِ، ما سكنتُ غيرَك))[9].

 ثانيًا: ما يلاقيه المسافر من المتاعب والمصاعب والمشاقِّ:

وهذا ما عبَّر عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((السفرُ قطعةٌ من العذاب، يمنع أحدَكم نومَه وطعامَه وشرابَه))؛ [رواه البخاري ومسلم].

قال النووي: "معناه: يمنعه كمالَها ولذيذَها؛ لِمَا فيه من المشقَّة والتعب، ومقاساة الحر والبرد، والسُّرَى والخوف، ومفارقة الأهل والأصحاب، وخشونة العيش"[10].

وقال ابن حجر - رحمه الله -: "((السفرُ قطعةٌ من العذابِ))؛ أي: جزء منه، والمراد بالعذاب الألَم الناشئ عن المشقَّة؛ لِمَا يحصل في الركوب والمشي من ترك المألوف... "[11].

وهذه المتاعب والمصاعب والمشاقُّ هي ما عبَّر عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - بوعثاء والسفر، وكآبة المنظر؛ كما جاء في حديث ابن عمر - رضي الله عنهما -: ((اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر، وكآبة المنظر، وسوء المنقلب في المال والأهل))؛ [رواه مسلم].

ففي هذا الحديث استعاذ النبي - صلى الله عليه وسلم - من: (وعثاء السفر) وهو المشقة والشدَّة، وأصله من الوَعْث، وهو أرض فيها رمل تَسُوخ فيها الأرجل، (وكآبة المنقلب) أن ينقلبَ من سفره إلى أهله كئيبًا حزينًا، غير مقضي الحاجة، أو منكوبًا ذهب ماله، أو أصابته آفة في سفره، أو أن يرد على أهله فيجدهم مرضى، أو يفقد بعضهم، وما أشبه ذلك من المكروه[12].

وقد نظم بعضُهم هذه المحن وغيرها، فقال:

إِذَا قِيلَ فِي الأَسْفَارِ خَمْسُ فَوَائِدٍ *** أَقُولُ وَخَمْسٌ لَا تُقَاسُ بِهَا بَلْوَى

فَتَضْيِيعُ أَمْوَالٍ وَحَمْلُ مَشَقَّةٍ *** وَهَمٌّ وَأَنْكَادٌ وَفُرْقَةُ مَنْ أَهْوَى[13]

وهذه المحن تمحى وتنسى إذا ما قوبلتْ بما يحصل للمسافر من المنح العديدة التي ذكرناها آنفًا.

والله الموفِّق، والهادي إلى سواء السبيل.

 

[1]رواه ابن ماجه، وأحمد، وهو في صحيح ابن ماجه.

[2]رواه الترمذي، وأحمد، وصححه الألباني.

[3]رواه الترمذي، وهو في صحيح الترمذي للألباني.

[4]رواه أبو داود، وحسنه الألباني.

[5]جامع العلوم والحكم (1/269).

[6]تفسير القرآن العظيم (8/ 199).

[7]سير أعلام النبلاء (4/300).

[8]جواهر الأدب (2/70).

[9]رواه الترمذي، وصححه الألباني.

[10]شرح النووي على صحيح مسلم (13/70).

[11]فتح الباري (3/ 623).

[12]انظر: معالم السنن (2/258).

[13]الضوء اللامع (4/295)، والموسوعة الشعرية (330).


عبده قايد الذريبي