وقفات مع السفر والمسافرين
أيها المسافرون، نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، نستودع الله دينكم وأمانتكم وخواتيم أعمالكم، ونسأل الله أن يحفظنا وإياكم في الحلِّ والترحال، وأن يعيدكم إلى أهلكم سالمين غانمين مأجورين غير مأزورين، إنه خير المسؤولين، وأكرم المأمولين.
الخطبة الأولى:
أما بعد: فأوصيكم -عباد الله- ونفسي بتقوى الله -عز وجل- في كل ما نأتي ونذر، والاستجابة له سبحانه في كل ما نهى وأمر، ولزوم تقواه في الحضر والسفر، لتكن التقوى شعارنا ودثارنا: اتق الله حيثما كنت.
أيها المسلمون، قضيةٌ مهمةٌ وخطيرةٌ وظاهرة اجتماعية مؤرِّقة وكبيرة جديرةٌ برسم الخطط والمناهج، وإعداد العدد والبرامج، لتأصيلها والعناية بها وبذل مزيد من الجهد حيالها والاهتمام بها.
تلكم هي ما يحصل في مثل هذه الأيام من كلّ عام، حيث تشتد حرارة الصيف ويُلقي بسمومه اللافح على بعض أقطار المعمورة، مما يحمل كثيراً من الناس على الهروب إلى المصائف والمتنزَّهات، والفرار إلى الشواطئ والمنتجعات، والعزم على السفر والسياحة، وشدّ الأحزمة للتنقل والرحلات.
تذهبُ إلى المطارات فتجدُ أرسالاً من البشر وفئاماً من الناس يسابقون الريح وينافسون الآلات سرعةً واشتغالاً، قد حملوا حقائبهم ونقلوا أغراضهم وأعدوا عدتهم لأسفار كثيرة ورحلات طويلة. اشرأبت أعناقهم وتطلعت أنفسهم إلى سياحة أثيرة وتنقلات مثيرة مع تباين في حقيقة أسفارهم واختلافٍ في آرائهم وأفكارهم. ويتملّكك العجب وأنت تقرأ عن السفر والمسافرين الإحصاءات المذهلة والأرقام الهائلة، ولا ينتهي عجبك وأنت ترى تلك الوفود وقد أقفلت الحجوزات وتزاحمت على البوابات وتسارعت لامتطاء المركّبات، وكل ما يستهويهم هو تحقيق الرغبات. بل لعل بعضهم ينسى في سبيل ذلك عقيدته وقيمهُ وأخلاقه، فيجعلها في عداد المخلَّفين والمخلَّفات، ولا يمنحها تأشيرة سفرٍ معه، فينزع رداء التقوى وجلباب الحياء قبل أن يطاول الفضاء.
وفي خضمِّ هذه المشاهد والمناظر ودوَّامَة تلك الأحوال والمظاهر، وحيث إن الإجازة الصيفية هي الوقت الذي يحلو فيه السفر وتعذب فيه الرحلات ويُحرَّك فيه عصا الحِلّ والترحال والسفر والانتقال تعالوا -يا رعاكم الله- لنضع هذه القضية على الميزان الشرعي، ونعرضها على كتاب الله وسنة رسوله، مع إلماحةٍ إلى واقع بعض الناس فيها، وبيان الآثار السلبية عند غياب الضوابط الشرعية في هذه القضية الواقعية، ولنذكر أنفسنا وإخواننا المسلمين ببعض الوصايا النافعة والملامح الماتعة التي ينبغي أن يتذكرها المسافرون في أسفارهم والمرتحلون في تنقلاتهم.
إخوة العقيدة، إن الإسلام لا يحجر على أتباعه أن يروّحوا عن أنفسهم، أو يدخلوا السرور على أهليهم وأبنائهم، وأن يعملوا بالوسائل المباحة في ذلك شرعاً. فالترفيه البريء والترويح المباح لا غضاضة على الإنسان فيه، بل قد يكون مطلوباً أحياناً لأغراض شرعية، وأهداف مرعية، لكن يجب أن يكون كل ترفيه وترويح في حدود ما هو مباح شرعاً، أما أن يُستغلّ ذلك فيما يُضعف الإيمان ويهزّ العقيدة ويخدش الفضيلة ويوقع في الرذيلة ويقضي على الأخلاق والقيم والمثل فلا وكلا.
أيها الإخوة المسلمون، إن السفر في الإسلام لا بأس فيه، بل قد يكون مطلوباً لأغراض شرعية، يقول الثعالبي -رحمه الله-: "من فضائل السفر أن صاحبه يرى من عجائب الأمصار وبدائع الأقطار ومحاسن الآثار ما يزيده علماً بقدرة الله - تعالى -، ويدعوه شكراً على نعمه"[1]، وقد قيل:
لا يصلح النفوسَ إذا كانت مدبرة *** إلا التنقلُ من حال إلى حال
إني رأيت وقوف الماء يفسده *** إن سال طاب وإن لم يجرِ لم يطلب
والأُسْد لولا فراق الغاب ما افترست *** والسهم لولا فراق القوس لم يصب
والشمس لو وقفت في الفلك دائمة *** لملَّها الناس من عُجْم ومن عرب
لكن السفر في الإسلام له حدود مرعية وضوابط شرعية، منها أن يكون السفر في حدود بلاد الإسلام المحافظة، أما أن يكون إلى بقاع موبوءة ومستنقعات محمومة وأماكن مشبوهة فلا، ما لم يكن ثمَّ ضرورة، مع المحافظة على شعائر الإسلام لا سيما الصلاة، وهل يُلقى بالحمل الوديع في غابات الوحوش الكاسرة والسباع الضارية؟!
وقد ذكر أهل العلم شروطاً ثلاثة لجواز السفر إلى بلاد غير المسلمين، أولها: أن يكون عند الإنسان دين يدفع به الشهوات، ثانيها: أن يكون عنده علم يدفع به الشبهات، ثالثها: الضرورة الشرعية كعلاج ونحوه.
فيا أيها المسافرون، هلاّ سألتم أنفسكم: إلى أين تسافرون؟ ولماذا تسافرون؟ أفي طاعة الله أسفاركم أم إلى معصيته ارتحالكم؟؟ فإذا كان سفركم طاعةً لله في منأًى عما يسخط الله فالحمد لله، وامضوا على بركة الله تكلؤكم عناية الله، وإن كان سفركم في معصية الله وفي غير طاعته ورضاه فاتقوا الله واستحيوا من الله، فإنه يراكم ومطلعٌ عليكم (إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) [النساء: 1].
يا أيها المسافرون، اجعلوا سفركم ابتغاء مرضاة الله، وإن كنتم تنوون في أسفاركم المعاصي فأنتم مدعوون إلى الرجوع عنها وتغيير هذه النية السيئة، مدعوُّون إلى التوبة والإنابة (يا أَيُّهَا اَّلذِينَ ءامَنُواْ تُوبُواْ إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً) [التحريم: 8].
أخي المسافر المبارك، إن المسلم الواعي هو من أعمل فكره وأخذ من أحداث الناس عبرة، فكم من أناس سافروا طلبا لاقتراف الحرام وبَحْثاً عن المعاصي وقبيح الآثام فكان جزاؤهم الخيبة والخسران؛ أصابتهم الأمراض المستعصية، وانتقلت إليهم الجراثيم المعدية، بما كسبت أيديهم وبما اقترفوا من معصية باريهم.
أتفرح بالذنوب وبالمعاصي *** وتنسى يوم يؤخذ بالنواصي
إخوتي المسافرين، تحلَّوا بآداب السفر، قدموا الاستخارة والاستشارة، لا تنسوا دعاء السفر، وحسن اختيار الرفيق، وتفقّد المركبة، والأخذ بوسائل السلامة والأمان، وعدم تجاوز السرعة النظامية، فإن في الحوادث لا سيما حوادث السيارات لعبراً. عليكم بأداء حق الطريق والمحافظة على البيئة، واجعلوا سفركم دراسة في سِفر الحياة وقراءة وتدبراً في دفتر الكون.
وكتابيَ الفضاءُ أقرأ منه *** صوراً ما قرأتها في كتابي
وتفكراً في ملكوت الله *** وعظيم خلقه وبديع صنعه.
تلـك الطبيعة قِف بنا يا سارِ *** حتى أريك بديع صُنع الباري
فالأرض حولك والسماء اهتزتا *** لروائع الآيات والآثار
أيها المسافرون، ولما كان السفر قطعة من العذاب كما أخبر به المصطفى الأواب فيما أخرجه الشيخان في صحيحيهما[2]، جعل الله له رُخصاً تيسِّره مِنةً منه ورحمة. فاحرصوا على الأخذ برخص السفر، فإن الله يحب أن تؤتى رُخصُه كما يكره أن تؤتى معصيته.
واقتفوا هدي نبيكم في السفر، وكان من هديه قصرُ الصلاة الرباعية ركعتين، وإذا اشتد به السفر جمع بين الظهرين والعشاءين، وكان يقتصر على صلاة الفريضة، ولم يكن يصلي الراتبة إلا الوتر وسنة الفجر، فإنه لم يكن يدعهما حضراً وسفراً، ورخّص للمسافر أن يمسح على الخفين ثلاثة أيام بلياليها، ونهى أن تسافر المرأة إلا مع ذي محرم. خرجه الشيخان في صحيحيهما[3].
أخي المسافر الكريم، تجنّب المحاذير الشرعية من منكرات الحضر والسفر التي نهانا عنها الله - جل وعلا - في كتابه وحذرنا منها رسوله. تجنب الشرك بالله، فلا تخف إلا الله، ولا ترجُ إلا الله. لا تسافر إلى الأضرحة والقبور، ولا تدع أحدًا من دون الله. إياك والرياء، اجتنب المرابين والربا. ولا تقربوا الزنا فإنه من أقبح الأمور وأعظم الآثار والشرور. حذار من الخمور والمسكرات وتعاطي المخدرات، فإنها خرابٌ للدين، دمارٌ للعقل، كيف يسعى في جنون من عقل؟! بغيضةٌ إلى الرحمن، رجس من عمل الشيطان. لا تتعامل بالحرام، ولا تتاجر فيما يسخط الملك العلام، ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أخبر، يمدّ يديه إلى السماء: يا رب يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغُذِّي بالحرام، فأنى يستجاب له؟! خرجه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه[4].
لا تسافر مع الذين أُترِعت قلوبهم بحب الشهوات، ولا ترافق الذين خلت أفئدتهم من مراقبة رب الأرض والسموات (وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً) [النساء: 27].
أيها المسلمون، من الناس من يطلق لنفسه وأسرته العِنان في السفر إلى بلاد موبوءة، ليفتن نفسه بالشهوات المحرمة والأفعال الآثمة، والمظاهر المخزية والأعمال المردية، في مواخير الفجور والزنا وحانات الغي والخنا، في دهاليز الميسر والقمار، وفي مستنقعات العار والشنار، بعيداً عن أنظار الخيرين وأهل الفضل المصلحين. فاحذروا مواقع الزلل وأماكن الخطأ والخطل، بل لقد وصل الحال ببعضهم وببعضهن أن تنزع جلباب حيائها قبل أن تغادر أرض بلادها، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
فيا من أخفيت نواياك في سفرك عن البشر، يا من قصدت مكاناً لا تقع فيه تحت عين ونظر، ألا تخشى سطوةً رب البشر وأنت تبارزه بالقبائح وتعامله بالفضائح؟!
ولا تحسبن الله يغفل ساعةً *** ولا أن ما تُخفي عليه يغيب
أمة الإسلام، إن سفر المسلم لديار غير المسلمين لغير غرض شرعي ترجحت مصلحته وظهرت فائدته لهو ضرر محض على الدين والنفس والعرض والمثل والأخلاق والقيم، فإنه مع ما يُظن من معاقرةٍ لأنواع من الفواحش والمنكرات وتضييع للفرائض والواجبات مخاطرةٌ بالنفس غير مأمونة بتعريضها لمواطن الرِيَب والشبهات وأماكن الهلكات وبُؤَر الدركات، هذا فضلاً عما يحيط بالمرء من أخطار لصوص القلوب وسارقي الجيوب والغفلة عن راقبة علام الغيوب.
ألا فليتذكر هؤلاء وأولئك الموت والفناء، وليشعروا بمآسي إخواننا المسلمين البرآء، في فلسطين وكشمير والشيشان وكُسُفا، فأين الأحاسيس المرهفة والمشاعر الفياضة؟! فأناس يحملون قضايا أمتهم ويفكرون بمآسي إخوانهم في العقيدة، وآخرون كثيرون يفكِّرون في قضاء إجازاتهم في منتجعاتٍ ما، فالله المستعان.
وإن مما يتذرّع به بعض الناس للسفر والرحلات دعواهم الاصطياف والسياحة، وما أدراكم ما السياحة، لفظةٌ براقة وعبارة أخَّاذة، لها دلالاتها الشرعية، فكم كان أسلافنا يجوبون الأرض شرقاً وغرباً، جهاداً في سبيل الله ودعوة إلى دين الله بأقوالهم وأفعالهم وسلوكم وأخلاقهم وحسن تعاملهم. نعم لاستثمار السياحة في هذا المقصد الشرعي. إننا جميعاً مع السياحة بمفهومها النقي المنضبط بضوابط الشريعة والآداب المرضية.
غير أن مما يبعث على الأسى أن في الأمة منهزمين كُثُرا، عبُّوا من ثقافة الغير عباً حتى ثملوا، وزعموا وبئس ما زعموا أن السفر والسياحة لا يمكن أن تتحقق إلا بأيام سوداء وليالٍ حمراء ومجانبة للحياء. إن الولوغ في هذه المياه العكرة والانسياق وراء أمراض الأمم المعاصرة وأدواء المجتمعات المنحرفة وإفرازاتها المنتنة لا يمكن أن يقبله ذوو النفوس المؤمنة والمجتمعات المحافظة.
نعم لسياحة التأثير لا التأثُّر، والاعتزاز لا الابتزاز، والفضيلة لا الرذيلة، والثبات لا الانفتاح والانفلات. كيف وقد ثبت بما لا يدع مجالاً للشك أن أعداء الإسلام يستهدفون أبناء المسلمين السائحين للوقيعة بهم والنيل من أخلاقهم وعقيدتهم عن طريق الغزو الفكري والفساد الأخلاقي، ويستغلون كثيراً من السائحين اقتصادياً وخلقياً، ويجرونهم رويداً رويداً إلى حيث الخنا والفجور والمخدرات والخمور، بل قد يرجع بعضهم متنكراً لدينه ومجتمعه وأمنه وبلاده. أين العقول المفكرة عن الإحصاءات المذهلة من مرضى الإيدز ومن عصابات وشبكات الترويج للمسكرات والمخدرات؟!
إننا نناشد المسافرين والسائحين أن اتقوا الله في أنفسكم وفي أسركم وفي مجتمعاتكم وأمتكم، ونذكِّرهم قبل أن يرفعوا أقدامهم: فكِّروا قبل أن ترفعوا أقدامكم، فكروا أين تضعوها.
نعم، سافروا للخير والفضيلة والدعوة والإصلاح، فلا غضاضة عليكم، وكونوا ممثلين لبلادكم الإسلامية، مظهرين لدينكم، داعين إلى مبادئه السمحة حيث يتخبط العالم بحثاً عن دين يكفل له الحرية والسلام، ولن يجده إلا في ظل الإسلام. فكونوا -أيها المسافرون- سفراءَ لدينكم وبلادكم وأمتكم، مثِّلوا الإسلام بأحسن تمثيل، حذار أن يفهم العالم عن المسلمين وشبابهم أنهم أرباب شهوات وصرعى ملذات، بل أفهموه بسلوككم وعرفوه بأخلاقكم أنكم حملة رسالة وأرباب أعلى وأغلى هدفٍ وأشرف غاية، وأصحاب شخصية فذة وشريعة خالدة ودين يرعى العقيدة والقيم والمثل والأخلاق والفضائل، ويدير الحياة عن طريق الحق والعدل والسلام، ويبحث عما يكفل للعالم الرقي والتقدم والحضارة.
ألا فاتقوا الله عباد الله (وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ) [البقرة: 281].
اللهم انفعنا وارفعنا بالقرآن العظيم، وبارك لنا في سنة سيد المرسلين، وثبتنا على الصراط المستقيم، وأجرنا من العذاب الأليم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولكافة المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه كان عليماً غفوراً.
-----------------
[1] انظر: الغرر السافر للزركشي (ص291ـ ضمن مجلة الحكمة العدد العاشر ـ).
[2] أخرجه البخاري في الحج (1804)، ومسلم في الإمارة (1927) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.
[3] أخرجه البخاري في الحج (1862)، ومسلم في الحج (1341) من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما -.
[4] كتاب الزكاة، باب: قبول الصدقة من الكسب الطيب وتربيتها (1015).
الخطبة الثانية:
الحمد لله تعاظم ملكوته فاقتدر، وعزَّ سلطانه فقهر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له أمرنا بتقواه في الحضر والسفر، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله الشافع المشفع في المحشر، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه السادة الغُرر، والتابعين ومن تبعهم بإحسان ما اتصلت عين بنظر، وأذن بخبر، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة، وعليكم بالجماعة، فإن يد الله مع الجماعة، وإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية.
أيها الإخوة في الله، إن من التحدّث بنعم الله وشكر آلائه سبحانه ما حَبا الله بلادنا الطيبة المباركة حرسها الله من مقوماتٍ شرعية وتأريخية وحضارية تجعلها مؤهلةً لتكون بلد السياحة النظيفة النقية، فهي بإذن الله قادرة على إعطاء مفهوم صحيح ووجه مشرق للسياحة التي خُيِّل لبعض المفتونين أنها صناعة الفجور والانحلال والفسق والضلال. أوليس الله قد منَّ على بلادنا بالحرمين الشريفين مهوى أفئدة المسلمين ومحطِّ أنظارهم في العالمين؟! شعائرُ الإسلام فيها ظاهرة، وأنوار التوحيد في سمائها باهرة. أوليست بلادنا تنعَم بحمد الله بالأجواء الممتعة المتنوعة والأماكن الخلابة المتعددة التي تشكِّل منظومة متألقة يقل نظيرها في العالم؟! فمن البقاع المقدسة إلى الشواطئ الجميلة والبيئة النظيفة السليمة من أمراض الخضارة المادية وإفرازاتها الحسية والمعنوية، إلى الجبال الشم الشاهقة ذات المنظر الجميل والهواء العليل والأودية الخلابة والأماكن الجذابة، مروراً بالمصائف الجميلة والصحاري الممتدة ذات الرمال الذهبية العجيبة، يتنقل المرء في روابيها، ويتنزه في نواحيها، يسعد في أجوائها، ويسافر إلى جميع أنحائها، فلا بأس بإدخال الفرح على الأهل والأولاد في سفر مباح في محيطها المبارك، أو اصطحابهم إلى بيت الله الحرام في عمرة أو إلى مسجد رسول الله في زيارة، وفي سياحة مشروعة بريئة، توصَل فيها الأرحام، وتحصل فيها الراحة والاستجمام، مع المحافظة على الخير والفضيلة، والبعد عن أسباب الشر والرذيلة.
وأهم من هذه المقومات المادية والحسية المقومات المعنوية والمميِّزات الحضارية الشرعية والخصائص الإسلامية والآداب الأصيلة العربية التي تحكي عبق التأريخ والحضارة المعطَّرة بالإيمان الندية بالمروءة والإحسان.
في بلادنا السياحة الروحانية والنزهة الربانية والمتعة الإيمانية، فهل بعد ذلك يستبدل بعض الناس الذي هو أدنى بالذي هو خير؟! في تأثيرات عقدية وثقافية، وانحرافات فكرية وأخلاقية وسلوكية، ومخاطر أمنية، وأمراض صحية ووبائية، مما لا يخفى أمره على ذوي الحجى، ولا يغيب عن أولي النهي، وبذلك يتحقق لمن ينشدون الطهر والعفاف والفضيلة والنقاء والخير والحياء والصفاء التمتع بأجواء سياحية مباحة، ويُسَد الطريق أمام الأبواق الناعقة والأقلام الحاقدة التي تسعى لجر هذه البلاد المباركة إلى ما يُفقدها خصائصها ومميزاتها ويخدش أصالتها وثوابتها.
ألا فلنشكر الله على نعمه وآلائه، ولنحافظ عليها بطاعته واتباع أوامره واجتناب نواهيه، حفظ الله لهذه البلاد عقيدتها وقيادتها وأمنها وإيمانها، وحماها من كيد الكائدين وسائر بلاد المسلمين بمنه وكرمه.
وأخيراً أيها الإخوة المسافرون، إذا قضى أحدكم نهمته من سفره فليعُد إلى أهله وبلده، آيبون تائبون عابدون لربنا حامدون.
وختاماً أيها المسافرون، نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، نستودع الله دينكم وأمانتكم وخواتيم أعمالكم، ونسأل الله أن يحفظنا وإياكم في الحلِّ والترحال، وأن يعيدكم إلى أهلكم سالمين غانمين مأجورين غير مأزورين، إنه خير المسؤولين، وأكرم المأمولين.
ألا وصلوا وسلموا -رحمكم الله- على خير من أقام وسافر، وجاهد وهاجر، النبي المصطفى، والرسول المجتبى، إمام المتقين، وأفضل المقيمين والمسافرين، كما أمركم بذلك ربكم رب العالمين، فقال تعالى قولاً كريماً: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً) [الأحزاب: 56].
اللهم صل وسلم وبارك على نبينا وحبيبنا وقدوتنا وسيدنا محمد.
عبد الرحمن بن عبدالعزيز السديس
إمام وخطيب المسجد الحرام بمكة المكرمة.
- التصنيف:
- المصدر: