حجابي أخفى جمالي!
أجابت والحيرة لا تفارقها والفكرة ما زالت تائهة في فضاء إدراكها: "أماه، هي الحياة التي أردتها! والسعادة التي أبحث عنها.. ولكني ما وجدتها! ما وجدت السعادة في أيٍ من الملهيات أو اللباس أو غيرها؛ لماذا؟! أردت أن أكون حرّة وأعيش سعيدة! ولكن أين أنا من كل ما تمنيت؟.
كعادتها كانت الأم تهيئ طعام الغداء بانتظار عودة أبنائها من المدرسة، فما هي إلا لحظات ويصلون واحداً تلو الآخر، خلال دقائق اجتمع أفراد العائلة حول المائدة ما عدا فريدة التي تأخرت في ذلك اليوم من غير سابق إعلام، ولم يكن من عادتها أن تتأخر، وحين حاولت الاتصال بها جاء الرد بأن الرقم خارج التغطية.
بدأ القلق يتسلل إلى قلب الأم على ابنتها.. ترى أين هي الآن؟! لماذا لم تتصل؟! هل أصاب ابنتي مكروه؟! ومرت دقائق توقف فيها الزمن عن الدوران في خلد الأم وحار في أي مكان يستقر.
وإذ بالباب يُفتح فتنفرج أسارير الوالدة للحظات قبل أن تصعق من هول ما رأت! أي حادثة وقعت لابنتي الحبيبة؟! ما الذي أحالها إلى هذا المنظر؟! اللهمّ الْطُف بنا! وتُبادر ابنتَها بالتحية مجاهدة ألا تكون كلماتها طلقاتٍ تقتل أو سُمّاً يُردي: أهلاً حبيبتي!! أرى أنكِ قد فقدت شيئاً في طريق عودتك؟.
ولم يكن الأب أقل دهشة من الأمّ، فكيف لابنته أن تتبدل بهذا الشكل؟! “لماذا يا بنتي؟! لماذا فعلت هذا؟!.
ردت "فريدة" بنار تكاد تحرق وداً وتعبث بروابط العائلة فيستحيل الهدوء إلى ضجيج والسكينة إلى اضطراب والقرب إلى بعد والمعلوم إلى مجهول: "من أنتم حتى تسألوني؟! ولماذا تستغربون من تصرفي؟! ألست حرة في حياتي؟! ألسنا نعيش في بلد الحرية الشخصية؟! أخيراً... الكابوس انتهى!!! " ألقت كلماتها متتابعة وانبرت تعبث بشعرها بعدما أرخته على ظهرها وألقت بحجابها في رياح الغرب العابثة بفكرها.
أي كابوس هذا الذي تتحدثين عنه؟ ونحن والداك اللذان حرصا على تأمين أفضل حياة لك ولإخوتك، فأتينا إلى هذا البلد مخلفين وراءنا وطناً وأهلاً وأصحاباً.. وبأفضل المدارس أدخلناكم لتتعلموا فيها علوم الدنيا ومعارفها"... بصوت الغضب كانت الكلمات تخرج من حنجرة الوالد المصعوق.
هذا واجبكم، أولستم من أتى بنا إلى هذه الدنيا؟! فهل يحق لكم عندها أن تجعلوا منّا صوراً تتحرك كيفما تشاؤون وأن تُلبِسونا الزي الذي ترغبون؟! لماذا عليّ أن أضع فوق رأسي ما يخفي جمالي؟!.
كم كنت بسيطة وساذجة! كيف استطعت أن أخفي جمالي كل هذه السنوات؟! كيف كنت أخرج من البيت؟! كيف كنت أتحدث إلى زملائي ورفيقاتي؟! بل كيف كانوا يحدثونني وأنا على تلك الحال؟! كيف كانوا ينظرون إلي؟! لست أدري! ولكن مهما كان الماضي، فقد انتهى... وهأنذا كما أحب أن أكون! فمن سيقيدني بعد منكما؟ وتعلو فوق ثغرها ابتسامة ساخرة.
هل تسمين الحجاب سجناً؟ أليس الحجاب صوناً؟.
طبعاً لا أظنه صوناً! فالفتاة تستطيع أن تحافظ على نفسها إذا كانت مؤدبة! وبالنسبة لي، فأنا الآن فقط أشعر أنني أتنفس بحرية تامة وبعشق للحياة، وقد كنت قبل ذلك أعيش في ضيق وغربة.
لن يمنعني بعد اليوم هذا الشيء المسمى بالحجاب من التمتع بكل ملذّات الدنيا، انتهى ذلك العهد، ولن يهمني ما تقول يا أبي ولن أصغي لما ستقوله أمي ولن أكترث لنظرة الأهل والأقارب، فلا أحد يملك سلطة علي في هذا البلد الذي تحفه الحريات من جميع جوانبه.. ولن يستطيع أحد معارضتي.
نحن لسنا في بلد شرقي ينادي بقوامة الرجل، هنا الأمر مختلف تماماً؛ فالكلمة والسلطة لي.. لن يمنعني مما أفعل أي أحد.. وإن تجرأ أحد فأنتم تعلمون أني سأترك البيت وأغادركم إلى مكان لا تصلون به إلي! فاتركوني وحالي ولا تزعجوني بكل تلك الكلمات التافهة: القيم والمبادئ والأعراف والتقاليد والدين.. ضجرت من تكرار ذلك السيناريو الذي لا ينتهي.. أريد أن أعيش حياتي.
أمام ذلك كله لم يكن أمام الوالدين إلا أن يصمتا ويخفيا البركان الذي يغلي في صَدريْهما خشية أن ينفجر ويدمر كل شيء في طريقه، مراعين وجودهما في بلد أجنبي في قانونه حماية التفلُّت تحت مسمّى الحرية.
وتمر الأيام ثقيلة على الوالدين وكأنهما يحملان جبالاً؛ فابنتهما الغالية تائهة التفكير، مخطئة في السلوك والتعبير، متجاهلة الحزن الذي خيم على والديها، متجنبة الحديث معهما إلا في ما ييسر لها أمور معيشتها.
إلى أن كانت تلك الليلة التي عادت فيها فريدة شاحبة اللون وكأنها رأت الجان في يقظتها فسلبها شيئاً من روحها، فدخلت إلى غرفتها وتركت الباب مفتوحاً يستدعي قلباً حنوناً.
لم تتردد الأم في تلبية الرجاء الخفي الذي سمعه فؤادها، فاستأذنت ودخلت لتجد مهجتها قد كساها الحزن من حلله حتى بدت شبحاً مصوراً في هيئة فتاة بائسة، فاحتضنتها وقبلت جبينها ومسحت الدمع من مقلتيها وخاطبتها بحبٍ ولهفة: "أي بنيتي! لم الحزن؟! ألست سعيدة في حياتك.
أجابت والحيرة لا تفارقها والفكرة ما زالت تائهة في فضاء إدراكها: "أماه، هي الحياة التي أردتها! والسعادة التي أبحث عنها.. ولكني ما وجدتها! ما وجدت السعادة في أيٍ من الملهيات أو اللباس أو غيرها؛ لماذا؟! أردت أن أكون حرّة وأعيش سعيدة! ولكن أين أنا من كل ما تمنيت؟.
أنت هنا يا بنتي...في قلبي، ولك الحق في التفكير والتعبير، وأسدل الليل ظلاله مودعاً صفحة من الجفاء متهيئاً لاستقبال فجر يوم جديد.
ميمونة شرقية
- التصنيف:
- المصدر: