القرامطة

منذ 2015-01-21

"أخبرني بعض أصحابنا: أنه كان بمكة في الوقت الذي دخلها أبو طاهر القرمطي ونهبها وسلب البيت وقلع الحجر الأسود والباب، وقتل المسلمين في الطواف، وفي المسجد، وعمل تلك الأعمال العظيمة...."

قال ابن الجوزي في كتابه (المنتظم في تاريخ الملوك والأمم) (الطبعة الأولى بمطبعة دائرة المعارف العثمانية بحيدر أباد الدكن سنة 1357هـ، ج 6 ص 222) في حوادث سنة ثلاثمائة وسبع عشرة: "وفيها بذرق الحاج (أي: قاد الحاج) منصور الديلمي وسلموا في طريقهم، فلما وصلوا إلى مكة وافاهم أبو طاهر الهجري إلى مكة يوم التروية، فقتل الحجاج في المسجد الحرام، وفي فجاج مكة، وقتلهم في البيت قتلاً ذريعًا، وكان الناس في الطواف وهم يقتلون، وكان في الجماعة علي بن بابويه يطوف، فلما قطع الطواف ضربوه بالسيوف، فلما وقع أنشد: 

تَرَى المُحِبِّينَ صَرْعَى فِي دِيَارِهِمُ *** كَفِتْيَةِ الكَهْفِ لاَ يَدْرُونَ كَمْ لَبِثُوا 

واقتلع الهجري الحجر الأسود، وقلع قبة بئر زمزم، وعرى الكعبة، وقلع باب البيت، وأصعد رجلاً من أصحابه؛ ليقلع الميزاب، فتردى الرجل على رأسه ومات، وقتل أمير مكة، وأخذ أموال الناس، وطرح القتلى في بئر زمزم، ودفن باقيهم في مصارعهم وفي المسجد الحرام من غير أن يصلى عليهم، وانصرف إلى بلده، وحمل معه الحجر الأسود، فبقي عندهم أكثر من عشرين سنة إلى أن ردوه".

ثم روى ابن الجوزي بسنده إلى أبي الحسين عبدالله بن أحمد بن عياش القاضي، قال: "أخبرني بعض أصحابنا: أنه كان بمكة في الوقت الذي دخلها أبو طاهر القرمطي ونهبها وسلب البيت وقلع الحجر الأسود والباب، وقتل المسلمين في الطواف، وفي المسجد، وعمل تلك الأعمال العظيمة، قال: فرأيت رجلاً قد صعد البيت؛ ليقلع الميزاب، فلما صار عليه سقط، فاندقت عنقه، فقال القرمطي: لا يصعد إليه أحد ودعوه، فترك الميزاب، ولم يقلع، ثم سكنت الثائرة بعد يوم أو يومين، قال: فكنت أطوف بالبيت فإذا بقرمطي سكران، وقد دخل المسجد بفرسه، فصفر له حتى بال في الطواف، وجرد سيفه ليضرب به من لحق وكنتُ قريبًا منه، فعدوت، فلحق رجلاً كان إلى جنبي فضربه فقتله، ثم وقف وصاح: يا حمير، أليس قلتم في هذا البيت من دخله كان آمنًا، وقد قتلته الساعة بحضرتكم؟".

قال: "فخشيت من الرد عليه أن يقتلني، ثم طلبت الشهادة، فجئت حتى لصقت به، وقبضت على لجامه، وجعلت ظهري مع ركبتيه؛ لئلا يتمكَّن من ضربي بالسيف، ثم قلت: اسمع، قال: قل، قلتُ: إنَّ الله عز وجل لم يردْ أن من دخله كان آمنًا، إنما أراد مَن دخله فأمنوه، وتوقعت أن يقتلني، فلوى رأس فرسه، وخرج من المسجد، وما كلمني".

ثم قال ابن الجوزي: "قال المحسن: وحدثني أبو أحمد الحارثي، قال: أخبرني رجل من أصحاب الحديث أسرته القرامطة سنة الهبير، واستعبدته سنين، ثم هرب منها لما أمكنه، قال: كان يملكني رجل منهم يسومني سوء العذاب، ويستخدمني أعظم خدمة، ويعربد علي إذا سكر، فسكر ليلة وأقامني حياله، وقال: ما تقول في محمد هذا صاحبكم؟ قلت: لا أدري، ولكن ما تعلمني أيها المؤمن أقوله، قال: كان رجلاً سائسًا، فما تقول في أبي بكر؟ قلت: لا أدري، قال: كان رجلاً ضعيفًا مهينًا، فما تقول في عمر؟ قلت: لا أدري، قال: كان والله فظًّا غليظًا، فما تقول في عثمان؟ قلت: لا أدري، قال: كان جاهلاً أحمق، فما تقول في علي؟ قلت: لا أدري، قال: كان ممخرقًا، أليس يقول: إن هذا علمًا لو أصبت له حملة، أما كان في ذلك الخلق العظيم بحضرته من يودع كل واحد منهم كلمة حتى يفرغ ما عنده، هل هذه إلا مخرقة؟ ونام، فلما كان من غد دعاني، فقال: ما قلت لك البارحة؟ فأريته أني لم أفهمه، فحذَّرَني من إعادته والإخبار عنه بذلك، فإذا القوم زنادقة لا يؤمنون بالله، ولا يُفَكِّرُون في أحد من الصحابة".

قال المحسن: "ويدل على هذا أن أبا طاهر القرمطي دخل الكوفة دفعات، فما دخل إلى قبر علي عليه السلام واجتاز بالحائر فما زار الحسين، وقد كانوا يمخرقون بالمهدي، ويوهمون أنه صاحب المغرب، ويراسلون إسماعيل بن محمد صاحب المهدية المقيم بالقيروان.

ومضت منهم سرية مع الحسن بن أبي منصور بن أبي سعيد في شوال سنة ستين وثلاثمائة، فدخلوا دمشق في ذي القعدة من هذه السنة، فقتلوا خلقًا، ثم خرجوا إلى مكة فقتلوا واستباحوا".


وقال ابن الأثير في كتابه (الكامل في التاريخ) (ج 6 صفحة 203 نشر إدارة الطباعة المنيرية لصاحبها محمد منير الدمشقي سنة 1358 هـ) في حوادث سنة سبع عشرة وثلاثمائة: "ذكر مسير القرامطة إلى مكة، وما فعلوه بأهلها وبالحجاج، وأخذهم الحجر الأسود:

حج بالناس في هذه السنة منصور الديلمي، وسار بهم من بغداد إلى مكة، فسلموا في الطريق، فوافاهم أبو طاهر القرمطي بمكة يوم التروية، فنهب هو وأصحابه أموال الحجاج وقتلوهم حتى في المسجد الحرام وفي البيت نفسه، وقلع الحجر الأسود، ونفذه إلى هجر، فخرج إليه ابن محلب أمير مكة في جماعة من الأشراف، فسألوه في أموالهم، فلم يشفعهم فقاتلوه فقتلهم أجمعين، وقلع باب البيت، وأصعد رجلاً ليقلع الميزاب، فسقط فمات، وطرح القتلى في بئر زمزم، ودفن الباقين في المسجد الحرام، حيث قتلوا بغير كفن ولا غُسل، ولا صلى على أحد منهم، وأخذ كسوة البيت فقسمها بين أصحابه، ونهب دور أهل مكة، فلما بلغ ذلك المهدي أبا محمد عبيدالله العلوي بإفريقية، كتب إليه ينكر عليه ذلك، ويلومه ويلعنه ويقيم عليه القيامة، ويقول: قد حققت على شيعتنا ودعاة دولتنا اسم الكفر والإلحاد بما فعلته، وإن لم ترد على أهل مكة وعلى الحجاج ما أخذتَ منهم وترد الحجر الأسود إلى مكة، فأنا بريء منك في الدنيا والآخرة، فلما وصله هذا الكتاب أعاد الحجر الأسود - على ما سنذكره - واستعاد ما أمكنه من الأموال من أهل مكة فرده، وقال: إن الناس اقتسموا كسوة الكعبة وأموال الحجاج ولا أقدر على منعهم".

قال ابن جرير في كتابه (تاريخ الأمم والملوك) في حوادث سنة 312هـ: "وفي ذي القعدة من هذه السنة، قدم خلق كثير من الخراسانية إلى مدينة السلام للحج، واستعدوا بالخيل والسلاح، فأخرج السلطان القافلة الأولى مع جعفر بن ورقاء، وكان أمير الكوفة يومئذ، فوقع إليه خبر القرمطي وتحركه مرتصدًا للقوافل، فأمر جعفر الناس بالتوقف والمقام حتى يتعرف حقائق الأخبار.

وتقدم جعفر في أصحابه، ومن خف وتسرع من الحاج، فلما قرب من زبالة اتبعه الناس، وخالفوا أمره، فوجدوا أصحاب الجنابي مقيمين، ينتظرون موافاة القوافل، وقد منعوا أن يجوزهم أحد يخبر بخبرهم، فلما رأوه ناوشوه القتال، ثم حال بينهم الليل، وخلص ابن ورقاء بنفسه، وقُتل خلقٌ كثير ممن كان معه، وترك الحاج المتسرعة جمالهم ومحاملهم، وفروا راجعين إلى الكوفة، واتبعهم القرمطي.

وكان بالكوفة جني الصفواني، وثمل الطرسوسي وطريف السبكري، فاجتمعوا واجتمع إليهم بنو شيبان، فحاربوا القرمطي عشية، فقاموا له، وانتصفوا منه، ثم باكرهم بالغدو، فهزمهم وأسر جنيًّا الصفواني، وقتل خلقًا من الجند، وانهزم الباقون إلى بغداد، وأقام القرامطة بالكوفة، وأخذوا أكثر ما كان في الأسواق، وقلعوا أبواب حديد كانت بالكوفة، ثم رحل إلى البحرين، وبطل الحج من العراق في هذه السنة، وصح حج أهل مصر والشام".

وقال ابن جرير في كتابه (تاريخ الأمم والملوك) (ج 13 ص 70 طبعة دار القاموس الحديث للطباعة والنشر ببيروت) في حوادث سنة 316هـ: "ذكر الحوادث التي أحدثها القرامطة بمكة وغيرها: 

وفي هذه السنة سار الجنابي القرمطي لعنه الله إلى مكة، فدخلها وأوقع بأهلها عند اجتماع الموسم وإهلال الناس بالحج، فقتل المسلمين بالمسجد الحرام، وهم متعلقون بأستار الكعبة، واقتلع الحجر وذهب به، واقتلع أبواب الكعبة وجرَّدها من كسوتها، وأخذ جميع ما كان فيها من آثار الخلفاء التي زينوا بها الكعبة، وذهبوا بدرة اليتيم، وكانت تزن فيما ذكر أهل مكة أربعة عشر مثقالاً، وبقرطي مارية، وقرن كبش إبراهيم، وعصا موسى، ملبسين بالذهب، مرصعين بالجوهر، وطبق ومكبة من ذهب، وسبعة عشر قنديلاً كانت بها من فضة، وثلاثة محاريب فضة، كانت دون القامة منصوبة في صدر البيت، ثم رد الحجر بعد أعوام، ولم يرد من سائر ذلك شيء.

وقيل: إن الجنابي لعنه الله صعد إلى سطح الكعبة؛ ليقلع الميزاب، وهو من خشب ملبس بذهب، فرماه بنو هذيل الأعراب من جبل أبي قبيس بالسهام، حتى أزالوهم عنه، ولم يصلوا إلى قلعه".

وقال ابن الجوزي في كتابه (المنتظم في تاريخ الملوك والأمم) (ج 6 صفحة 218) في حوادث سنة 312هـ: 

"وفيها: ضعف أمر أبي الحسن ابن الفرات، وكان السبب أنه ورد الخبر في محرم هذه السنة بأن أبا طاهر بن أبي سعيد الجنابي ورد إلى الهبير لتلقي الحاج سنة إحدى عشرة وثلاثمائة في رجوعهم، وأوقع ببعض الحاج، ومضى بعضهم على غير الطريق، فعارضهم أبو طاهر وقاتلهم يوم الأحد لاثنتي عشرة ليلة بقيت من المحرم سنة اثنتي عشرة، فقتل منهم قتلاً مسرفًا، وأسر أبا الهيجاء عبدالله بن حمدان، وكان إليه الكوفة وطريق مكة وبذرقة الحاج (قيادة الحاج)، وأسر معه جماعة من خدم السلطان وأسبابه، وأخذ جمال الحاج، وسبى من اختار من النساء والرجال والصبيان، وسار بهم إلى هجر، وترك باقي الحاج في مواضعهم بلا جمال ولا زاد، وكانت سن أبي طاهر في ذلك الوقت سبع عشرة سنة، فمات أكثر الحاج بالعطش والحفاء، وحصل له ما حرز من الأموال ألف ألف دينار، ومن الأمتعة والطيب وغير ذلك بنحو ألف ألف، وكان جميع عسكره نحوًا من ثمانمائة فارس، ومثلهم رجالة، فانقلبت بغداد، وخرجت النساء منشورات الشعور، مسودات الوجوه، يلطمن ويصرخن في الشوارع، وانضاف إليهن حرم المنكوبين الذين نكبهم ابن الفرات، وكانت صورة شنيعة، فركب ابن الفرات إلى المقتدر وحدثه الحال، فقال له نصر الحاجب: الساعة تقول: أي شيء الرأي؟ بعد أن زعزعت أركان الدولة، وعرضتها للزوال بإبعادك مؤنس المظفر الذي يناضل الأعداء، ومن الذي أسلم رجال السلطان وأصحابه إلى القرمطي سواك؟ وأشار نصر على المقتدر بمكاتبة مؤنس بالتعجيل إلى الحضرة، فأمر أن يكتب إليه بذلك، ووثب العامة على ابن الفرات فرجمت طيارته بالآجر، ورجمت داره، وصاحوا: يا ابن الفرات القرمطي الكبير، وامتنع الناس من الصلاة في الجوامع، ثم قبض على ابن الفرات وابنيه وأسبابه، وحمل إلى دار نازوك والعامة يضربونه بالآجر، ويقولون: قد قبض على القرمطي الكبير، وأخذ خطه بألفي ألف دينار، وكان ابنه المحسن يخرج في زي النساء، فغمز عليه فأخذ وكتب خطه بثلاثة آلاف ألف دينار، وقتل ابن الفرات وولده المحسن ووزر أبو القاسم عبدالله بن محمد الخاقاني.

وورد كتاب من محمد بن عبدالله الفارقي من البصرة؛ يذكر أن كتاب أبي الهيجاء عبدالله بن حمدان ورد عليه من هجر، وأنه كلم أبا طاهر في أمر مَن كان استأسر من الحاج، وسأل إطلاقهم، وأنه أحصى من قتله منهم، فكانوا من الرجال ألفين ومائتين وعشرين، ومن النساء نحو خمسمائة امرأة، ووعد بإطلاقهم.

ثم وردت الأخبار بورود طائفة إلى البصرة إلى أن كان آخر من أطلق منهم أبو الهيجاء في جماعة من أصحاب السلطان، وقدم معهم رسول من أبي طاهر؛ يسأل الإفراج له عن البصرة والأهواز، فأنزل وأكرم وأقيمت له الأنزال الواسعة، ولم يجب إلى ما التمس، وأنفق السلطان في خروج مؤنس إلى الكوفة ثم إلى واسط ألف ألف دينار".

وقال ابن كثير في (البداية والنهاية) (ج 11 ص 160 - 162) في حوادث سنة 317هـ، ذِكْر أخْذ القرامطة الحجر الأسود إلى بلادهم: 

"فيها خرج ركب العراق، وأميرهم منصور الديلمي، فوَصَلُوا إلى مكة سالمين، وتوالت الركوب هناك من كل مكان وجانب، فما شعروا إلا بالقرمطي قد خرج عليهم في جماعته يوم التروية، فانتهب أموالهم، واستباح قتالهم، فقَتَلَ في رحاب مكة وشعابها، وفي المسجد الحرام، وفي جوف الكعبة من الحجاج خلقًا كثيرًا، وجلس أميرهم أبو طاهر لعنه الله على باب الكعبة، والرجال تُصْرَع حوله، والسيوف تعمل في الناس في المسجد الحرام في يوم التروية، الذي هو من أشرف الأيام، وهو يقول:

أَنَا اللهُ وَبِاللهِ أَنَا *** يَخْلُقُ الخَلْقَ وَأُفْنِيهِمْ أَنَا 

فكان الناس يفرون منه، فيتعلقون بأستار الكعبة، فلا يجدي ذلك عنهم شيئًا، بل يقتلون وهم كذلك، ويطوفون فيُقتلون في الطواف، وقد كان بعض أهل الحديث يومئذ يطوف، فلما قضى طوافه أخذته السيوف، فلما وجب أنشد وهو كذلك:

تَرَى المُحِبِّينَ صَرْعَى فِي دِيَارِهِم *** كَفِتْيَةِ الكَهْفِ لاَ يَدْرُونَ كَمْ لَبِثُوا 

فلما قضى القرمطي لعنه الله أمره، وفعل ما فعل بالحجيج من الأفاعيل القبيحة، أمر أن تدفن القتلى في بئر زمزم، ودَفَنَ كثيرًا منهم في أماكنهم من الحرم، وفي المسجد الحرام، ويا حبذا تلك القتلة وتلك الضجعة، وذلك المدفن والمكان، ومع هذا لم يُغَسَّلُوا، ولم يكفنوا، لأنهم محرمون شُهداء في نفْس الأمر.

وهدم قبة زمزم، وأمر بقلع باب الكعبة، ونزع كسوتها منها، وشققها بين أصحابه، وأمر رجلاً أن يصعد إلى ميزاب الكعبة، فيقتلعه فسقط على أم رأسه فمات إلى النار، فعند ذلك انكف الخبيث عن الميزاب، ثم أمر بأن يقلع الحجر الأسود، فجاءه رجل فضربه بمثقل في يده، وقال: أين الطير الأبابيل ترميهم بالحجارة من سجيل؟ ثم قلع الحجر الأسود، وأخذوه حين راحوا معهم إلى بلادهم، فمكث عندهم اثنتين وعشرين سنة، حتى ردوه كما سنذكره في سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة، فإنا لله، وإنا إليه راجعون!

ولما رجع القرمطي إلى بلاده ومعه الحجر الأسود، وتبعه أمير مكة هو وأهل بيته وجنده، وسأله وتشفع إليه أن يرد الحجر الأسود؛ ليوضع في مكانه، وبذل له جميع ما عنده من الأموال، فلم يلتفت إليه، فقاتله أمير مكة فقتله القرمطي، وقتل أكثر أهل بيته وأهل مكة وجنده، واستمر ذاهبًا إلى بلاده ومعه الحجر وأموال الحجيج.

وقد ألحد هذا اللعين في المسجد الحرام إلحادًا لم يسبقْه إليه أحد، ولا يلحقه فيه، وسيجازيه على ذلك الذي لا يعذب عذابه أحد، ولا يوثق وثاقه أحد.

وإنما حمل هؤلاء على هذا الصنيع أنهم كفار زنادقة، وقد كانوا ممالئين للفاطميين الذين نبغوا في هذه السنين ببلاد إفريقيَّة من أرض المغرب، ويلقب أميرهم بالمهدي، وهو أبو محمد عبيدالله بن ميمون القداح، وقد كان صباغًا بسلمية، وكان يهوديًّا، فادعى أنه أسلم، ثم سافر من سلمية، فدخل بلاد إفريقية، فادعى أنه شريف فاطمي، فصدقه على ذلك طائفة كثيرة من البربر وغيرهم من الجهلة، وصارت له دولة، فملك مدينة سِجِلْماسَة، ثم ابتنى مدينة وسماها المهدية، وكان قرار ملكه بها، وكان هؤلاء القرامطة يراسلونه، ويدعون إليه ويترامون عليه، ويقال: إنهم إنما كانوا يفعلون ذلك سياسة ودولة لا حقيقة له.

وذكر ابن الأثير أن المهدي هذا كتب إلى أبي طاهر يلومه على ما فعل بمكة؛ حيث سلط الناس على الكلام فيهم، وانكشفتْ أسرارهم التي كانوا يبطنونها بما ظهر من صنيعهم هذا القبيح، وأمره بردِّ ما أخذه منها، وعوده إليها، فكتب إليه بالسمع والطاعة، وأنه قد قبل ما أشار إليه مِن ذلك.

وقد أُسر بعض أهل الحديث في أيدي القرامطة، فمكث في أيديهم مدة، ثم فرج الله عنه، وكان يحكي عنهم عجائب من قلة عقولهم، وعدم دينهم، وأن الذي أسره كان يستخدمه في أشق الخدمات وأشدها، وكان يعربد عليه إذا سكر، فقال لي ذات ليلة وهو سكران: ما تقوله في محمدكم؟ فقلت: لا أدري، فقال: كان سائسًا، ثم قال: ما تقول في أبي بكر؟ قلت: لا أدري، فقال: كان ضعيفًا مهينًا، وكان عمر فظًّا غليظًا، وكان عثمان جاهلاً أحمق، وكان علي ممخرقًا، أليس كان عنده أحد يعلمه ما ادعى أنه في صدره من العلم؟ أما كان يمكنه أن يُعَلِّم هذا كلمة وهذا كلمة؟ ثم قال: هذا كله مخرقة، فلما كان من الغد قال: لا تخبرْ بهذا الذي قلته لك أحدًا؛ ذكره ابن الجوزي في (منتظمه).

ورَوَى عن بعضهم أنه قال: كنتُ في المسجد الحرام يوم التروية في مكان للطواف، فحمل على رجل كان إلى جانبي فقتله القرمطي، ثم قال: يا حمير - ورفع صوته بذلك - أليس قلتم في بيتكم هذا: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمران من الآية:97]؟ فأين الأمنُ؟ قال: فقلتُ: أسمع جوابك، قال: نعم، قلت: إنما أراد الله فأمنوه، قال: فثنى رأس فرسه، وانصرف.

وقد سأل بعضهم ها هنا سؤالاً، فقال: قد أحل الله سبحانه - بأصحاب الفيل وكانوا نصارى ما ذكره في كتابه ولم يفعلوا بمكة شيئًا مما فعله هؤلاء، ومعلوم أن القرامطة شر من اليهود والنصارى والمجوس، بل ومن عبَدة الأصنام، وأنهم فعلوا بمكة ما لم يفعله أحدٌ، فهلا عُوجلوا بالعذاب والعقوبة، كما عوجل أصحاب الفيل؟

وقد أجيب عن ذلك: بأن أصحاب الفيل إنما عوقبوا إظهارًا لشرف البيت، ولما يُراد به من التشريف العظيم بإرسال النبي الكريم من البلد الذي فيه البيت الحرام، فلما أرادوا إهانة هذه البقعة التي يُراد تشريفها وإرسال الرسول فيها، أَهْلَكَهُم الله سريعًا عاجلاً، ولم تكن شرائع مُقررة تدل على فضله، فلو دخلوه وأخربوه لأنكرت القلوب فضله، وأما هؤلاء القرامطة فإنما فعلوا ما فعلوا بعد تقرير الشرائع، وتمهيد القواعد، والعلم بالضرورة من دين الله بشرف مكة والكعبة، وكل مؤمن يعلم أن هؤلاء قد ألحدوا في الحرم إلحادًا بالغًا عظيمًا، وأنهم من أخبث الملحدين الكافرين بما يتَبَيَّن من كتاب الله وسنة رسوله، فلهذا لم يحتج الحال إلى معاجلتهم بالعقوبة، بل أخرهم الرب تعالى ليوم تشخص فيه الأبصار، والله تعالى يمهل ويملي ويستدرج، ثم يأخذ أخْذ عزيز مقتدر، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنَّ الله ليملي للظالم، حتى إذا أخذه لم يفلتْه»، ثم قرأ قوله تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ} [إبراهيم:42]، وقال تعالى: {لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ . مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} [آل عمران:196-197]، وقال تبارك وتعالى: {نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ} [لقمان:24]، وقال تعالى: {مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ} [يونس:70].

وذكر ابن الجوزي في (المنتظم) (ج 6 صفحة 173) في حوادث سنة إحدى عشرة وثلاثمائة:

"أن المقتدر أخرج علي بن محمد بن الفرات، فقلده الوزارة يوم الخميس لتسع بقين من ربيع الآخر، وخلع عليه وعلى ابنيه المحسن والحسين، وقطع وأقطع الدار بالمخرم، وجلسوا للهناء، وأخذ ابن الفرات حامد بن العباس فصادره، وأخذ خطه بألف ألف دينار وثلاثمائة ألف دينار، وصادر مؤنسًا خادم حامد على ثلاثين ألف دينار، ورُوسل علي بن عيسى أن يقرر بأمواله، فكتب أنه لا يقدر على أكثر من ثلاثة آلاف دينار، فأخذه المحسن ولد ابن الفرات، وألبسه جبة صوف وأهانه، وناله بالأذى الفاحش حتى استخرج منه اليسير.

وورد الخبر في ربيع الآخر بدخول أبي طاهر سليمان بن الحسن الجنابي إلى البصرة سحر يوم الاثنين، لخمس بقين من ربيع الآخر في ألف وسبعمائة رجل، وأنه نصب سلاليم بالليل على سورها، وصعد على أعلى السور، ثم نزل إلى البلد، وقتل البوابين الذين على الأبواب، وفتح الأبواب وطرح بين كل مصراعين حصباء ورملاً كان معه على الجمال؛ لئلا يمكن غلق الأبواب عليه، ووضع السيف في أهل البصرة، وأحرق المربد، ونقض الجامع ومسجد قبر طلحة، وهرب الناس فطرحوا أنفسهم في الماء، فغرق أكثرهم، وأقام أبو طاهر بالبصرة سبعة عشر يومًا يحمل على جماله كل ما يقدر عليه من الأمتعة والنساء والصبيان، وخرج منها بما معه يوم الخميس لاثني عشرة ليلة خلت من جمادى الآخرة، وولى منصرفًا إلى بلده".

قال ابن كثير في البداية والنهاية في حوادث سنة 339هـ:

"في هذه السنة المباركة في ذي القعدة منها رُد الحجر الأسود إلى مكانه في البيت، وقد كانت القرامطة أخذوه في سنة سبع عشرة وثلاثمائة - كما تقدم - وكان ملكهم إذ ذاك أبو طاهر سليمان بن أبي سعيد الجنابي، ولما وقع هذا أعظم المسلمون ذلك جدًّا، وقد بذل لهم الأمير بَجْكَم التركي خمسين ألف دينار على أن يردوه إلى موضعه، فلم يقبلوا، وقالوا: نحن أخذناه بأمر، فلا نرده إلا بأمر من أخذناه بأمره.

فلما كان في هذا العام حملوه إلى الكوفة، وعلقوه على الأُسْطوانة السابعة من جامعها؛ ليراه الناس، وكتب أخو أبي طاهر كتابًا فيه: إنا أخذنا هذا الحجر بأمر، وقد رددناه بأمر من أمرنا بأخذه؛ ليتم حج الناس ومناسكهم، ثم أرسله إلى مكة بغير شيء على قعود، فوصل في ذي القعدة من هذه السنة، ولله الحمد والمنة، وكان مدة مقامه عنده اثنتين وعشرين سنة، ففرح المسلمون لذلك فرحًا شديدًا.

وقد ذكر غير واحد أن القرامطة لما أخذوه حملوه على عدة جمال، فعطبت تحته، واعترى أسنمتها القرح، ولما ردوه حمله قعود واحد ولم يصبه أذى".

قال ابن كثير في حوادث سنة 332هـ (ج 11 صفحة 208):

"وفي رمضان من هذه السنة، كانت وفاة أبي طاهر سليمان بن أبي سعيد الحسن الجنابي الهجَري القرمطي، رئيس القرامطة قبحه الله وهذا هو الذي قتل الحجيج حول الكعبة وفي جوفها، وسلبها كسوتها، وأخذ بابها وحليتها، واقتلع الحجر الأسود من موضعه وأخذه معه إلى بلده هجر، فمكث عنده من سنة سبع عشرة وثلاثمائة ثم مات قبحه الله - وهو عندهم، لَم يردوه إلى سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة كما سيأتي.

ولما مات هذا القرمطي، قام بالأمر من بعده إخوته الثلاثة، وهم: أبو العباس الفضل، وأبو القاسم سعيد، وأبو يعقوب يوسف، بنو أبي سعيد الجنابي.

وكان أبو العباس ضعيف البدن، مقبلاً على قراءة الكتب، وكان أبو يعقوب مقبلاً على اللهو واللعب، ومع هذا كانت كلمة الثلاثة واحدة، لا يختلفون في شيء، وكان لهم سبعة من الوزراء متفقون أيضًا".

وقال ابن الأثير في (الكامل) ج6 صفحة 335 في حوادث سنة 339هـ، ذكر إعادة القرامطة الحجر الأسود:

"في هذه السنة أعاد القرامطة الحجر الأسود إلى مكة، وقالوا: أخذناه بأمر، وأعدناه بأمر، وكان بجكم قد بذل لهم في رده خمسين ألف دينار، فلم يجيبوه، وردوه الآن بغير شيء في ذي القعدة، فلما أرادوا رده حملوه إلى الكوفة، وعلقوه بجامعها حتى رآه الناس، ثم حملوه إلى مكة، وكانوا أخذوه من ركن البيت الحرام سنة سبع عشرة وثلاثمائة، وكان مكثه عندهم اثنتين وعشرين سنة".

"وكانت إقامة القرامطة بمكة أحد عشر يومًا، فلما عاد القرمطي إلى بلاده رماه الله تعالى في جسده حتى طال عذابه، وتقطعتْ أوصاله وأطرافه، وهو ينظر إليها، وتناثر الدود من لحمه" (نسب الأستاذ عبدالوهاب النجار في تعليقاته على كتاب "الكامل"؛ لابن الأثير ج6 ص203، ذلك إلى ابن كثير، ولم أجده في تاريخ ابن كثير، بل إن ابن كثير ذكره نقلاً عن ابن الأثير: أن عبيدالله بن ميمون القداح الملقب بالمهدي قد كتب إلى أبي طاهر القرمطي يلومه على ما فعل بمكة، ويأمره برد ما أخذ فأجابه بالسمع والطاعة).

وقال ابن خلدون في كتاب (العبر وديوان المبتدأ والخبر) (ج4 ص 191 - 192):

"وفي سنة سبع عشرة هجم على مكة (يقصد أبا طاهر القرمطي)، وقتل كثيرًا من الحجاج ومن أهلها، ونهب أموالهم جميعًا، وقلع باب البيت والميزاب، وقسم كسوة البيت في أصحابه، واقتلع الحجر الأسود وانصرف به، وأراد أن يجعل الحج عنده، وكتب إليه عبيدالله المهدي من القيروان يوبخه على ذلك ويتهدده، فكتب إليه بالعجز عن رده من الناس، ووعد برد الحجر، فرده سنة تسع وثلاثين، بعد أن خاطبه منصور بن إسماعيل من القيروان في رده فردوه، وقد كان بجكم المتغلب على الدولة ببغداد أيام المستكفي بذل لهم خمسين ألفًا من الذهب على أن يردوه، فأبوا وزعموا أنهم إنما حملوه بأمر إمامهم عبيدالله، وإنما يردونه بأمره، وأمر خليفته وأقام أبو طاهر بالبحرين، وهو يتعاهد العراق والشام بالغزو، حتى ضربت له الإتاوة ببغداد وبدمشق على بني طنج، ثم هلك أبو طاهر سنة اثنتين وثلاثين لإحدى وثلاثين سنة من ملكه، ومات عن عشرة من الولد، كبيرهم سابور، وولي أخوه الأكبر أحمد بن الحسن، واختلف بعض العقدانية عليه، ومالوا إلى ولاية سابور بن أبي طاهر، وكاتبوا القائم في ذلك، فجاء جوابه بولاية الأخ أحمد، وأن يكون الولد سابور ولي عهده، فاستقى أحمد في الولاية عليهم، وكنوه أبا منصور، وهو الذي رد الحجر الأسود إلى مكانه كما قلناه.

ثم قبض سابور على عمه أبي منصور، فاعتقله بموافقة إخوته على ذلك، وذلك سنة ثمان وخمسين، ثم ثار بهم أخوه فأخرجه من الاعتقال، وقتل سابور، ونفى إخوته وأشياعهم إلى جزيرة أوال، ثم هلك أبو منصور سنة تسع وخمسين، يقال: مسمومًا على يد شيعة سابور، وولي ابنه أبو علي الحسن بن أحمد، ويلقب الأعصم، وقيل: الأغنم، فطالت مدته، وعظمت وقائعه، ونفى جمعًا كثيرًا من ولد أبي طاهر؛ يقال: اجتمع منهم بجزيرة أوال نحو من ثلاثمائة، وحج هذا الأعصم بنفسه، ولم يتعرض للحاج، ولا أنكر الخطبة للمطيع".

ولما اقتلع أبو طاهر القرمطي الحجر الأسود، قال شعرًا يدل على عظيم زندقته، وهو:

فَلَوْ كَانَ هَذَا البَيْتُ للهِ رَبِّنَا *** لَصَبَّ عَلَيْنَا النَّارَ مِنْ فَوْقِنَا صَبَّا 
لِأَنَّا حَجَجْنَا حَجَّةً جَاهِلِيَّةً *** مُحَلَّلَةً لَمْ تَبْقَ شَرْقًا وَلاَ غَرْبَا 
وَإِنَّا تَرَكْنَا بَيْنَ زَمْزَمَ وَالصَّفَا *** جَبَابِرَ لاَ تَبْغِي سِوَى رَبِّهَا رَبَّا 

قال الأستاذ عبدالوهاب النجار في تعليقاته على كتاب (الكامل)؛ لابن الأثير (ج 6 صفحة 204): "وشِعْر هذا الزنديق مشْهور في التواريخ".

 

زيد بن عبدالعزيز الفياض