الوفاء والإنصاف في الناس عزيز
ولذلك صار ميل أكثر أهل العلم والفضل في مثل هذه الأحوال إلى قطع العلائق، واعتزال الخلق أنجح السبل، على نهج الأعمش لما ضجر من مخالطة الثقلاء والسفهاء
الوفاء وخلق الإنصاف بين المسلمين أصبح اليوم سلعة عزيزة نادرة، كنُدرة المسك الأذفر، والكبريت الأحمر، إذ يعز أن تجد اليوم من معادن الناس من قال فيهم علي رضي الله عنه:
إِنَّ اَخاكَ الحَقّ مَن كانَ مَعَك وَمَن يَضِرُّ نَفسَهُ لِيَنفَعَك
وَمَن إِذا ريبُ الزَمان صَدعَك شَتَّتَ فيكَ شَملَهُ لِيَجمَعَك
بل حال كثير من أهل الفضل والصلاح، ممن أفنوا أعمارهم في معالجة آفات الاجتماع الإنساني، ومعاملة الخلق، ومعاشرة أنماط عجيبة من الناس في طريق الدعوة؛ كحال الشافعي رحمه الله، الذي عانى كثيرًا من نكد أهل الزمان، وخيانة اللئام، حيث قال:
وَلَمَّا أَتَيْتُ النَّاسَ أَطْلُبُ عِنْدَهُمْ أخًا ثقةً عند ابتلاء الشدائد
تقلبتُ في دهري رخاءً وشدَّة ً وناديتُ في الأحياء هل من مساعد؟
فلم أرَ فيما ساءني غير شامت وَلَمْ أَرَ فِيما سَرَّنِي غَيْرَ حاسِدِ
وقد نبه رحمه الله إلى أن الحسد واللؤم داء وبيل، سرى كثيرًا بين أهل الدناءة والصغار؛ ممن يتمنون زوال النعم عن الخلق، ولا يعترفون بفضل ﻷهل الفضل، بل يتقلبون في سراديب الخسة والشماتة والخيانة ونكران الجميل، ولو كانوا يقتاتون من موائد الكرام.
روى شريك بن عبد الله النخعي؛ قال: "كان للأعمشِ كلبٌ يتبعه في الطريق إذا مشى، حتى يرجع، فقيل له في ذلك، فقال: رأيتُ صبيانًا يضربونه، ففرقت بينهم وبينه، فعرف ذلك لي، فشكره، فإذا رآني يبصبصُ لي ويتبعني"، قال ابن المرزبان: "ولوعاش -أيَّدك الله- الأعمش إلى عصرنا ووقتنا هذا؛ حتى يرى أهل زماننا هذا، ويسمع خبر أبي سماعة المعيطي ونظائره، لازداد في كلبه رغبةً ومحبة".
وقد صدق رحمه الله، فإن لؤم أهل هذا الزمان قد بلغ مداه والعياذ بالله، لا سيما بين أعراب العوام الذين لم يباشر الإيمان شغاف قلوبهم، وكذا المتعالمين الأدعياء، ولابسي ثياب الزور، ممن فسدت مشاربهم ومقاصدهم الدنية، وصاروا يتعثرون في أذيالها، إذ لم يجعل الله لهم حظًا في خدمة دين، أو مكرمة، أو فضيلة بين العباد.
حتى إنك ترى أسراب السفهاء المتهافتين سراعًا إلى مراتب الدنيا، لا يتوانون في التهارش، ومناوشة أهل الفضل والصلاح لبناء أمجاد لم يكتب الله لهم فيها نصيبًا على أنقاض الآخرين، ولاتكاد تجد لدى الواحد منهم مسكة من التواضع والوفاء لقيم الإسلام، أو لجيل الكرام، الذين بهم ارتقوا وتميزوا عن مخالطة البهائم، ودخلوا في عداد بني الإنسان.
بل يتسافه الواحد منهم ممن يرى نفسه ذكيًا ألمعيًا، فيتسور الجدران، ويندس بين صفوف الدعاة والصالحين، ويخالط في زمن المسكنة أهل الفضل والعلم والوجاهة، حتى إذا حصل طِلبته، ونال لعاعة من الدينا إذ كانت غايته، انقلب انقلاب الأفاعي الرقطاء، يلذغ اليد التي مدت إليه بالخير والفضل، ويلعن من آووه ونصروه، وركبوا لأجله الصعب والذلول، ليرتقي مكارم لم يكن أهلًا لها.
وإنه لحري بهؤلاء، مع ذهاب جيل الكرام، وميل الأيام إلى اللئام، أن يطالعوا ما يليق بحالهم، ويتملوا بطلعة كتاب سجل مساوئ فِعالهم، ليقفوا على أنه كان لهم سلف من أهل الخسة ودناءة النفس منذ زمن قديم، تحدث عنهم الإمام (علي بن أحمد بن المرزبان)، المتوفى سنة ست وستون وثلاثمائة من الهجرة، في كتابه النفيس (تفضيل الكلاب على كثير ممن لبس الثياب)، على ما في نسبته إليه من كلام لا يؤثر على وجود هذا النمط من الخلق في كل زمان، ممن يعيشون بلؤمهم في الدنيا لا من يأبه لهم، ثم ينزلون إلى القبر غير مأسوف عليهم.
وقد كان إبليس أول لئيم جاحد للنعم، حين جحد واستكبر ونسي آلاء المنعم سبحانه، وسار على ملته (بلعام بن باعوراء) من بني إسرائيل كما قال تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ. وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَٰكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ ۚ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ۚ ذَّٰلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا ۚ فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الأعراف:175-176].
ومن جميل ما سطره ابن المرزبان رحمه الله في هذا الكتاب قوله: "ذكرت أعزّك الله زماننا هذا، وفساد مودة أهله، وخسَّة أخلاقهم، ولُؤم طباعهم، وأن أبعد الناس سَفرًا من كان سفره في طلب أخٍ صالحٍِ، ومن حاول صاحبًا يأمن زلته ويدوم اغتباطه به كان كصاحب الطريق الحيران؛ الذي لا يزداد لنفسه إتعابًا إلا ازداد من غايته بُعدًا، فالأمر كما وصفتُ".
وقد يروى عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه أنه قال: "كان الناس ورقًا لا شوك فيه، فصاروا شوكًا لاورق فيه".
وقال بعضهم: "كنا نخاف على الإخوان كثرةَ المواعيد، وشدة الاعتذار؛ أن يخلطوا مواعيدهم بالكذب، واعتذارهم بالتزيُّد، فذهب اليوم، من يعتذر بالخير، ومات من كان يعتذرُ من الذنب".
قال لبيد:
ذهب الذين يُعاش في أكنافهم وبقيت في خلَفٍ كجلد الأجربِ
وعن بشر بن الحارث قال:
ذهب الرجال المُقتدى بفعالِهم والمُنكرونَ لكلِّ أمرٍ مُنكرِ
وبقيتُ في خلَفٍ يزيِّن بعضُهم بعضًا ليدفع معوِرٌ عن مُعوِرِ
ولذلك صار ميل أكثر أهل العلم والفضل في مثل هذه الأحوال إلى قطع العلائق، واعتزال الخلق أنجح السبل، على نهج الأعمش لما ضجر من مخالطة الثقلاء والسفهاء.
وشيخ المعرة الذي يئس من أهل زمانه، وفضل الأنس بمجالسة الصخور والأحجار، والفيء إلى الجبال والتلال في معرة النعمان، على مخالطة السفهاء، ومجالسة اللئام من بني الإنسان حيث قال:
وزهَّدني في الخلق معرفتي بهم وعلمي بأن العالمين هباء
وكان يتمثل في ذلك بفلسفة الشاعر الأحيمر، الذي استوخم الناس في بادية الشام، وخرج إلى أرض العراق، وهجر الخلائق، مستئنسًا بالذئاب بدلًا من معاشرة الخلائق فقال:
عَوى الذِئبُ فَاِستَأنَستُ بِالذِئبِ إِذ عَوى وَصَوَّتَ إِنسانٌ فَكِدتُ أَطيرُ
يَرى اللَهُ إِنّي لِلأَنيسِ لَكارِهٌ وَتُبغِضُهُم لي مُقلَةٌ وَضَميرُ
فَلِلَّيلِ إِن واراني اللَيلُ حكمُه وَلِلشَمسِ إِن غابَت عَلَيَّ نُذورُ
وَإِنّي لَأستَحيي مِنَ اللَهِ أَن أُرى أُجَرِّرُ حَبلاً لَيسَ فيهِ بَعيرُ
وَأَن أَسأَلَ المَرءَ اللَئيمَ بَعيرَهُ وَبَعرانُ رَبّي في البِلادِ كَثيرُ
وإن المرء مهما بالغ في الاحتياط لنفسه ودينه بعدم الأنس بالخلق لا يسلم من بلاء الحساد واللئام، ولذلك أمعن ابن المرزبان رحمه الله في بيان فضائل الكلاب، وتفوقها في الوفاء على كثير ممن لبس الثياب، وأحوج العقلاء والكرام إلى العتاب، ومما قال في ذلك: "واعلم أعزَّكَ الله أن الكلب لِمن يقتنيه، أشفق من الوالد على ولده، والأخ الشقيق على أخيه، وذلك أنّه يَحرس ربَّه، ويحمي حريمه شاهدًا وغائبًا ونائمًا ويقظانًا، لا يقصِّرُ عن ذلك وإن جَفوه، ولا يخذُلهم وإن خذلوه، ورُويَ لنا أنَّ رجلًا قال لبعض الحكماء أوصِني قال: ازهد في الدنيا ولا تُنازِع فيها أهلها، وانصح لله تعالى كنصح الكلب لأهله، فإنّهم يُجيعونه ويضربونه ويأبى إلا أن يحوطهم نصحًا".
قال الأحنف بن قيس: "إذا بصبص الكلبُ لك فثق بودٍّ منه، ولا تثق ببصابصِ الناس، فرُبَّ مبصبصٍ خوَّان".
قال الشعبي: "خير خصلةٍ في الكلب أنّه لا ينافقُ في محبَّته".
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: "كلبٌ أمين خيرٌ من إنسانٍ خؤونٍ".
وعن جعفر بن سليمان قال: "رأيت مالك بن دينار ومعه كلب، فقلت: ما هذا، قال: هذا خير من جليسِ سوء".
وقد أنشد أبو العباس الأزدي قائلًا:
لكلب الناس إن فكرت فيهم أضر عليك من كلب الكلاب
لأن الكلب تخسؤه فيخسًا وكلب الناس يربض للعتاب
وإن الكلب لا يؤذي جليسًا وأنت الدهر من ذا في عذاب
ويندر أن يتهيأ لأهل الفضل والمروءة في أي زمان من يستفيد ويفيد ودادهم بإنصاف دون غلو أو جفاء، سوى من بقية أهل الخير، ممن لا يخلو منهم عصر، ممن ارتشفوا ألبان الفضيلة والوفاء من حياض الإسلام، واتجهوا لخدمة دين الأمة، وإلا فإن الأنس برحمة الله بين شعف الجبال في أزمنة الفتن سبيل المستبصرين كما وقع ذلك للشافعي رحمه الله لما دخل مصر، وأتاه جلة أصحاب مالك، وأقبلوا عليه، ثم لما رأوه يخالف مالكًا جفوه، وتنكروا له، فأنشأ يقول:
أأنثر درًا بين سارحة النعم وأنظم منثورًا لراعية الغنم
لعمري لئن ضيعت في شر بلدة فلست مضيعًا بينهم غرر الحكم
فإن فرج الله اللطيف بلطفه وصادفت أهلًا للعلوم وللحكم
بثثت مفيدًا واستفدت ودادهم وإلا فمخزون لدي ومكتتم
ومن منح الجهال علمًا أضاعه ومن منع المستوجبين فقد ظلم
بقلم/ أبو جميل الحسن العلمي.
- التصنيف: